عزالدين عناية*
لم تتطور الدراسات العربية في إيطاليا في العصر الحديث بمعزل عن مشاغل الكنيسة، ما جعلها مصبوغة منذ مستهل انطلاقتها بخيارات دينية، أبقت تعليم اللغة العربية وتعلّمها، إلى تاريخ قريب، حكرا على رجال الدين وطلاب اللاهوت الكاثوليك. لكن في خضم ذلك المسار لاحت بوادر انعتاق من الاحتكار الكنسي، الذي طالما تحكم بهذا المبحث، ليشهد المجال تطورات حثيثة في الأوساط غير الدينية، لا سيما منذ توحيد إيطاليا وإشراف الدولة على قسط وافر من المؤسسات التعليمية.
وبشكل عام توزّع المستشرقون والمستعربون الإيطاليون عبر تاريخهم ضمن ثلاثة أصناف: صنف في خدمة الكنيسة، وصنف انشغل بخدمة الأغراض الاستعمارية، وصنف انساق مع تلبية احتياجات الدولة، مع تداخل في بعض الأحيان في الأدوار بين هذه الأصناف.
فبتتبع مسار الاهتمام بلغة الضاد وبالدراسات العربية في هذا البلد، يمكن العودة بالانشغال إلى البابا كليمنت الخامس (1264-1314م)، الذي حثّ في إحدى عظاته في فيينا، سنة 1311، على ضرورة إيلاء تدريس العربية والعبرية والكلدانية والسريانية عناية في مختلف العواصم الأوروبية، بغرض أداء العمل التبشيري على أحسن وجه. وتُعدّ تلك الدعوة -وبقطع النظر عن مغزاها- عاملا مهمّا في لفت الانتباه إلى العربية والحث على الإلمام بها.
حواضر تدريس العربية
ضمن هذا السياق، يمكن الحديث عن حواضر رئيسية أربع في إيطاليا شهدت مبكرا تدريس اللغة العربية، حتى غدت مراكز تاريخية في هذا المجال. تُعتبر روما الأعرق في المجال بين سائر المدن الإيطالية وذلك منذ العام 1575م، حيث لم يدخر البابا سيكتوس الرابع (1414-1484) جهدا في تكليف مكتبة الفاتيكان بمهام تدريس العربية وتهيئة الإطار اللازم لذلك، وإن جاء تدريس العبرية أسبق بما يعود إلى العام 1482. ما جعل روما، بين مطلع القرن السادس عشر وموفى القرن السابع عشر، تحوز الصدارة بين حواضر أوروبا في الدراسات الشرقية وفي تعليم اللغات، الذي شمل الأرمينية والقبطية، فضلا عن اللغات السامية الرئيسية. لكن مع توحيد إيطاليا، خلال العام 1861م، بدأ تراخي الطوق الذي ضربته كنيسة روما على تعليم اللغات الشرقية عامة، ومنها العربية، وذلك لفائدة خيارات ذات طابع لائكي. وتدعّم ذلك منذ تولي المستعرب ميكيلي أمّاري صاحب مؤلف "تاريخ مسلمي صقلية" (1854-1872) مقاليد وزارة التعليم في حكومة فارينا (1862-1864)، وهو ما انعكست آثاره على كلية الآداب والفلسفة حينها، بخروج جامعة روما من الهيمنة البابوية واتخاذها طابعا علمانيا 1871-1875، حيث تولى لويجي فنشنسي تدريس العبرية، وباولو سكاباتيشي السريانية، وجوهانس بولينغ العربية.
حذَتْ نابولي حذو مدينة روما، فكان تشييد "المعهد الجامعي الشرقي"، المعروف بـ"الأورِيِنتالي" والتابع حينها إلى أخوية معهد عائلة يسوع المسيح المقدسة، والذي يعزى الفضل في تأسيسه إلى المبشر ماتيو ريبا. فقد حاز المعهد اعتراف البابا كليمنت الثاني عشر في السابع من أبريل 1732م ويُرجَّح أن تدريس العربية قد انطلق في السنة نفسها، حيث لم تمض سوى بضع سنوات حتى بات محجّا للدارسين والطلاب من مختلف الأصقاع. ففي سنة 1747 التحق بالمعهد فتية وفدوا من الدولة العثمانية، من ألبانيا والبوسنة واليونان ولبنان ومصر، بغرض تكوينهم وسيامتهم كهنة للتبشير بالكاثوليكية في بلدان المأتى. وبعد توحيد إيطاليا بات المعهد يضم قسمين: قسم قديم للتبشير وآخر مستحدث خُصّص للشبان الوافدين من خارج المؤسسات الدينية اهتم باللغات الشرقية.
في حين انطلق تدريس العربية في مدينة باليرمو مع إنشاء كرسي اللغة العربية في أكاديمية الدراسات سنة 1785، ومن الطريف اقتران تلك البداية بفضيحة أكاديمية، حيث تولى أستاذ مزوَّر مهام التدريس، غدت ذكراه مدعاة للتندر في الأوساط العلمية. حيث ادعى زورا الراهب جوسيبي فيلا، الذي يعرف مفردات متناثرة من العربية جنب لغته الأم المالطية، أنه يحذق العربية بعد أن انتحل صفة المؤلِّف لعمل تاريخي، بما خوّل له اعتلاء كرسي العربية حديث التأسيس، فطفق يدرّس المالطية المطعَّمة بمفردات عربية، معتمدا الأبجدية العربية، على أنها الفصحى. حادثة "الخدعة السراسينية"، كما باتت تعرف، تحولت في فترات لاحقة إلى موضوع طريف وساخر، مع بعض الشعراء والكتاب الإيطاليين، كجوفاني ميلي وليوناردو شاشا وأندريا كاميلاري.
وفي مرحلة متأخرة انضمت البندقية إلى صف تلك المدن الرائدة، تحت حافز الرحلة والتجارة، وبرغم الموقع المتقدم الذي حازته المدينة في علاقتها بالشرق، فقد تأخرت نسبيا في تشييد معلم علمي يتكفل بالدراسات العربية، رغم أن الحاجة الماسة إلى ذلك لاحت منذ وقت مبكر، منذ إعداد ما كان يعرف بـ"الـدراغوماني السبعة"، أي التراجمة السبعة، بغرض تكليفهم بمهام الوساطة مع الدولة العثمانية. ولم يتسنّ تدريس اللغة العربية في مؤسسة علمية سوى مع تأسيس المعهد العالي للتجارة سنة 1853، الذي اعتنى بالتخصصات الاقتصادية والتجارية، إلى جانب عنايته باللغات الأجنبية بهدف الدفاع عن المصالح الإيطالية في الخارج. وبشكل عام انحصر تعلّم العربية حتى القرن التاسع عشر بين أوساط التجار والساسة ممن يترددون على البلاد العربية. فكانت معرفة لغرض التواصل، افتقرت إلى الأسس العلمية المتينة، وهكذا نُشرت قواميس في الغرض أحدها لأوغو دي كاستلنوفو ورفائيل دي توتشي سنة 1912، بالإضافة إلى طبع مجلدين للنحو العربي في ميلانو سنة 1912 من إعداد أوجيينو ليفي.
ولم يشتد عود التصنيف العلمي في مجال الدراسات العربية سوى في مراحل لاحقة، حصل ذلك في مرحلة أولى مع نشر مؤلّف إيطالي للاورا فيشيا فالياري "النحو العربي بين النظرية والتطبيق" سنة 1936، الذي بات مرجعا، نهلت منه أجيال عدة ولا يزال حاضرا في التعليم رغم تسرب انتقادات إليه باعتباره يعرض عربية مشوبة بأجواء الإماء والنوق. ثم أُتبع بقاموس عربي إيطالي من إعداد ريناتو ترايني نشره معهد الشرق بروما 1964-1965، لا يزال يُعدّ الأفضل في الساحة الإيطالية. ليلتحق مؤلف إيزابيلا كاميرا دافليتو "الأدب العربي المعاصر من النهضة إلى اليوم" (1988) بثلاثية المؤلفات المرجعية التي لا غنى للباحث أو الطالب في أقسام الدراسات العربية عنها.
الدراسات العربية والمستعمر
رافقت العناية باللغة العربية اهتمامات بطباعة المؤلفات المدوّنة بالحرف العربي، وذلك منذ وقت مبكر، فكان طبع أولى نسخ القرآن الكريم في البندقية سنة 1537، وإن تم إتلافها بأمر من البابا بولس الثالث (1468-1549) على ما أورده الباحث أنجيلو ميكيلي بيمونتيزي في مؤلفه: "البندقية وانتشار الأبجدية العربية في إيطاليا"؛ بالإضافة طُبعت نسخة عربية من الأناجيل في المطبعة الفاتيكانية يعود تاريخها إلى العام 1590م. لتتوالى المطبوعات بنشر أربعة مجلدات من "قاموس المحيط" للفيروز آبادي، وإن سبق ذلك تواجد قواميس عربية مخطوطة بخط اليد منذ أواخر القرن الثاني عشر ومطلع القرن الثالث عشر، على غرار القاموس العربي اللاتيني المودع اليوم في مكتبة ريكارديانا في مدينة فلورانسا.
ولئن كانت الدراسات العربية الوسيطة والحديثة في إيطاليا كنسيّة المنشأ فإن الحاضنة المعاصرة هي استعمارية. فقد انضم ثلة من آباء الاستشراق الإيطالي الحديث إلى "لجنة المصالح الاستعمارية المكلّفة بالشؤون الإسلامية" - Commissione per lo studio delle questione islamiche d’interesse coloniale - سنة 1914، منهم ليوني غايطاني وكارلو ألفونسو نالينو ودافيد سانتيلانا، وهذا الأخير هو تونسي يهودي الديانة عيِّن سنة 1913 أستاذا للتشريع الإسلامي في جامعة روما. وقد أورد الباحث فلافيو ستريكا في بحث بعنوان: "كارلو ألفونسو نالينو ومشروع احتلال ليبيا"، في مجلة "حوليات" التابعة إلى كلية العلوم السياسية في كالياري سنة 1983، أن المستشرق نالينو قد شارك في مجمل الاجتماعات واللجان التي وفرت المشورة للمستعمر بشأن القضايا الإسلامية إبان احتلال ليبيا.
خلال تلك الحقبة شهد الاهتمام بالعربية تحولا، فقد تزايدت العناية باللهجات. حيث نشر ألفريدو ترومبيتي في مدينة بولونيا كتابا عن اللهجة الطرابلسية سنة 1912. وتقريبا في الفترة نفسها اشتغل كارلو ألفونسو نالينو على الدارجة المصرية (1913)، حيث لا يزال عمله يعدّ من المصادر الأساسية إلى الحاضر. لتغدو اللهجات العربية من بين المحاور التقليدية التي يوليها الباحثون الإيطاليون اهتماما. وفي مرحلة لاحقة اهتمت إستر بانيتا بالدارجة والفولكلور في بنغازي (1964). وتواصل ذلك الشغف إلى تاريخنا الراهن مع أوليفيه دوران الأستاذ بجامعة روما، حيث نشر سنة 1993 "ملامح من الدارجة المغربية"، أتبعه سنة 1994 بـ"مقدمة في اللهجات العربية"، كما نشر سنة 1996 عملا عن الدارجة الفلسطينية، إلى أن غدت دراسة اللهجات -Dialettologia- مادة مقررة للطلاب تُدرّس جنب الفصحى في جامعة روما.
تطوّرات في الدراسات العربية
شهدت أواخر الألفية الثانية تحولات معتبرة في الدراسات العربية في إيطاليا، مسّت جوانب الترجمة والآداب. إذ حتى منتهى الثمانينيات كانت النصوص الأدبية العربية المترجَمة قليلة العدد ومحصورة التداول بين المختصين، من مستشرقين ومستعربين أساسا، ولكن عقب ذلك التاريخ تحوّل المنقول العربي إلى مقروء مرغوب بين عموم القرّاء. وباتت دور النشر تراهن على النص الأدبي العربي بعد أن تخلت عن الفكرة الرائجة أن الكتاب العربي لا يدرّ ربحا باعتباره مطبوع خاسر، فقد ساهم الأديب نجيب محفوظ مساهمة فعالة في ذلك التحوّل.
إذ تفيد الإحصائيات أنه منذ مطلع القرن الفائت إلى العام 1965 أُنجزت في إيطاليا خمس ترجمات يتيمة: حيث ترجم فرانشيسكو غابرييلي: "قصاصون من مصر" وكذلك "ظلمات وأشعة" لمي زيادة، وترجم أومبارتو ريتزيتانو "زينب" لمحمد حسنين هيكل و"الأيام" لطه حسين، وترجم أندريا زنزوتّو كتاب "سأهبك غزالة" للكاتب الجزائري مالك حداد. ثم بعيد ذلك التاريخ، حاول ريتزيتانو بعث سلسلة قصصية، بالتعاون مع معهد الشرق بروما وجامعة باليرمو، نشرت ثلاث مجموعات سورية وتونسية ومصرية، ثم سرعان ما توقفت، وكأن الوقت لم ينضج بعد للنشر العربي. ولكن علاوة على عدم تهيؤ القارئ الإيطالي فقد كان نصيب وافر من الترجمات حرفيا وركيكا. غير أنه لاحقا ساهمت العناية الفائقة لشخصيتين إيطاليتين، رعتا نقل مجموعة من النصوص العربية، وهما إيزابيلا كاميرا دافليتو من جامعة روما وفرانشيسكا ماريا كوراو من جامعة نابولي، في التحسين من جودة الترجمة والترويج للأعمال العربية في الأوساط الإيطالية.
يورد المؤلف الصادر عن وزارة الثروة والأنشطة الثقافية "الحضور العربي الإسلامي في المطبوعات الإيطالية" (2000)، أنه لم يُترجَم من المؤلفات العربية بين 1900 و 1988 سوى 29 عملا، وقد حصل التحول الحقيقي بين 1989 و 1999 حيث تُرجم 112 عملا أدبيا، كما ترجم 93 عملا أدبيا فرنكفونيا خلال الفترة نفسها. في حين بلغت الأعمال المسرحية التي تُرجمت طيلة الفترة الممتدة بين 1900 و 1999 19 عملا مسرحيا، وحاز الشعر خلال الفترة نفسها 20 عملا. والواقع أن الجوائز العالمية، نوبل لمحفوظ (1988)، وغنكور لكل من بن جلون (1987) ومعلوف (1993)، قد ساهمت مساهمة فعالة في إيقاظ الذائقة الإيطالية نحو الأدب العربي، حيث بلغت أعداد النصوص العربية المترجمة إلى الإيطالية حتى موفى السنة المنصرمة 324 عملا. وبشكل أقل ساهمت القلاقل السياسية والحروب والتوترات في إيقاد تلك الجذوة، فعشية اندلاع الثورة الجزائرية تُرجمت ترجمة يتيمة "سأهبك غزالة" لمالك حداد، ثم عقب الثورة خبا ذلك البريق، ليستيقظ الاهتمام ثانية مع فترة النضال الفلسطيني المسلح بترجمة بعض الأعمال مثل "رجال في الشمس" (1985)، و"فلسطين: ثلاث قصص" (1985)، و"عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني؛ و"المتشائل" (1990) لإميل حبيبي. وفي خضم وفرة الترجمة الأدبية مقارنة بغيرها يبقى الأديب المغربي الطاهر بن جلون الممثل الرئيس للأدب العربي في المخيال الإيطالي، فهو الأكثر ترجمة وحضورا في النشر والإعلام.
ولكن هذا الحضور للنص الأدبي العربي في إيطاليا، رغم تواضعه، بدأ يشهد نوعا من النشاط الحثيث الفردي بعد سبات طويل، بعضه منبعث من إيطاليا، ممثَّلا في الجزائري عمارة لخوص والعراقي يونس توفيق، وغيره وافد من خارج، لعل أبرز وجوهه في الوقت الحالي علاء الأسواني وإبراهيم نصرالله.
الدراسات العربية في الراهن
لا غرو أن مناهج الدراسات العربية في إيطاليا قد خطت خطوات معتبرة من جانب مقاربة الثقافة العربية، ومن جانب الأدوات المتوسَّلة إلى هذا الغرض، لكنها تبقى مشدودة إلى إرث السلف بشكل يتراوح بين القبض والبسط. ولا يمكن الحديث عن عبور هذا الفعل من طور إلى طور، فما فتئ التعاطي مع اللغة العربية كلغة عصيّة، ذلك أن كثيرا من الأساتذة الجامعيين يدرسونها ولا يتكلمونها ويسمعونها ولا يفقهونها. فيتوسلون تدريس النحو العربي بواسطة الإيطالية، وعلى غرار ذلك فك أسرار اللهجات العامية، وعرض مضامين الأدب العربي، وهو منهج استشراقي غالبا ما ساد في تعليم اللغات المنقرضة. ذلك أن منهج تدريس العربية، وكفاءة المدرس في حد ذاتها، وأدوات التدريس، تجعل هذه العوامل متضافرة التعاطي مع العربية إشكاليا. وهو ما ينعكس غالبا على التحصيل المعرفي للدارس بما لا يسمح له بالتعاطي مع اللغة ككائن حي.
حيث يأتي الطالب الإيطالي الجامعي مدفوعا بحماس فياض لتعلم العربية، لكنه يصطدم بقدامة منهجية في التدريس، تكرر إنتاج المناهج الاستشراقية في التعاطي مع عربية محفوفة بعديد الأحكام المغرضة، أنها أصعب اللغات عالميا، وأنها غير مستعمَلة في البلاد العربية، وأن الأجنبي يذهب إلى تونس بغرض تعلم العربية فيتعلم الفرنسية، وأن اللهجات هي لغات، والترويج لذلك من قبل أساتذة جامعيين، لا لشيء إلا لأن إطلالتهم على العربية كانت من باب اللهجة الشامية أو المصرية أو المغاربية، التي بالكاد يفصحون بها. الأمر الذي خلق تذبذبا بين تدريس الفصحى أو الدارجة في إيطاليا، ودفع إلى التعويل على تدريس لغة وسطى لا هي بالفصحى ولا هي بالدارجة، ينطبق عليها المقول الإيطالي "ليس باللحم ولا بالسمك ولكنه شيء آخر".
وهذا المنهج التعليمي العقيم، في بعض جوانبه، عادة ما أورث مساوئ، حيث لا يحصّل الطالب أو الباحث الكفاءة اللغوية اللازمة لولوج المراجع أو المصادر العربية، ما يجعله رهينا للمقول الغربي في الموضوع، أو لبعض الترجمات القليلة. فالاصطدام بعدم اتقان اللغة بعد انقضاء السنوات عادة ما يكون محبطا لجموع واسعة اختارت تعلّم هذه اللغة، وهو ما رسّخ لدى كثيرين المقول الإيطالي الشائع: "?!Ma che parli arabo"، "أوتتكلم عربي؟"، والتي مفادها أتقول شيئا لا يفقهه الناس والحال أن مقولة تَمنُّع اللغة العربية عن الإلمام بها شائعة في أوساط المعلمين والمتعلمين على حد سواء، وهي تعود أساسا لمساوئ بيداغوجيا التدريس، التي خلّفها الاستشراق، التي تتلخّص في أسلوب التعامل مع العربية كلغة ميّتة. حيث يُغرَق الطّالب أو الدارس في فيلولوجيا اللّغة وقواعدها النّحوية، بما يأخذ حيزا واسعا من جهده ووقته، ولا يُقدّم له الجانب الحيّ والعملي منها، حتى ليقضي المرء السنوات الطوال على هذا النسق، ليستفيق لاحقا أنه غير قادر على إتيان محادثة أو الإلمام بخطاب منطوق.
انعكس القصور اللغوي على الدرس الأكاديمي أيضا في تعاطيه مع الفكر العربي، والفلسفي منه بالخصوص، فهو متوقف عند فلسفة الفارابي وابن رشد وابن باجة، لا يتعداها، وبالمثل عند الفرق الإسلامية الكلاسيكية لم يتخطها إلى الفكر الديني الحديث.
من جانب آخر رغم أن إيطاليا من بين البلدان الأوروبية الأكثر قربا من البلاد العربية حضاريا وجغرافيا فلا تزال الأبعد ثقافيا، وكما يقول عالم الاجتماع فرانكو كازانو هناك حديث بإطناب عن المتوسط لا ترافقه خيارات ثقافية موازية. ربما إحصائيات الترجمة من الجانبين مفزعة، فكلتا اللغتين استجلبت من الآخر ما يزيد بقليل عن الثلاثمئة عمل لا غير وهي نسبة ضئيلة. وإذا استثنينا النصوص المصرية المترجَمة، والتي تقارب 80 بالمئة من مجموع ما تُرجم، فإن النصوص العربية شبه غائبة، ناهيك عن النص الخليجي فهو الأكثر ندرة على الإطلاق. ذات مرة قلت للأستاذ الفلسطيني وسيم دهمش المرابط في إيطاليا منذ أربعة عقود: كثيرا ما يطرق مسامعنا، إن المثقف العربي في إيطاليا عرضة للموت السريري نظرا لمحدودية الحراك الثقافي بين الضفتين، رغم ذلك يعدّ كلانا إيطاليا دار قرار لا منطقة عبور. فرد مبتهجا: لكل رسالته ونحن رسالتنا في الحرف العربي الذي نبلّغه للطلاب.
*أستاذ بجامعة روما - إيطاليا
964 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع