د .محمد عياش الكبيسي
أعلن البغدادي نفسه (خليفة للمسلمين) و(أميرا للمؤمنين) بصورة مفاجئة وغير متوقعة بالنسبة للكثير من المراقبين والمتابعين، ليرسّخ بهذا أن اسم (الدولة) الذي اختاره التنظيم مبكرا لم يكن اسما شكليا، وهذا ما كنا نؤكده باستمرار..
فالدولة كانت منذ تأسيسها تتعامل مع بقية الفصائل بمنظور السلطة والهيمنة وتستدعي لذلك كل الأحكام الفقهية المتعلقة بالسلطان وحقوقه والموقف من المخالفين له أو الخارجين عليه، وبالتالي فما مارسته مع الفصائل العراقية ثم السورية يأتي منسجما تماما مع هذا التوجه، والذين كانوا ينادون بتجاوز الخلافات بين (المجاهدين) هم إما أنهم كانوا لا يعرفون طبيعة هذا التنظيم ونظرته لبقية التنظيمات، وإما أنهم كانوا يخفون رغبة حقيقية لانضمام كل تلك العناوين تحت اسم الدولة ورايتها وقيادتها، ذلك لأن فكرة التوحّد مع اسم (الدولة) لا تتحقق بدون الخضوع لهذا الاسم والالتزام بكل ما يعنيه، وهذا هو جوهر الصراع بين (الدولة) وبين الفصائل الأخرى بغض النظر عن الحوادث الجزئية التي قد يكون فيها الحق مع هذا الطرف أو ذاك، وهذه أمور طبيعية تحصل في كل التنظيمات التي تعمل على أرض واحدة.
لقد كان بعض (الورعين) و(نسّاك الجهاد) يغفلون أو يتغافلون عن أصل الخلاف وأساس المشكلة، ويقفون عند الإشكالات الميدانية المعقّدة والتي يتطلب الحكم فيها دراية واسعة وسماعا من الطرفين واستنطاقا للشهود..الخ وحينما لا تتحقق هذه الشروط وهذا هو الشأن في كل التنظيمات السرّية يلجؤون إلى الخطاب الوعظي بضرورة الترفع عن الخلافات وحظوظ النفس..الخ وهذا اتهام مبطّن يؤذي العاملين في الميدان ويصبح في النهاية جزءا من المشكلة وليس من الحل!
لقد كان البغدادي أكثر صدقا من هؤلاء الغافلين أو المتغافلين حينما كان يصرّح: إننا (دولة)، ثم يضع النقاط على الحروف في (وثيقة المدينة) والتي جاءت لتدبير شؤون (ولاية نينوى) ليقول في البند العاشر منها (وأما المجالس والتجمعات والرايات بشتى العناوين وحمل السلاح فلا نقبلها البتة، لقوله صلى الله عليه وسلم: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)، إنه هنا يعني ما يقول، وهو صادق مع نفسه ومشروعه، إنه لا يناقش أفكار الآخرين أو سلوكياتهم، اعتدوا أو لم يعتدوا، بل هو ينطلق من مسلّمات (شرعية) أكبر بكثير من هذه التفاصيل، إن هؤلاء جميعا عليهم أن يخضعوا لسلطانه رغبة أو رهبة، هذا هو الحق الذي يراه والدين الذي يدين به.
لقد راح بعضهم يناقش البغدادي في الشروط الشرعية لإعلان الخلافة! وراح آخرون ينصحونه بالتراجع لأن هذا الإعلان يربك الثورة! وهناك من ينظر للموضوع كله وكأنه مزحة ثقيلة أو أمنية لمجموعة من الشباب الحالم باستعادة الخلافة.
والصحيح أن إعلان الخلافة جاء في تسلسله الطبيعي والمنطقي بالنسبة لمشروع البغدادي.
في سنة 2003 وفي بيت من بيوت الفلوجة كان هناك نقاش حاد في من يقود الجهاد بوجه الاحتلال الأميركي، وكانت الأنظار تتجه إلى صاحب الدار وهو طالب علم معروف وله تجربة سابقة في (الجهاد الأفغاني)، إلا أن أبا أنس الشامي المنظر الشرعي للزرقاوي حسم النقاش بقوله: (نحن المهاجرون وأنتم الأنصار, فمنا الأمراء ومنكم الوزراء) وهو هنا يستعير ما حصل يوم السقيفة! ثم مدّ يده لأبي مصعب الزرقاوي وبايعه، وطلب من الحضور مبايعته أيضا حسما للخلاف ودرءا للفتنة!
لقد كان ذلك اللقاء إعلانا ليس لمشروع (تحرير العراق) والذي تتبناه فصائل المقاومة العراقية بلا استثناء، وإنما لمشروع (الجهاد العالمي)، ومن هنا بدأ الصراع الخفي والخطير بين المشروعين، وراح التنظيم يسخّر العاطفة الدينية ببراعة فائقة لتجنيد (العرب) وحثهم على الالتحاق بمشروع الجهاد وترغيبهم بالعمليات (الاستشهادية) وحض الآخرين على (الجهاد المالي) وجمع التبرعات من كل أنحاء العالم الإسلامي، وقد رأى الزرقاوي في تلك المرحلة ضرورة الارتباط بالتنظيم العالمي (القاعدة) لضمان الدعم والإسناد، وبهذا حقق التنظيم قدرا من التوازن مع فصائل المقاومة العراقية مجتمعة.
بعد ذلك نما إلى قيادة التنظيم أن بعض الفصائل كانت تفكر ببناء جبهات وتحالفات واسعة تمهيدا لإعلان حكومة مؤقتة قادرة على سحب البساط من (حكومة الاحتلال) خاصة بعد ورود معلومات مؤكدة عن عزم الأمريكان على الخروج من العراق، هنا قرر التنظيم إعلان (الدولة الإسلامية) وبدأ حملة شرسة لضرب المقاومة العراقية وتصفية الرموز العلمية والمجتمعية المؤيدين لها في المدن السنّية المعروفة، وقد ترددت المقاومة كثيرا قبل أن تضطر للرد، وكانت النتيجة إنهاك المشروعين لصالح المشروع الثالث وهو المشروع الطائفي الصفوي الذي كان أكثر استعدادا لسد الفراغ.
بعد ذلك جاءت أحداث سوريا، ليقرر أمير (الدولة) أن يرسل بـ(النصرة)، والاسم مطمئن إلى حد كبير، لكن البغدادي أدرك خطأه فيما بعد، فالنصرة شيء، وبناء دولة الخلافة وكسر(أوثان سايكس بيكو) شيء آخر، وقد كلفه هذا الخطأ كثيرا، فنشب القتال بينه وبين نصرته كما نشب بينه وبين فصائل الثورة السورية كلها، وهنا اضطر لتكرار السيناريو العراقي بإعلانه للدولة الإسلامية في (العراق والشام)، فهو لم يأت نصرة للسوريين وإنما جاء ليحكمهم ويبني دولته على أرضهم!
من هنا ندرك أن مشروع البغدادي ليس الدفاع عن أهل السنّة وأعراضهم كما يروّج بعض (الدراويش)، وإنما هو لبناء (دولة)، وهو مستعد في سبيل هذه الدولة أن يقاتل كل من يقف في طريقه شيعيا كان أو سنيا، إسلاميا أو علمانيا، عالما أو جاهلا، مجاهدا أو قاعدا، الهدف محدد وواضح، والوسيلة محددة وواضحة كذلك.
الآن أصبحت للبغدادي أرض واسعة، وموارد كبيرة، وربما تكون المساحة التي يسيطر عليها فعليا أكبر من المساحة التي يحكمها المالكي! فما الذي يحتاجه هنا؟
إنه ببساطة لا يثق بالفصائل أو القبائل العراقية، ولا بعلماء العراق وسياسييهم ومثقفيهم، من هنا كان لا بد من مخاطبة المحيط الأوسع عربيا وإسلاميا، لحشد الطاقات وتجنيد الكفاءات القادرة على مسك الأرض وإدارتها، من هنا جاءت فكرة (الخلافة).
إن البغدادي اليوم لا يستجدي أحدا، وإنما يخاطب الجميع بلغة (البيعة) و(الأمر)، وسيجد الكثير من مؤيديه والمروّجين له في شتى بقاع الأرض حرجا دينيا وأخلاقيا إن لم يستجيبوا لأمره، خاصة أولئك الذين وجه إليهم أمره صراحة؛ العلماء والقضاة والأطباء! لقد وضعهم البغدادي على المحك وفي مواجهة عقدية خطيرة (من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) رواه مسلم.
330 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع