د .محمد عياش الكبيسي
قراءة جديدة للمشهد العراقي
بات من المؤكد أن العراق اليوم ليس هو قبل (زلزال الموصل) مهما اختلفت التفسيرات والتأويلات، لكنه من الصعب بمكان تخيّل الصورة الكلية التي سيؤول إليها الوضع العام بعد أن تضع الحرب أوزارها، هذا إذا قدّر لهذه الحرب أن تضع أوزارها بالفعل.
السنّة لا يحبذون الآن الخوض في التفاصيل والمآلات حتى لا يشوشوا على أنفسهم فرحتهم بالنصر، وهناك تخوف أيضا من تأثير المعلومات التفصيلية والتحليلات الموضوعية على مستوى الزخم المعنوي للثوار وحاضنتهم الطبيعية التي باتت موحّدة إلى حد كبير ولو بالعاطفة والأمل العريض بقرب يوم الخلاص أو القصاص، ولا يستطيع أحد أن يلوم السنّة بعد أن ذاقوا الأمرين لعقد أو يزيد، إلا أن الذي ينبغي التنبه له هو أن الجهد الميداني قد لا يؤتي ثماره المطلوبة إن لم يكن هناك جهد مكافئ للبحث في طبيعة الأرض التي نتحرك عليها، والمشاريع المحلية والإقليمية والدولية المتشابكة على هذه الأرض، وإذا كان (المجاهد) قد حاز سبق الإقدام والاستعداد للتضحية، فإن العلم بخارطة القوى المعقدة وتصنيفها وتحليلها وبناء النظرية السياسية الواعية والقابلة للتطبيق من شأنها أن تختصر الجهد وتقرب النتائج وتخفض من مستوى المجازفة والمغامرة، وقد لا يكون المجاهد في الميدان قادرا على سد هذه الحاجة، وهنا أذكّر بتجربة أهل السنّة في مقاومة الاحتلال الأميركي، حيث كان النفس السائد آنذاك هو النفس التعبوي الثوري، وبنظرة تقويمية لمجمل خطابات المقاومة وبياناتها نكتشف أن التحليل العلمي لطبيعة المشهد وتعقيداته وتوقعاته لم يكن يأخذ من كل هذا الأرشيف سوى مساحة صغيرة جدا لا تكافئ أبداً الجهد الميداني، وكانت النتيجة الكلية ليست هي تلك التي تمناها أهل السنّة بعد كل تلك التضحيات، وهذا درس قريب؛ أن الانتصار في الجانب العسكري لا يعني الانتصار النهائي أو الكلي إن لم يأت في منظومة متكاملة تتناسب مع كل التحديات المطروحة.
اليوم لا يسعنا أن نفتح كل تلك الملفات، لكن على الأقل لننظر في الوقائع الكبيرة والملموسة والتي قد تساعدنا لتأسيس الوعي القادر على التحليل والاستنتاج وتقدير المواقف والاحتمالات. إننا هنا نتكلم عن حقائق تتشكل على الأرض وليس عن آراء أو نظريات.
إن الذين كانوا يراهنون على الوحدة (الوطنية) ويقيمون عليها ولاءاتهم وبراءاتهم عليهم اليوم أن يعيدوا حساباتهم، فالعراق اليوم قد انقسم بالفعل إلى ثلاثة كيانات، ولكل كيان وضعه الخاص وقياداته وتوجهاته وارتباطاته، ولم يعد بالإمكان تجاهل هذا الواقع أو القفز عليه.
لقد نجح الكرد في تحقيق أحلامهم (القومية) وحسموا رسميا وواقعيا ما كان يسمى بالمناطق المتنازع عليها، وربما لم يعد ارتباطهم بحكومة المركز إلا للاتفاق على شكل العلاقة بين كيانين أو دولتين متكافئتين، فلقد صنع إخوتنا الكرد واقعا جديدا يتناسب مع ثقافتهم وطموحاتهم بمنتهى الهدوء وبأقل الخسائر ماديا ومعنويا وسياسيا، وهو نجاح كبير يسجل بحق للسياسة الكردية الحالية، وربما يكون هذا أيضا بتوافقات إقليمية ودولية ستكشفها المجريات القادمة.
الشيعة خسروا فرصتهم التاريخية والاستثنائية في حكم العراق، وقد انحازوا اليوم بشكل صارخ إلى (الطائفة) بعيدا عن (الدولة) بعد أن تصدى (مرجع الطائفة) للقيادة الفعلية، واستجابت له كل القيادات السياسية بمن فيهم المالكي، وقد تعزز هذا بانحسار ميليشياتهم عن أغلب المناطق السنّية، فنحن إذاً أمام كيان شيعي جديد ومنفصل ثقافيا وسياسيا وأمنيا وجغرافيا، وهو بعيد عن الكيان الأول (كردستان) لكنه مشتبك بصورة معقدة مع الكيان الثالث الذي بدأت ملامحه بالتشكل أيضا.
السنّة العرب باتوا بالفعل يسيطرون على أغلب مناطقهم، مع مناوشات وصدامات حادة في أكثر من نقطة وهو ما يرجح ظهور (مناطق متنازع عليها) جديدة بين الكيانين الجديدين خاصة في العاصمة بغداد!من الصعب أن يستعيد المالكي سيطرته على المناطق التي خسرها مؤخرا لصالح السنة أو لصالح الكرد، والأصعب من ذلك أن يتمكن السنّة من بسط هيمنتهم على المحافظات الجنوبية (الشيعية)، أما الكرد فليس لهم مطمع بعد اليوم لا بمناطق السنّة ولا بمناطق الشيعة، وفي المقابل ليس هناك شيعة أو سنّة يفكرون بالاصطدام مع الكرد، وعليه فإن التقسيم ربما أصبح مسألة وقت لا أكثر، إلا إذا تدخلت قوة أكبر بكثير من حجم الكيانات الثلاثة لتعيد رسم المشهد بالطريقة التي تناسبها، وعليه أيضا فإن الخلاف السنّي السنّي حول مقولات (الوحدة الوطنية) و (الفيدرالية) لم يعد له مبرر.
تجدر الإشارة هنا إلى أن واقعا جديدا ربما يفرض نفسه بقوة وهو تشكيل (دولة الصحراء) التي تجمع القبائل العربية السنّية من الموصل شمالا إلى الأنبار جنوبا ثم إلى حدود حلب ودمشق غربا! وقد كانت هذه نظرية أميركية مدعومة بخارطة توضيحية وموثقة نشرتها النيويورك تايمز، لكنها كانت غريبة ومستهجنة إلى حد كبير ولذلك لم تأخذ نصيبها من الاهتمام والدراسة، بيد أنها اليوم صارت أقرب للواقع بعد أن تمكنت الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروفة بداعش من فرض وجودها ورفع راياتها على طرفي الحدود العراقية السورية وفي العمق الذي لا يختلف كثيرا عن تلك الخارطة! وقد تعزز كل هذا بسيطرتها السريعة وربما المباغتة على كامل المعابر الحدودية! مع وفرة في غنائم المال والسلاح والمعدات، والغريب أيضا أن حدود كردستان على الأرض قد اقتربت كذلك من حدودها المرسومة على في هذه الخارطة، ولم يبق لها سوى ضم الجيب الكردي السوري الممتد على طول الحدود السورية مع تركيا وبذلك يتم عزل تركيا تماما عن جيرانها العرب!
إن فكرة الخارطة فكرة صارخة لا يمكن تحقيقها بالأدوات التقليدية، فكل حزب أو كيان سياسي أو عسكري في العالم لا يمكن أن يفكر ببسط نفوذه على أرض موزعة بين دولتين أو أكثر، ومن ثم كان لا بد من فكرة جديدة وقوية قادرة على تبني هذا المشروع وتحمل تبعاته.
إن الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) هي القوة الوحيدة القادرة على تجاوز الحدود، وفرض الواقع الذي تريد دون مراعاة للقوانين أو الأعراف الدولية، ودون أن تتعب نفسها بدراسة المآلات والتبعات، وهي أيضا لا تؤمن بالشراكات والتحالفات، وتجربتها مع كل فصائل المقاومة العراقية، ثم مع الفصائل السورية حاضرة وشاهدة، وفي اليوم التالي من وصولها إلى الموصل بادرت بكتابة (وثيقة المدينة) ومما جاء فيها نصا: (10-وأما المجالس والتجمعات والرايات بشتى العناوين وحمل السلاح فلا نقبلها البتة، لقوله صلى الله عليه وسلم: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه). إنها تتصرف كدولة وليس كفصيل أو تنظيم، هذا هو فقهها وشرعها الموثق نظريا وعمليا.
إننا قد نختلف في التنظير والتحليل، أما الواقع فينبغي أن نقرأه كما هو لا كما نحب، هناك حقائق تتشكل الآن على الأرض لا ينكرها إلا حالم أو مكابر، والقوى الدولية والإقليمية تتعامل مع كل هذا باحتراف عال، ولا تتورع أبداً عن استخدامها أو توظيفها بما يحقق مصالحها، ومن لم يتمكن من استيعاب هذا الصورة المعقدة فإنه سيتحول إلى أداة من أدوات اللعبة لا أكثر.
494 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع