جابر رسول الجابري
عطلة’ يوم الأحدِ لا يَحلو لي فيها إلا السيرَ تِيهاً في طرقاتِ وسط لندن , إلى جسرِ البرج على نهرِ التايِّمز قادتني قدمايَّ يوماً ,
تريثت’ قليلا لأتأمل بناية مجلس النواب البريطاني و بُرج ساعة بيج بن , ثم دَلفت’ بعدها الى الجسرِ كي أعبره , وما ان وطأت’ ممشى الجسر حتى شاهدتُ حشوداً متظاهره , غاضبةٍ تتدفق على الطرفِ الاخر من الجسر كتدفقِ السيل على واديٍ دفعةً واحده , وكانت تمور’ موراً كموجٍ يلفظه’ بحرٌ هائجٌ على ساحلٍ في يومِ عاصفه , وصدى جلجلتُها أفزع الطيرَ فهام في الفضاءِ بحثاً عن ملاذ , ولوهلةٍ ترائتْ لي فيها الحشود كأنها حشود يوم الحشر , إن هيَّ إلا لحظات وجدت’ فيها نفسي أتوسط قلب تلك المظاهرة , حاولت جاهداً في باديء الأمر أن أتنحى عن طريقِهم إلا أن تلك الكتل البشرية جرفتني مع التيار فبت علقاً على الاكتاف من شدة الزحام , تلفت حولي يميناً وشمالاً لعلي اطلع على فجوةِ فراغٍ بينهم لانفذ منها وانحى جانب المشاهدين الا اني ايقنت’ أن لا محال .
تذكرت حال العراق فاغرورقت عيناي بالدموع بكاءاً على شعبهِ المفجوع وهو يأنُّ تحتَ وطأةَ فساد السياسيين وظلم حكومةَ أحزابُ الدين , كتلٌ من لِصوصٍ ومُجرمين , وما يُبنى على باطلٍ سيُفنى ولو بعد حين , عندئذٍ راودني الحماس فإنبريت أستنجد بالناس وكلي أمل والتماس أن أتصدى للشيطان ولو بكلمةِ حقٍ أطلُقها من بعيد , ورفعت كلتا يديَّ عاليا في حركةٍ إيحائيةٍ أُعبِّرُ فيها عن مدى سُخطي وما أخْتلَج في صدري من ثورةِ بركانٍ تحت الجليد . ازدادَ الضجيجُ وتعالت الاصوات الحماسية عند وصولنا الى مدخل بناية مجلس النواب , حينذاك تشدقتُ في الباب , ورحت اهتف ثائرا على الظلم داخل القباب , بلسان عربي مبين ( سلمية سلمية لا نريد فساداً ولا حرامية ) , الا أن الساسةَ كانواغيرَ آبهين , ولا تخِلُّ الكلمات بدستورٍ ولا تنتهكُ حرمةَ القوانين , لكنها رصاصةٌ في قلبِ الفسدةَ الخاسئين , زبانيةٌ لجندِ صهيون الشر الغزاة الطامعين , بعد أن أفنوا للشعبَ كلَ أواصره , وهدَّموا بلدي ماضيه وحاضَره , هم قالوا جئنا للتحرير كذباً يدّعون , وزرعوا الفتن وقتلوا وهجروا لا لشيء الا لأنا مسلمون , ظلماً وفساداً والدمار هم لنا واهبون , بعد ان كان العراق الى يوم قريب قبلة ونور , حضارة وثقافة وكانَ الشعبُ بهيا بِها على مرِ العصور .
فجأة أفقتُ من غياهب التفكير فوجدتُ نفسي وسط الناس مطالباً بالتغيير , لعلي أجدُ من لديه عدلاً وضمير , واحسرتاه ياعراق كلٌ رثاكَ حتى زَقُّ العصافير .
بدأ العرق يتصبب مني وبت أشعر بضماٍ شديدٍ, فرحت ابحث في نظراتي علي أعثر على رشفةِ ماءٍ أو يزيد , حتى اِستقرَّ نظري على رجلٍ في يدهِ قنينةَ ماءٍ يقفُ من بعيد , اتجهتُ من فوري اليه عسى أن أحصلَ منهُ على شربةٍ تُطفيءُ نارَ عطشي , وما ان اقتربت منه وهممت أن أسألهُ حتى سمعت دويَّ صوتَ لعلعةِ الرصاص وصاحبته جلبة , مما دفعني الى الاستدارة الى الخلف لادرك حقيقة ما يجري في الحلبة , فاذا بي أُشاهد رجالَ الأمن يطلقون النارَ من فوهاتِ بنادقهم باتجاه المتظاهرين , وراحت هاتيك الحشود تفر فرارا بعد أن وردت وردا , واخذ الذعر يدب في اوصالهم فأضحوا خائفين لُبَدا , وبرحوا لمأربهم قددا بددا , وداسوا باقدامهم كل قتيلٍ او جريحٍ له جسدا, الى الحياةِ ترومُ النفس عند الحَسِرَةِ , لهذا قفزت فاراً كضبيٍ فرَّ من قسورة , متجها الى اقرب زقاق غير آبه لما أراه في طريقي الا أن رجل هوى متعثرا كان يركض أمامي فتعثرت به قدماي وسقطتُّ على اثر ذلك أرضا , وحاولت أن أستعيد قواي لأنهض وأهرب من جديد إلا أني شعرتُ بواهن وضعف عندئذ رفعت رأسي لأتفقد حالي فوجدتُ نفسي مُستلقياً على سريري وصوت التلفاز يملأُ فضاءَ الغرفةِ وهو ينقل اخبارَ ثورة الشعبِ ضدَّ طاغوت الظلمِ والفساد , حمدّْتُ الله على سلامتي وأدركت أني كنت في كابوسِ حلمٍ أطلقت فيهِ صرخةً ضد الظلام .
المملكة المتحدة بيرمنجهام - الحادي عشر من تموز 2014
509 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع