أعيدوا الاعتبار لتراثنا

                                   

                          زينب حفني

يتهمني البعض بالتحيّز لمدينتي جدة كلما جاهرتُ بحبّي لها، وعبّرتُ عن غضبي من عمليات الهدم الشرسة التي جرت بالماضي لاستئصال هويتها التاريخيّة. وهذا الاتهام صحيح إلى حد كبير، فقد وقعتُ في حب جدة منذ نعومة أظافري، وأثور حين يمس أحد شعرة من رأسها!

يعود الفضل في عشق مدينتي لأبي، الذي وُلد وعاش باكورة حياته بإحدى حواريها القديمة، وظلَّ قلبه متعلقاً بها، ويفتخر بانتمائه لحارة الشام حتّى وفاته، يحكي لي ولأخوتي عن خبايا هذه المدينة العريقة، ويروي القصص المشوقة عن أهلها الطيبين، وحرصه الدائم ونحن صغار على أخذنا في ليالي رمضان إلى أسواقها القديمة ويتجوّل بنا في طرقاتها الضيقة، ويُرينا موقع البيت القديم الذي ترعرع فيه قبل أن يتم بيعه وهدمه وتشييد عمارة حديثة مكانه.

كانت لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) قد أعلنت مؤخراً وضع مدينة جدة القديمة على قائمة التراث العالمي، ورغم حزني على ما ارتكبته أيدي المتشددين من تدمير للكثير من معالمها الأثرية بحجة القضاء على الخرافات والبدع! إلا أنني شعرتُ بأن هذا القرار قد أعاد الاعتبار لمدينتي، مترحمة على أبي الذي لو كان حيّاً لعمّت الفرحة فؤاده.

تقع المنطقة التاريخيّة في قلب مدينة جدة، وما زالت هناك مباني مشيدة بالحجارة المرجانيّة التي كانت تشتهر بها، بنوافذها المميزة التي كان يُطلق عليها (الرواشين)، وقد صُنعت من الخشب المحفور يدويّاً بنقوش رائعة. إضافة إلى الأبواب الشهيرة مثل باب مكة وباب شريف، ومساجدها العريقة التي يعود بنائها إلى ثمانية قرون. وإلى الآن كل من يقم بزيارة أحيائها القديمة، لا بد أن تُبهره أزقتها الضيقة وحواريها القديمة التي يفوح منها عبق التاريخ. وقد كان من أشهرها حارتا مظلوم والشام التي خرجت منها معظم الأسر الجداويّة وصنعت بسواعدها حضارة بلدها.

خبر ضم جدة لقائمة التراث العالمي أثلج صدري، لكنه لم يمنع حزني على ما يجرى في الكثير من البلدان العربية والإسلامية الأخرى من هدم وتدمير لحضارتها العمرانيّة، والتي كان آخرها ما وقع بمدينة الموصل على يد جماعة (داعش) بالعراق، حيث قامت بتحطيم تمثال لعثمان الموصلي وهو موسيقي وملحن عراقي من القرن التاسع عشر، وتمثال آخر للشاعر أبي تمام الذي عاش إبّان الخلافة العباسيّة. إضافة للكثير من الآثار النفيسة التي تمَّت سرقتها عند سقوط بغداد والاحتلال الأميركي للعراق.

لا أعرف حقيقة لماذا هناك عداء مستحكم بين الدعاة المتشددين من جهة، والجماعات المسلحة الدينيّة من جهة ثانية، لتدمير كل تراث معماري ومعلم حضاري؟ هل سنعود لعصور الجاهلية وعبادة الأصنام، إذا حرصنا على احترام تاريخنا وحافظنا على تراثنا المعماري! هل سنتخلّى عن عقيدتنا إذا ما رفعنا أيدينا تحية تقدير لحضارتنا؟

يُقال إن التاريخ لا يموت، بل يظل يتحدّث عن نفسه إلى أن يفنى العالم. وهذا الطمس المتعمّد لتاريخنا بصوره وأشكاله كافة، هو جريمة فادحة في حق مجتمعاتنا، وفي حق تراثنا الذي صنعه أجدادنا! وليس هذا فحسب، بل هو وصمة عار في حق أجيالنا القادمة التي اعتادت على تعلّم صفحات بيضاء خالية من الإنجازات، كأن أجدادهم عاشوا في فراغ فكري!

إذا كانت مجتمعاتنا لا تعبأ بما يجري على قدم وساق من تغيير لهوية أرضها ودحر لآثارها، كيف نُطالب الأجيال القادمة بالتمسك بهويتها والبقاء على انتمائها لأرضها، وهي ترى من حولها ينظرون بريبة لكل ما خلّفه السابقون؟ كأننا نُريد أن نُقنع العالم بأننا أصبحنا متحضرين، وأسلافنا كانوا يتخبطون في لُجج الظلام!

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

580 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع