د. منار الشوربجي
يبدو أن العلاقات الألمانية الأميركية تشهد هذه الأيام هبوطاً جديداً، بعد أن قررت ألمانيا علناً طرد مسؤول أميركي يعمل في السفارة الأميركية في برلين. وهو قرار ربما ينذر بقرارات ألمانية أخرى، إذا ظل الموقف الأميركي على حاله.
فالمسؤول الأميركي الذي تم طرده هو أعلى مسؤول أمني في السفارة، وينتمي في الأصل لوكالة المخابرات المركزية الأميركية، وكانت مهمته التنسيق بين كافة أجهزة الخدمات السرية الأميركية على الأراضي الألمانية. وكانت خطوة طرده هي الحلقة الأخيرة في سلسلة طويلة من الأحداث، التي كان من شأنها توتر العلاقة بين ألمانيا وحليفتها أميركا.
وكانت البداية عند إدوارد سنودن، الأميركي الذي كان يعمل في هيئة الأمن القومي الأميركي، ثم هرب من بلاده حاملاً وثائق تدين الهيئة وتفضح تجاوزاتها، وتكشف عن تجسسها على العالم كله. وقد كشفت تلك الوثائق من بين ما كشفت، أن الولايات المتحدة ظلت عشر سنوات كاملة، تتجسس على الهاتف الشخصي لأنغيلا ميركل شخصياً.
وقد أحدثت تلك الفضيحة التي انفجرت في أكتوبر من العام الماضي، توتراً في العلاقات الألمانية الأميركية، اضطر معها أوباما لأن يؤكد لميركل أن هيئة الأمن القومي لم تعد تتجسس على هاتفها، وتعهد لها بأن الهيئة لن تفعل ذلك في المستقبل، إلا أن أوباما رفض أن تكون بلاده طرفاً في اتفاق مع ألمانيا يقضي بعدم تجسس كل منهما على الأخرى. أكثر من ذلك، رفضت الولايات المتحدة، بعد أن افتضح أمر وثائق هيئة الأمن القومي بخصوص ألمانيا، أن تجيب عن عشرات الأسئلة التي طرحها الجانب الألماني، خصوصا في البرلمان.
وكأن كل ذلك لم يكن كافياً، فقد ابتلعت ميركل إهانة أخرى قبل زيارتها لواشنطن في أبريل الماضي، حين رفضت الولايات المتحدة إطلاعها على ملفها الذي صنعته لها دون علمها هيئة الأمن القومي قبل الزيارة.
ثم عادت ميركل إلى بلادها بعد الزيارة، لكن القضية ظلت مطروحة. فلا هي أغلقت من جانب البرلمان والأحزاب الألمانية، ولا حتى من جانب حزب ميركل نفسها. فقد كان من بين ما قال سنودن مثلاً، أن هيئة الأمن القومي لم تقتصر في تجسسها على الجوانب الأمنية والسياسية، وإنما قامت بالتجسس على الصناعة الألمانية من أجل أن تعطي للصناعة الأميركية اليد العليا في المنافسة الدولية، وهو الأمر الذي ظل من بين عشرات الأسئلة التي رفضت الولايات المتحدة الإجابة عنها رسمياً.
ثم ما هي إلا فترة وجيزة حتى ألقت السلطات الألمانية القبض على ألماني في وزارة الدفاع الألمانية، اتهم بالتجسس لصالح الولايات المتحدة، وعلى عميل للمخابرات الألمانية ظنت في البداية أنه يعمل عميلاً مزدوجاً لصالح الروس، فاتضح أنه يعمل عميلاً مزدوجاً لصالح الأميركان، مهمته التجسس على اللجنة الألمانية التي كلفت بالتحقيق في ما قامت به هيئة الأمن القومي الأميركية من تجاوزات على الأرض الأميركية. وقد اتضح أن الرجلين الألمانيين كانا يتجسسان لصالح أميركا، عبر رجل اتصال واحد هو مسؤول السفارة الأميركية الذي طردته السلطات الألمانية بعد إلقاء القبض على الجاسوسين.
ولأن ميركل تنتمي للحزب الأكثر تأييداً لعلاقات قوية عبر الأطلسي، فقد استخدمت لغة عاقلة ولكن قوية في آن معاً، فهي قالت »التجسس على الأصدقاء والحلفاء مضيعة للجهد. وفي الحرب الباردة، ربما كان هناك عدم ثقة متبادلة، لكننا الآن في القرن الحادي والعشرين«. وعبر وزير الخارجية عن المعنى نفسه، قائلاً »نريد ونتوقع شراكة مبنية على الثقة«.
ويبدو أن ميركل قد اعتمدت الخطاب الدبلوماسي وتركت الغضب لغيرها من الوزراء، حيث قال وزير المالية الألماني إن ما حدث (يقصد من الأميركان) كان »من الغباء بحيث يجعلك تبكي«. أما رد الفعل الأميركي فجاء مقتضباً رافضاً التعليق في العلن، وإن كان قد عبر عن غضب مكبوت من لجوء ميركل إلى العلن عند طرد مسؤول السفارة الأميركية.
غير أن رد الفعل الأميركي هذا يبدو في ذاته جزءاً من المشكلة، فهو في تقديري أحد أسباب لجوء ميركل للعلنية لممارسة ضغوط لتغييره. فمنذ أكتوبر الماضي، تتعامل الولايات المتحدة مع الغضب الألماني بدرجة عالية من عدم الاكتراث، معتبرة أن هناك قضايا محورية في العلاقة بين البلدين تمنع من توترها.
لكن الواضح أن الأميركيين بالفعل لا يدركون خطورة الموقف. فلأن ميركل من الحزب الأكثر تأييداً للعلاقات عبر الأطلسي، فهي واقعة تحت ضغوط شديدة للوقوف في وجه الغطرسة الأميركية، خصوصاً، وهو الأخطر، أن الرأي العام الألماني لا يثق في الولايات المتحدة الأميركية. فاستطلاعات الرأي تقول، كما نقلت الكريستيان ساينس مونيتور، إن 27% فقط من الألمان يرون أن الولايات المتحدة محل ثقة.
كما توجد أغلبية ألمانية واضحة تعتبر الولايات المتحدة »متغطرسة« و»غير مسؤولة«.
وفي تقديري أن صانع القرار الأميركي لا يزال يقيس على مراحل تاريخية سابقة، فأميركا لم تدرك بعد أن الأجيال الألمانية الحالية ليست هي الأجيال التي عاشت أثناء تنفيذ مشروع مارشال وتشعر بالامتنان، ولا حتى تلك التي عاشت وقت سقوط حائط برلين. فهي الأجيال التي تفتح وعيها على الغزو الأميركي للعراق، بناء على أسباب أميركية واهية رفضتها بلادهم وقتها واتضح أن لا أساس لها.
680 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع