مزبلة آمنة

                                              

                                علي السوداني

لا أدريني تماما. فتّشتُ وبحوشتُ عني، في دفاتر وطبقات الوساوسة والخوّافين والبصّاصين والحشريين، فلم أجدني، وربما وجدتني وحفظتُ الطرف.

جلَّ وقتي أهدرهُ مشتولاً في الشرفة التي تطلُّ على الزقاق. الزقاق الذي أعيش في خاصرته، يكاد يكون أصغر الأزقة على الأرض، حيث عينايَ السهرانتان لا تفوّتان الواردات والشاردات من كائنات الشارع الدابّة ببطء وهدأة.

يقلقني منظر الشائب مكسور الظهر، وقد أتى ملولحاً بيمينه كيس خبز طازج في رحلة يومية. يجلس قبالتي على حافة الرصيف. يخلع نظارته ويدسها بجيبه. يُخرج باكيت سكائره ويشفط سيكارة واحدة. يعدّ ما بجيبه من نقود معدنية، ثم يلملم جسمهُ ويرحلْ. لم يلوّح لي مرةً. هو يراني جيداً، ولأسباب تتصلُ بعاقبة الفعل، لم أحاول أن أرفرفَ له بيدي. هو من الكائنات التي لا تسمح لك بكرهها. وجهٌ منيرٌ معشوشبٌ بلحية ثلجية خفيفة، ونظارة مدورة تجعله يقترب كثيراً من صديقي الميت روبن وليام.

أحتار كذلك مع حيرة القطط السمان والنحيفات، إذ يختلط عليهنَّ حابل شميم مارس بنابل لبط شباط. أخشى كثيراً على النخلة الهندية العنقاء القائمة على طولها بفناء جاري. تشدّها الريح القوية ذات الشمال وذات اليمين، ومع كل هبّة ريح أتنبأ بسقوطها هي وملاذات العصافير الآمنة. إن قلتُ لكم أنّ ديك جارتي السمينة أمّ زنود المدبدبة، قد وقع عطبٌ فظيعٌ على ساعته البايولوجية، فصار يصيح الظهرَ ويؤجّلُ الفجرَ، قد لا تصدّقون. الحقّ هو أنني لا أريدكم أن تصدّقوا لأنكم تشتهون أن تظلوا أحراراً كما ساعة اندلاقكم من فروج أمهاتكم الطاهرات.

لا أعرف عدد الليرات التي سيجنيها هذا الرجل الدائخ وهو يطمس رأسه المعصوب بحلقِ حاوية الزبل، على أمل صيدٍ وفيرٍ من قواطي الكولا والببسي والجعة. هو يدوس بقدمه الثقيلة فوق كلّ علبة ألمنيوم مصيودة، ويحشرها مع أخياتها في كيس النايلون خاصّته. ليلةً بوغتُّ بمنظرهِ لصق حصّالة الزبل.

كان الوقت يذهب نحو أول الفجر. كنت أخيّم على كرع كأس العرق الأخيرة مزفوفة بحليم وضيّ القناديل والشارع الطويل. كاد قلبي أن يتكسر على عتبة المرأى، حتى حملتُ جسدي المتثاقل ويمّمتهُ صوب الحاوية. حيّيتُ الرجل بقوة، وتركتُ على وجنتيه المسخمتين زخة بوسات. قدمتُ له سيكارة فقبلها. كانت بي رغبة لأن أدسّ بيده الطيبة ليرةً صافية، وقبل أن أفعلها، كان الرجل العظيم، قد شال فوق ظهره، كيس النايلون الأسود، وخلّفني بمواجهة قطة لمظاء تنطر رحيلي من سور حاوية الرزق الحلال.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

422 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع