تعرية الطائفية لإطفاء حريقها

                                        

                       د.علي محمد فخرو*


في هذه اللحظة لا توجد قضية أخطر من قضية تأجيج الانقسامات والصراعات المذهبية الطائفية عبر أرض العرب كلها ومن دون استثناء. في هذه الأجواء المجنونة لا يمكن الحديث عن وحدة وطنية أو سلم أهلي، ولا عن تضامن على مستوى الأمة، بل ولا حتى عن أي نوع من التنمية السياسية والاقتصادية، إذ سيصعب إحــــراز تقدم معقول نحو حل أي مشكلة بدون تعرية جسد الطائفية، ومن ثم إطفاء حريقها.

لعل أحد المداخل لعمليتي التعرية والإطفاء هو إبراز سخف وعبثية الصراعات الطائفية، من خلال الرجوع لتاريخ فواجع الانقسامات والخلافات الفقهية المذهبية حتى يتبين لجيل الأمة الحالي حقيقة ما جرى في الماضي الذي يراد له، بانتهازية شيطانية، أن يحكم الحاضر والمستقبل.
لنتمعن، باختصار شديد، في بعض ما يكشف التاريخ بالنسبة للعلاقات التي وجدت في ما بين المذاهب من جهة، أو في ما بين مدارس المذهب الواحد من جهة أخرى.
ـ لقد اعتدى أصحاب المذاهب على أصحاب المذاهب الأخرى بمجرد تحقق الغلبة لهم وتربُّعهم على كرسي سلطان الحكم. فمثلما اعتدى الحكم الأموي أو العباسي السني على الشيعة، اعتدى الحكم البويهي أو الفاطمي الشيعيين على أهل السنة. لم يستطيع نظام حكم أصحاب مذهب أن يتعامل بعدل وإنصاف وتسامح مع رعايا مذهب آخر.
ـ ومثلما أخرج غوغاء أهل السنة في دمشق رجلاً متشيعاً كأبي عبدالرحمن النسائي من المسجد وداسوه حتى الموت، لأنه تجرأ ومس بكلامه الخليفة الأموي، ومثلما كان الجنود السنة في القاهرة يسألون المارة في مصر عمن يكون خالهم، فاذا لم يقولوا ان خالهم هو معاوية، ينهالون عليهم بالضّرب المبرح، فان الفاطميين في مصر عزلوا بتعسُّف كل أصحاب السنة من المناصب الحكومية وضربوا بريئاً في مصر لأنهم وجدوا عنده الموطّأ للإمام مالك، وقتلوا آخر لأنه أعلن حبه لأبي بكر وعمر.
ـ وهل يحتاج الإنسان إلى التذكير باعتداءات أصحاب مذهب المعتزلة السني على أهل السنة الآخرين بسبب ماعرف بفتنة ومحنة خلق القرآن؟ ألم يجر قتل أهل السنة الذين رفضوا القول بخلق القرآن؟ ثم لما زال حكم المأمون والمعتصم، اللذين كانا يحميان المعتزلة، جاء دور أهل السنة المظلومين للتنكيل بأهل الاعتزال الظالمين؟
ـ وفيما بين أهل السنة أنفسهم ألم يقم أتباع الإمام أحمد بن حنبل بالاعتداء على أصحاب المذهب الشافعي، بل ومنع دفن الفقية السني ابن جرير الطبري لأنه لم يعترف بابن حنبل كفقيه وإنما اعتبره محدثا؟
ـ لكن كل ذلك لا يقاس بما فعله الخوارج، باسم الإسلام، الذين أحلُّوا قتل المسلمين الذين لا يعتنقون مذهبهم، ولا يقاس بما فعله القرامطة الإسماعيليون الذين قتلوا ونهبوا حجاج بيت الله وملأوا بجثثهم بئر زمزم. هل نعجب إذن إذ نرى في أيامنا الحالية تصُّرفات الجهاديٍّين التكفيريين، الخوارج والقرامطة الجدد، وهم في سكرة القتل والنهب؟
تلك أمثلة قليلة في قائمة طويلة من الصراعات والاعتداءات والظلم والقتل في عالم المذاهب الإسلامية. جميع ذلك تمًّ باسم الإسلام، والإسلام بريء من كل ذلك. فلقد تداخلت الصًّراعات القبلية والأطماع لاقتسام الغنائم مع الادعاءات بأحقية خلافة رسول الله من هذه الجهة أو تلك، مع الكثير من تزمّت المفاهيم الفقهية القابلة في الواقع للأخذ والعطاء، مع ثقافة مجتمعية لا تمارس الحوار العقلاني الموضوعي ولا تعطي قيمة كبيرة للتسامح والاستماع للآخر.. لقد تداخل كل ذلك ليجعل من الاختلافات في وجهات النظر الاجتهادية الفقهية، التي كان من المفروض أن تكون مصدر رحمة لأتباع دين الإسلام، خلافات مغموسة بالاعيب وعنف ودموية السياسة والملك العضوض والسلطان المستبد.
وإذن فانها الثقافة المليئة بالكثير من النواقص، وإنه الحكم القبلي الاستبدادي الذي لا يعترف بحقوق وقانون وضوابط قيمية، وليس الدين ولا حتى الفقه بذاته.
نقول ذلك لأن نفس التاريخ الموجع يخبرنا، بأنه عكس ما يعتقده البعض من المتعصبين فان كبار علماء الفقه نهلوا الكثير من بعضهم بعضا، فالإمام أبو حنيفة السنٍّي أخذ عن الإمام زيد الشيعي الذي بدوره أخذ عن واصل بن عطاء المعتزلي. والإمام مالك بن أنس السنّي كان تلميذاً للإمام جعفر الصادق الشيعي. ويقال ان الإمام البخاري، أحد أهم مراجع أهل السنُّة، كان يجالس عمران بن خطان الخوارجي ليتلقى عنه الحديث ويدونه. وكان الحسن البصري، شيخ السنًّة، معجباً بعمرو بن عبيد، رأس المعتزلة، ومادحاَ لورعه وحكمته. وهناك من يؤكَّد بأن الخوارج والأباضية هم أول من جمع الأحاديث النبوية.
وإذن فمثلما كان هناك صراع عبثي كان هناك تلاقح خلاًق. من هنا استنتج أحد الباحثين الموضوعيين المرحوم الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه الرزين المعنون
بـ»إسلام بلا مذاهب» بأن ما يفرّق جماعة (مذهبية) عن جماعة أخرى لا يزيد عمّا يحدث من خلاف بين أئمة المذهب الواحد.
استنتاج مثل هذا يحتاج إلى جهة فقهية إسلامية مجتمعية مستقلة، وليست فقهية مذهبية، تضم علماء فقه من جميع المذاهب والمدارس، لتعرّي أخطاء وخطايا الماضي من جهة، ولتظهر للجيل العربي الحاضر أن ما يراه ويسمعه عن الصّراع المذهبي الطائفي لا يمتُ بصلة لدين الإسلام ولا لفقه مذاهبة، وإنما هو صراع سياسي انتهازي يؤججه ويستعمله بعض مجانين السياسة وبعض متخلفي الفقه من أجل أغراض أنانية تكمن وراء أقنعة كاذبة.
ما يحتاج شباب ثورات وحراكات الربيع العربي التركيز عليه هو حلُّ إشكاليتي الثقافة المجتمعية والسياسية. فالأولى بنواقصها والثانية بانتهازيتها يساهمان في تحكّم الماضي في الحاضر والتحضير لإشعال نيران المستقبل.

* كاتب بحريني

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

682 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع