د. محمد عياش الكبيسي
إن غالب هذه التأملات للنصوص إنما هي تأملات مجزأة ومقطعة، فكل نص يقرأ لوحده ليوظّف في النهاية توظيفا مزاجيا بحسب حال الواعظ ترغيبا أو ترهيبا، شدّة أو لينا، حبا أو كرها..
فالله ينصرنا ويغفر لنا ولو بلغت ذنوبنا عنان السماء، والله أيضا يعاقبنا ويسلط علينا عدونا بالذنب الواحد، هناك يستشهد بالرجل الذي قتل مائة نفس وبالبغيّ التي دخلت الجنة بسقيها لكلب شربة ماء، وهنا يستشهد بالمرأة التي دخلت النار في هرة حبستها، والواعظ هنا لا يكلف نفسه مهمة جمع النصوص وقراءتها قراءة منهجية، بل هو يعتمد سياسة (لكل مقام مقال)! أما (التحليل السماوي) في مقابل (التحليل المادي) فإنه يذكرنا بالعصور المظلمة لأوربا، فقد كان البابا لا يجد تفسيرا لانتشار الطاعون في أتباعه سوى (بعدهم عن الله)، وحينما يسألونه عن الحل يكون الجواب طبعا (الرجوع إلى الله)، فيأتي الناس تائبين، ويحتشدون في الكنائس! حيث يكون المكان الأنسب لانتشار الوباء، فيرجعون إلى البابا ليردّهم بقوله: لو كنتم صادقين لرفع الله عنكم البلاء، وبعد مراجعات طويلة وعريضة اهتدى البابا لتشخيص آخر أكثر دقة! وهو وجود الكفار (اليهود) بين المؤمنين، وعلى إثر ذلك بدأت حملة تطهير(ديني) واسعة في كل أوربا ضد اليهود، ثم لم يهتد الأوربيون لفكرة البحث عن العلاج إلا بعد أن قتل الطاعون نحو ثلثهم تقريبا! ومن هناك بدأت الكنيسة تفقد هيبتها لصالح العلم التجريبي والفكر العلماني حتى دانت أوربا كلها بالعلمانية أو الدنيوية.
إن سلسلة الإحالات المتكررة إلى عالم الغيب بلا دليل من شأنه أن يؤدي إلى زعزعة الثقة في الدين نفسه، وهذه المجازفة الخطيرة يتحملها الذين أعطوا لأنفسهم صلاحية الحكم على إرادة الله وتحليل مشيئته في الخلق بانطباعات سطحية وقاصرة لكنها مغلفة بثوب الإيمان والتقوى والتوكل على الله، وغالبا ما يجمع هــؤلاء بين الجهل والعجز والغرور في عقدة نفسية مركّبة، الجهل بالإسلام، والعجز عن الأخذ بالأسباب، والغرور بمظاهر التديّن والتعبد.
إن ما يميّز الإسلام عن الدين البابوي أنه لم يجعل المسلم على مفترق طرق بين المادة والروح، ولا بين الغيب والشهادة، ولا بين الدنيا والآخرة، فالله في الإسلام هو رب الدنيا والآخرة، وهو رب الغيب والشهادة، وهو رب المــادة والــروح، وأن احترام المسلم للأسباب التي وضعها الله لا يقل أهمية عن احترامه للأحكام التي شرّعها الله، فالله له (الخلق والأمر) وسنّته في الخلق هي الأسباب، وسنته في الأمر هي الأحكام، والله فوق كل هذا له الإرادة المطلقة والعلم الشامل والقدرة على أن يفعل ما يشاء كما يشاء وفي الوقت الذي يشاء.
إن الكثير من هؤلاء لا يشكّون بتلازم الدوائر الثلاث؛ دائرة القدر (الغيب) ودائرة المادة (الشهادة) ودائرة الأحكام (الشريعة) لكن الذي ينقصهم هو منهجية التعامل مع هذه الدوائر، فقد يضع هذه مكان هذه ويأخذ من هذه لهذه، وهذه معضلة متكررة في الفهم والسلوك الديني.
إن دائرة القدر لا شأن لها بتشخيصنا للواقع ولا باستنباطنا للأحكام، يقول ابن تيمية رحمه الله: (القدر نؤمن به ولا نحتج به، فمن احتج بالقدر فحجته داحضة، ومن اعتذر بالقدر فعذره غير مقبول) المجموع 264/8، ومعنى الإيمان به إنما هو الإيمان المطلق بــإرادة الله وقدرته وعلمه وحكمته، وهذا الإيمان يستتبع التوجه إليه والتوكل عليه وحده، فإن جاء الأمر كما نريد شكرنا من غير بطر، وإن كان بخلافه صبرنا من غير يأس، فعقيدة القدر إنما هي إيمان وثقة وشكر وصبر، وهذه كلها معان إيجابية تدفع باتجاه الحياة الأفضل والسلوك الأقوم.أمــا الحكم على الأشخاص والتصرفات فليس للقدر فيه نصيب، بل هو موكول للشرع وحــده، فهذا على الحق وهــذا على الباطل لا يكون إلا بالشرع، وإقحام القدر في هذا باب من أبواب التيه والضلال وفقدان الموازين، وأوّل من احتج بمجريات القدر على صحّة مذهبه هم الخوارج حيث قال قائلهم بعد معركة نصروا فيها:
أألـــفــــا مـؤمــن فــيــمـا زعـــمـــتــم .. ويـهـزمـهـم بـآسـك أربـعـونـــا ؟
كـذبتم لـيــس ذاك كــمــا زعــمـــتــــم ... ولكـن الـخـوارج مؤمـنــــونـا
هــم الـفئـــة القـلـيلـة قـد عـلـــمــتـم..على الفـئة الـكـثـيــرة يُنـصـرونـا
وهــو الاســتــدلال نفسه الـــذي يــكــرره الشيعة الــيــوم بعد هيمنتهم الاستثنائية وتمددهم في العراق والشام واليمن وغيرها من البلاد.
إن العقيدة الصحيحة هي تلك الموافقة للوحي قلّ أتباعها أو كثروا، انتصروا أو هزموا، والحلال ما أحله الله لا ما يقوله المتغلب، والحرام ما حرّمه الله لا ما يقوله المغلوب.
والمسلم مكلف بتطبيق الشرع وليس بتطبيق القدر، فآكل الربا قد يحترق بيته عقوبة أو تأديبا أو ابتلاء هذا كله لا يعنينا إلا من حيث الاعتبار، أما الواجب الشرعي فهو إنقاذه وأهله وتقديم المساعدة لهم، وحرمة التشفي بهم أو إهانتهم، ثم في مساعدته على التخلّص من هذا الإثم، ومن المؤسف هنا أن نجد بعض الخطباء من يظهر التشفي بالكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات التي تصيب النساء والرجال والأطفال وتدمّر المساكن والممتلكات، لأنهم (كفّار)! إن هذا السلوك المنافي لقيم الإسلام قد تولّد نتيجة لهذا الخلط بين دائرة الشرع ودائرة القدر، والحق أن الله له أن يبتلي أو يعاقب من يشاء بما يشاء، أما نحن البشر فلا نعاقب أحدا إلا بالعقوبات الشرعية بشروطها وحيثياتها.
أما الدائرة الثالثة وهي دائــرة (المــادة) أو (عالم الشهادة) فإنما الواجب فهمها وتحليلها تحليلا ماديا صرفا، وهو ما ينبغي أن يشترك فيه جميع البشر على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم، فعلم الفلك وعلم الطب وعلم الهندسة وحتى السياسة والإدارة والاقتصاد من حيث تشخيص الواقع ودراســة الظواهر لا ينبغي أن تخضع لغير التجربة الإنسانية القابلة للاختبار والقياس، ومن يقرأ ما كتبه فقهاؤنا عن تضمين الأطباء والصُنّاع الذين لا يتقنون مهنتهم وكيف يحملونهم مسؤولية أخطائهم وفق المقاييس الماديّة البحتة يتأكد من عمق ذلك الوعي الذي أنتج تلك الحضارة الرائدة بكل جوانبها.
أذكر قبل سنوات كان لي لقاء رمضاني على الهواء مع أحد أركان العلم التجريبي وهو كذلك داعية إسلامي معروف، سألته: كيف قبلوا شهادة الشهود برؤية الهلال إذا كنتم أنتم أهل العلم تقولون باستحالة الرؤية لأن الهلال قد غاب قبل الشمس ولم يعد له وجود في الأفق أصلا، قال: ليس عندي تفسير إلا أنها (كرامة)! هــذه الطريقة في التفكير صرنا نراها اليوم في كل مجالات حياتنا السياسية والفكرية والتربوية، تقابلها نزعة أخرى تستبعد الدين ولا تعترف إلا بالحياة الدنيوية المادّية، وهما جزء أساس في حالة الفوضى والضياع الذي نعيش
658 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع