هل سيختفي «المول» فعلا؟

                                             

                           د. منار الشوربجي


دعوة كريمة تلقيتها من بعض الشباب من طلابي السابقين، لفنجان من القهوة. رحبت بالطبع، فذلك هو أغلى تكريم تتلقاه الأستاذة، أي أن يظل طلابها على علاقة إنسانية بها بعد تخرجهم. ولأنهم أصحاب الدعوة فقد اختاروا المكان والزمان، فكان المكان مقهى معروفا في أشهر مول في القاهرة.

لم يفاجئني اختيار الشباب للمول، لكن قفزت إلى ذهني فورا مجموعة من المقالات قرأتها مؤخرا في مجلات وصحف أمريكية مختلفة، تشير إلى أن ظاهرة المول، التي هي أمريكية إلى حد كبير، في طريقها للانحسار، وأن بعضها قد أغلق أبوابه فعلا.

فالعولمة نقلت ظاهرة المول الأمريكية لأنحاء المعمورة ونقلت معها ثقافته أيضا، وهي في جوهرها ثقافة ذات بعد استهلاكي وطبقي لا تخطئه العين. وفكرة المول ظهرت في أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، مع تزايد هروب البيض من المدن إلى ضواحيها. وقد ارتبط ذلك الهروب بالمسألة العرقية ارتباطا وثيقا، فعندما هاجر السود من جنوب الولايات المتحدة لشمالها في الثلاثينات بسبب وطأة الاضطهاد والعنصرية، وجدوا في الشمال مقاومة شديدة للسكن في الأحياء التي يقطنها أصحاب البشرة البيضاء، وهي مقاومة هدفت لمنعهم من شراء أو حتى تأجير منزل في تلك الأحياء.

وكان بمجرد أن تقطن الأسر السوداء حيا ما، تهرب الأسر البيضاء للضواحي، بما في ذلك الأسر التي لا تمانع في جيرة السود، لأن التلاعب في سوق العقارات كان يؤدى لتخفيض سعر العقارات في أي حي يسكنه السود. باختصار، كان البيض يهربون للضواحي، سواء لأنهم لا يريدون جيرة السود أو لأنهم مجبرون على ذلك. وبإنهاء الفصل العنصري قانونا بعد حركة الحقوق المدنية في الستينات، تكثفت هجرة البيض غير الرسمية في كل من الشمال والجنوب، إلى خارج المدن وإلى الضواحي.

وكان أولئك البيض هم الذين يملكون الأموال للتسوق والاستهلاك، فنشأت ظاهرة المول. فالمول يتم بناؤه على مساحة شاسعة بعيدا عن المدينة وفي الضواحي، حيث الجمهور المستهدف لا يحتاج للمواصلات العامة، فهم جميعا يملكون السيارات ليصلوا للمول، ويجدون فيه موقعا شاسعا معدا لانتظار سياراتهم بسهولة.

ثم يدخل المتسوق إلى المول فيجد كافة أنواع المتاجر من الملابس للبقالة، كما توجد أماكن مخصصة لترك الأطفال يلهون وقت التسوق، وتوجد دور العرض السينمائي، فضلا عن مساحة مخصصة للمطاعم والمقاهي، ومساحات أخرى تسمح بالاستراحة قليلا بين جولات التسوق، وحولها شاشات عرض تعلن عن محلات ومنتجات وعلامات تجارية متوفرة داخل المول.

وثقافة المول قامت في الأساس على تحويل عملية «الشراء» إلى عملية ترفيهية، فيتحول الاستهلاك إلى مسألة مرتبطة ارتباطا وثيقا بكل مناسبة ترفيه. فأنت إذا نجحت في أن تحول مكان التسوق إلى المكان الذي يقصده المستهلك يوم عطلته، فقد نجحت في رفع مستوى استهلاكه.

فهو سيأتي في الأعياد، ليرتاد الأطفال الملاهي وليلتقي الكبار على المقاهي وقد يرتادون السينما، ولكن ستكون ضمن جولتهم بالضرورة مرحلة تسوق ما، ولو قصيرة. والمول ترتفع شعبيته بنوعية المتاجر الموجودة فيه، ومن هنا فإن المتسوقين الأمريكيين عادة ما كانوا يبحثون عن العلامات التجاربة لا السلع ذاتها. فهم يبحثون عن بيير كاردان لا عن ربطة العنق، ويبحثون عن مرسيدس لا عن سيارة، وفي العلامة التجارية والاهتمام بها دلالة مهمة تتعلق بالبعد الخاص بالشريحة الاجتماعية للمستهلك ذاته. ومن هنا، فرغم أن ظاهرة المول أمريكية، إلا أنها موجودة بشكل أو آخر منذ القرن السابع عشر.

ففي لندن، كانت الطبقة المتميزة منذ عام 1609، لها ثقافتها المتميزة في الرفاهية والاستهلاك، ومن أجلها نشأت مراكز للتسوق كانت موقعا أيضا للقاء الناس ولارتيادهم المسارح. باختصار، فإن المول رمز عالمي للثقافة الاستهلاكية.

أما السبب في انحسار ظاهرة المول في أمريكا، فهو من ناحية لضيق ذات يد الكثيرين من أولئك الذين يرتادون المولات، ومن ناحية أخرى بسبب التسوق عبر الانترنت، فضلا عن المشكلات المرورية التي صار معها ليس ترفيها على الإطلاق الذهاب لتلك المولات في رحلة عذاب قد تستغرق ساعات.

لكن المسألة الأهم من كل ذلك، هو أنني أشك كثيرا في انحسار ظاهرة المول طالما لم تتغير ثقافة المول ذاتها. فمن الممكن للأمريكان هدم تلك المولات فعلا، ولكن المؤكد أنه سيتم اختراع شكل جديد يقوم بالوظيفة نفسها، طالما أن الثقافة نفسها لم تمت، ثقافة الاستهلاك. فثقافة المول جزء من ثقافة الاستهلاك عموما، والتي انتقلت كالفيروس مع ثقافة المول إلى المجتمعات الأخرى.

وهي الثقافة التي تشجع الناس على استهلاك بضائع ومنتجات ليسوا في حاجة لها، وتوحي لهم بأن السعادة تكمن في امتلاك الأشياء، وأن هويتهم والتعبير عن ذواتهم مرتبطة بالاستهلاك، بل وتجعل حكمهم على البشر قائما على ما يملكون، الأمر الذي يصيب الكثير من الشباب الذين لا يملكون، بالاكتئاب وعدم الثقة بالذات، ويحول من يملكون إلى آلات لا تتوقف عن جمع المال من أجل أن تستهلكه.

فتحول الإنسان بدلا من باحث عن السعادة إلى باحث عن الاستهلاك، فالسعادة في الاستهلاك! والناس يتم تنميطهم وفق شريحتهم الاجتماعية، مما يشوه العلاقات الإنسانية ويقيم الناس وفق شكل ملابسهم.

عند هذه النقطة، تذكرت موعدي مع أصدقائي الشباب، وحمدت الله على تلك العلاقة الإنسانية الجميلة التي ستعبر عن نفسها بلقاء داخل.. مول! فالمول ليس هو القضية.. الأخطر ثقافة المول.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

351 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع