هيفاء زنكنة
منذ سنوات والكثير من النقاش يدور حول دور المرجعيات الدينية بالعراق، وعما اذا كانت مرجعيات صامتة (الساكتون) او ناطقة ( الناطقون)، إشارة الى رفض الأولى التدخل في الشأن السياسي، ربما عملا بمبدأ «التقية»، واستعداد الثانية لهذا التدخل. هل تتفاعل المرجعية مع ما يعيشه الناس سياسيا، ام ان دورها يقتصر على الحقوق الشرعية، والمسائل الفقهية، والتصرف بأموال «الخمس»، أي ما يؤديه المتدينون الشيعة من دخلهم لمن يقلدونه من علمائهم؟
طفا هذا الجدل على السطح بشكل أوضح بعد الاحتلال الانكلو امريكي للعراق، وكان في ظاهره مقتصرا على الجدال الفقهي ما بين الدور الصامت والناطق، الا انه بات، تدريجيا، تداخلا بين الدين والسياسة والاعلام. وفي هذا التداخل يطغي السياسي والاعلامي على الديني، أو يقدم ما هو ديني مبطنا بالخطاب السياسي – الاعلامي. وجرى توظيف هذا الجدل في السنة الأولى للإحتلال بأوضح صورة حين وصف زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر المرجع الديني علي السيستاني، المقيم بمدينة النجف، جنوب بغداد، بانه مرجعية صامتة، بينما يرى الصدر نفسه رمزا او ممثلا للمرجعية الناطقة.
ولكن، هل هناك، حقا مثل هذه الفروق الجوهرية التي تستدعي الخلاف والمصالحة بين المرجعيات، كما حدث، مثلا، في لقاء المصالحة بين السيستاني و مقتدى الصدر، يوم 13 نيسان/ابريل 2014، في منزل السيستاني، والذي بحثا فيه مستجدات الأوضاع في العراق؟
التساؤل المطروح هنا ليس فقهيا، فالجانب الفقهي بلغته ومصطلحاته، خارج دائرة معرفة الناس العاديين، وانا منهم. ولكن التساؤل هنا يتعلق بالخلط ما بين الديني والاعلامي والسياسي ودرجة التداخل فيما بينها وكيف يبرز احد هذه العناصر على سواه في حقبة زمنية محددة .
ان مجريات الاحداث بالعراق، خلال الاحد عشر عاما من الاحتلال، تجعل من الصعب الاقتناع بوجود مرجعية صامتة، مهما اراد البعض تمييز نفسه عنها او معها. اذ بات للمرجعية « الصامتة» صوت اعلامي، مما يعني، بالضرورة، ان لها، شاءت ام ابت، تأثيرا سياسيا.
لأوضح. لكل مرجع ديني، تقريبا، ساكتا او ناطقا، اذا كان مقيما بالنجف او بغداد، يستقبل الزوار او لا يستقبلهم، مهما كانت مكانته في سلم التراتبية الحوزوية، موقع على الانترنت يروج لافكاره وتعاليمه ودروسه . افضل مثال على ذلك هو موقع المرجع الاعلى السيد علي السيستاني، المعروف بانه قلما يظهر الى العالم الخارجي بشخصه. يعثر الزائر في الموقع على السيرة الذاتية والمؤلفات والتقارير والاستفتاءات والبيانات والمواقع التابعة والارشيف ووكلاء السيد السيستاني. يشرف على الموقع مكتب السيد السيستاني الخاص، ولديه، كما رؤساء الدول وقادتها ومن يحتل مرتبة عليا في التراتبية المرجعية، متحدث اعلامي – ديني ناطق باسمه. والحقيقة هي ان للسيستاني متحدثين في مدينة النجف اولهما، حسب الموقع الالكتروني، « فضيلة العلاّمة السيد أحمد الصافي ممثّل المرجعية الدينية العليا»، وثانيهما «ممثل المرجعية الدينية العليا في كربلاء المقدسة الشيخ عبد المهدي الكربلائي»، ومهمتهما القاء الخطب واصدار البيانات والقاء التصريحات باسم السيد السيستاني. هذه التصريحات تطلق، اسبوعيا او حسب مقتضيات الحاجة، كما تراها المرجعية، تحت عناوين على غرار: « الأوضاع الراهنة في العراق « و « حول التطورات الأمنية الأخيرة». حيث ناقش السيد احمد الصافي يوم 4 تموز/يوليو، مثلا، الجوانب السياسية والدستور وانعقاد مجلس النواب ويقدم نصائحه حول كيفية تنظيم المتطوعين لمحاربة « الارهاب». فما معنى الصمت أذن؟ اليست المرجعية الصامتة، متطابقة مع الناطقة، ومثالها الابرز هو مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري وميليشيا جيش المهدي وتيار كتلة الاحرار ؟ الا يقف الشيخ عبد المهدي الكربلائي على منصة اعلامية، كل يوم جمعة، وامامه عشرات المايكروفونات الملتقطة لكل نفس وكلمة يصدرها ممثلا للمرجع علي السيستاني؟
هذا التداخل الوظيفي الاعلامي ـ السياسي- الديني أفرغ الصمت من مضمونه فبات نطقا اعلاميا سياسيا مؤثرا. كما تم افراغ مفهوم «التقية»، من مضمونها، بانتهاء النظام الاستبدادي وتأسيس نظام يقلد ساسته المرجعية الصامتة والناطقة، كل حسب حزبه وولائه المذهبي. وكما هو معروف يخضع التاثير الاعلامي، بدوره، للتوظيف السياسي، بمستوياته المختلفة، من التحريض والدعم الى الحث والابتزاز . وكلما ازداد التوظيف الاعلامي ـ السياسي تراجع الجانب الديني والروحي. وقد ادى اصدار الفتاوي الدينية من السيد السيستاني، عبر المتحدث باسمه اعلاميا، خلال سنوات الاحتلال، الى تعزيز «العملية السياسية»، مما اسقط عليها، رغم طائفيتها وفساد المشاركين فيها، صبغة العصمة التي يتحلى بها المرجع واستغلت سياسيا، ان لم يكن بعلمه فبعلم المتحدثين باسمه، لمداعبة شعبوية العواطف باسلوب يستثير الناس ويدفعهم الى ردود افعال لا يتحملون مسؤوليتها مادام المرجع قد افتى بها. وهو فعل مماثل، في جوهره، لمن يفتي للناس بمكان في الجنة وحور العين.
وقد بلغ سلاح الفتاوى الدينية، المستثيرة للعواطف الغريزية والمؤججة للمشاعر أقصى مداه، يوم الجمعة 13 حزيران، حين أفتى السيستاني بلسان ممثله الشيخ عبد المهدي الكربلائي، بوجوب « الجهاد الكفائي» للدفاع «عن الوطن وأهله وأعراض مواطنيه». مما يوحي بان الوطن، كان حتى لحظة هرب افراد الجيش من مدينة الموصل بخير واعراض الناس مصانة، وكأن فتاوى الجهاد التي يطلقها قادة القاعدة وداعش وحثهم الناس على الجهاد بانواعه وتصوير قتالهم وكأنه واجب شرعي أو تكليف إلهي غير كاف.
لقد أدى اصدار فتوى وجوب الجهاد، في ظل غياب القوانين، الى اضفاء صفة الجهاد المقدس على ممارسات نظام المالكي ومنها قصف المدن، والكل يعرف ان قصف المدن لا يقضي على «الارهاب» وان القصف عقوبة جماعية للسكان الابرياء . واي ادعاء بغير ذلك هو اكذوبة مفضوحة. كان الاولى بالمرجعية أما ان تكون صامتة حقا (كما يفعل رهبان الاديرة المنعزلة الصامتين المتفرغين للعبادة) او ان تنطق داعية الى السلام والرحمة وتآلف الناس الذين هم بامس الحاجة الى الارشاد الروحي والتعامل مع نظام سياسي يستند الى دولة تحترم المواطن وتطبق القوانين سواسية على الجميع. ان تسييس الفتاوى وفضح دور رجال الدين في تمزيق لحمة المجتمع دينيا وطائفيا سيؤدي بالناس الى نبذ الدين ولكن ذلك لن يحدث بين ليلة وضحاها، بل سيكون، كما يحدث بالعراق، صراعا داميا وبتكلفة بشرية باهظة.
ومع صدور مئات الصحف والمجلات وانطلاق عشرات القنوات التلفزيونية المحلية والفضائية، بلا تنظيم نوعي، مبادلان السيستاني بمدينة النجف بحثا فيه مستجدات الأوضاع في العراق والانتخابات البرلمانية المقبلة بعد خلاف حول وصف الصدر للمرجعية بالصامتة.
528 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع