المّقَدّس فى مرايا الأدب

                                     

                        سناء صليحة

لطالما أثارت الأعمال الأدبية التي تستقي مادتها من التاريخ جدلا حول مساحة حرية الخيال الذي يضفيه الكاتب علي الحدث وشخصيات العمل في مقابل مصداقية الحدث تاريخيا. فظلت المعضلة التي يواجهها أي نص أدبي تاريخي المقارنة بين ما دونه المؤرخون وما سطره المبدع، إذ عادة ما يبدأ تقييم العمل بطرح يناقش مدي التزام الكاتب بالسرد التاريخي للحدث وبمشروعية الإضافة والحذف بما يحقق للكاتب تقديم نص أدبى متكامل من وجهة نظره، والتعبير عن رؤيته الذاتية للحدث وأبطاله.

ويصبح الأمر أكثر خطورة عندما يتعرض الأدب لنصوص مقدسة أو لشخصيات وأحداث تجللها هالات القداسة، فكثيرا ما وصل الأمر لحد اتهام الكاتب أو الباحث بالإلحاد وتعرضه لعقوبات، تبدأ من نبذه اجتماعيا وصولا للسجن أو الموت، لمجرد طرحه رؤية مختلفة أو توظيفه لاستعارات وكنايات لغوية لتكثيف الحالة الشعورية أو لتوضيح المعني.. وبينما يسجل التاريخ عددا لا بأس به من أعمال تقع في مساحة رمادية لم ترق لمستوي الأعمال الإبداعية أو تلتزم بشروط التأريخ العلمي تحسبا لاتهامات تودي بحياة كاتبها، يحفظ سطورا لرواد (اتفقنا أم اختلفنا عليهم) خاضوا المغامرة الفنية والفكرية بكل أبعادها وعواقبها وحلقوا بأفكارهم بعيدا عن الصندوق الآمن (منهم الحلاج وابن عطاء السكندري ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد وعدد من شعراء المتصوفة والمهجر).

فبرغم المحاذير والمخاطر ثمة أعمال أدبية استوحاها كتابها من نصوص وأحداث ذات طبيعة قدسية تُعد من درر الأدب العربي، إذ استطاع كتابها أن يقدموا رؤى تضئ مناطق معتمة وتفسر حوادث تبدو غامضة ومنقوصة في بني أدبية متكاملة، أو تكاد تكون، اعتمدت تحليل الشخصية والعصر والنص منهجا، منها «عبقريات» العقاد و«الشيخان وعلي هامش السيرة والوعد الحق» لطه حسين ومسرحية « محمد» لتوفيق الحكيم و«نبي» و«مسيح» جبران خليل جبران الخ.. كما ظهرت أعمال استوحت القصص القرآني وأعادت إنتاجه من منظور تأملي (كأولاد حارتنا لنجيب محفوظ وأهل الكهف لتوفيق الحكيم وبريق في السحاب لثروت أباظة وغيرها) أو وظفت أحداثا تاريخية ذات صبغة دينية في تناولها للواقع المعاصر والنظم السياسية، ومن أشهرها (السلطان الحائر لتوفيق الحكيم وا إسلاماه و دار ابن لقمان لعلي باكثير) وأشعار أحمد شوقي وأحمد محرم وغيرهم.

وتعد عبقريات العقاد من أهم الأوراق الأدبية التي قدمت قراءة جديدة لعدد من الأحداث التاريخية من منظور نقدي يعتمد علي تحليل طبيعة الشخصية والعصر وأسبقية الإيمان بالرسالة المحمدية وأسباب الاختلاف والخلاف التي حددت مسار الدولة المدنية في عهد الخلفاء الراشدين والصحابة. فمن خلال عبقريات العقاد تتجلى ملامح زمن بات علي المسلمين فيه أن يضعوا بأنفسهم قواعد ونظما بشرية ظنية تؤسس لنظام ديني دنيوي يختلف عما سبقه في الجاهلية أو في حياة الرسول، بعد أن غاب تفسير ويقين لم يكن لأحد أن يدعيهما إلا رسول الله (صلى الله عليه وسلم). زمن كانت من معالمه فتن ومرتدون وخوارج ومطامع دنيوية وتضارب التفسير، سواء لهوي في النفس أو لعلم منقوص يضر بالفهم، ولا تزال تداعياته حاضرة حتى اللحظة. وبهذا المنظور قدم العقاد قراءات مختلفة عما سبقها لأحداث يشوبها الغموض استغلها مستشرقون للهجوم علي الإسلام، وقرارات لشخصيات تحوطها هالات القداسة من قبيل الخلاف بين الصحابة و حروب الردة والفتوحات وسفك دماء عثمان وعلي رضي الله عنهما.

ومن بين الأعمال التي ناقشت جوهر القيم الإسلامية مسرحية شمس النهار والسلطان الحائر لتوفيق الحكيم. ففي مسرحية السلطان الحائر تحدث الانفراجة بانتصار السلطان للقانون ومقاومة هوي النفس وقوة السيف وتجاوز القاضي للترغيب والترهيب وإعلانه عدم جواز توليه السلطان لأنه عبد لم يتم تحرير رقبته.

وفيما عمد أحمد محرم في أعماله لتقدم ملحمة إسلامية تعرض للمعارك والأحداث التي مرت بمراحل الدعوة للإسلام، تطالعنا في بعض أعمال علي باكثير (وا إسلاماه ودار ابن لقمان) وأشعار أحمد شوقي نماذج إنسانية وفكرية تشبعت بروح العقيدة وعبرت عن قضايا معاصرة، كوصم المستشرقين للإسلام بالعنف أو الطبقية، فيقول شوقي «الحرب في حق لديك شريعة - ومن السموم الناقعات دواء» ويقول «الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوي القوم و الغُلواء - أنصفت أهل الفقر من أهل الغني - فالكل في حق الحياة سواء».

ولعل النماذج السابق الإشارة إليها تشي أن بعض الأدباء المحدثين عند تعرضهم للمقدس قد تجاوزوا مرحلة التوثيق المجرد والاكتفاء بالإغراق في صياغات بلاغية، تحسبا للمخاطر، وانتقلوا للتحليل والتقييم والمراجعة.. وما أحوجنا اليوم إلي أمثالهم، لمزيد من الفهم ولتلمس معالم الطريق إلي الله...

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

776 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع