الدكتور/ محمد عياش الكبيسي
جاء اعتراف المالكي بهزيمته بعد عناد طويل ومكابرة غير مسبوقة في مثل حالته وتجربته، ولذلك كانت الهزيمة عليه أشقّ وأعنف. لقد بقي يصرخ أنه الكتلة الأكبر، وأنّه جاء بإرادة العراقيين، وأنه جمع من الأصوات في بغداد وحدها سبعمائة وخمسين ألفا!! لكن هذه الأرقام التزمت جانب الصمت ولم تصرخ معه، ومن بين الملايين التي يفاخر بها لم يخرج معه سوى نفر قليل لا يشكّل في المجتمع أية نسبة مؤثّرة، مما يؤكّد الاتهامات له بتزوير الانتخابات وعلى نطاق واسع.
سقط المالكي، وليس أمامه إلا السقوط، فمسيرته كلها لا تؤدي إلا إلى هذه النتيجة، القتل والتشريد وحرق خيام المدنيين المعتصمين، وخبايا سجونه الخاصة التي تضمّ الآلاف من الرجال والنساء دون محاكمة، والفوضى الأمنيّة التي اختلط فيها رجال الأمن برجال الميليشيات، وعمليات الخطف التي تتبعها الجثث المجهولة الهوية والتي تلقى على الطرقات وشواطئ الأنهار، والتفجيرات المستمرة في الأحياء السكنيّة والأسواق والأماكن العامة، إضافة إلى النقص في الخدمات أو انعدامها في الكثير من الأحيان، وبينما كان الناس يطلبون منه تفسيرا لكل هذا، راح جاهدا ليعمق
حالة الانقسام بين (أبناء شعبه) ويقسّمهم إلى (معسكر الحسين) و (معسكر يزيد)؟! ثمّ بعد ذلك راح يسعى لإثارة الفتنة مع جيرانه فيلقي التهم الجزاف مرة على السعودية ومرّة على قطر وثالثة على تركيا، ثم يرجع إلى حكومته وعمليته السياسيّة فيعمل على تفكيكها، ملفّات جاهزة تخرج من صندوقه المغلق بين الفينة والفينة ليحكم بها على طارق الهاشمي بالإعدام خمس مرّات بتهمة الإرهاب، ثم على وزير ماليته رافع العيساوي، ثم يداهم بيت النائب أحمد العلواني فيستبيح الحرمات ويسفك الدماء؟! ولا ينسى أن يوجّه هذه الاتهامات ذاتها إلى مسعود البرزاني: (لقد أصبحت أربيل
مأوى للإرهابيين والتكفيريين والبعثيين)، وفور تسنّم فؤاد معصوم منصب رئيس الجمهورية، قدّم المالكي عليه شكوى لأنّه تعمّد خرق الدستور مرّتين وهو لم يمض على منصبه سوى أسبوعين!! بمعنى أنه لو قدّر الله لمعصوم أن يعمل مع المالكي لفترة أطول فإنه مشمول لا محالة بأربع تهم للإرهاب وخمسة إعدامات.
من الواضح أن ما عند المالكي لا يؤهله ليخوض تجربة حكم ولا أية تجربة سياسيّة، وربما جيء به إلى هذا المكان إما نكاية بكتلة علاوي وما تمثله في ذلك الوقت، وإما لإيصال العراق كله إلى هذه المرحلة التي لم يشهد لها العراق مثيلا منذ نكبة هولاكو. وصل العراق بالفعل إلى حافّة الهاوية، وتقسّمت خارطته بين إدارات ثلاث لا يضبطها ضابط ولا يجمعها جامع، ففي (المركز) لم يعد المالكي يحكم سوى طائفته التي ينتمي لها، والتي عمل على عزلها ومحاصرتها تحت اسم (معسكر الحسين)، وإيهامها بأنّ العالم المحيط بها هو (معسكر يزيد)، وفي المحافظات المنتفضة أحرق المالكي
خيام المنتفضين لتحلّ محلّها رايات (الخلافة)، وهي الرايات التي لا يمكن لشيعي واحد أو كردي أن يتقبّل التعايش معها فضلا عن العيش في ظلالها، وأما (كوردستان) فقد زادت قناعتها على المستويين الرسمي والشعبي بضرورة الانفصال والابتعاد عن (داعش) و (ماعش).
لقد كانت كل المؤشرات تسير بهذا الاتجاه، وآخرها تدخل الطيران الأميركي بالقدر الذي يوقف زحف (الدولة الإسلامية) باتجاه أربيل فقط، أما سقوط الموصل والتي يقرب سكانها من الأربعة ملايين، وسقوط المعابر الحدوديّة بين سوريا والعراق فهذا لا يستدعي التدخل! والغريب أيضا أن الطلعات الأميركية المحدودة قد أقنعت البغدادي بالتوقف، وليس لهذا من تفسير سوى أن البيت الأبيض لا يتدخل إلا لضبط الحدود ومنع تجاوز الجيران على بعضهم!
الأميركيون الذين تحكموا برسم هذه الحدود على الأرض هم أنفسهم الذين دعموا العبادي في مواجهة المالكي، مع أن العبادي لا يختلف كثيرا عن صاحبه، بل ربما يكون هو الأقرب له ثقافيا وسياسيا وسلوكيا، والغريب أيضا أن مراجع الشيعة (العظام) الخامنئي في إيران والسيستاني في العراق قد اقتنعا (دينيا) بضرورة تغيير المالكي ودعم العبادي! وهكذا تتمكن أميركا من تحقيق الإجماع محليا وإقليميا ودوليا، فانهالت على العبادي برقيات التأييد من العرب والعجم.
دلالة ذلك على أن الكلمة الأولى في الملف العراقي ما زالت للأميركان وحدهم لا تخفى على أحد، وربما تعدّت ذلك إلى القول بأن إيران ليست سوى دولة وظيفيّة لا تختلف عن دول المنطقة إلا بقدرتها على القيام بوظائف أكبر ضمن المساحة التي استدعت سياسات البيت الأبيض لتكون مسرحا لفوضاه الخلاقة.
سنّة العراق عربا وكردا وتركمانا لم يخفوا شماتتهم بالمالكي، لكنّهم تباينوا في موقفهم من البديل، فالعبّادي في نظر شرائح واسعة من المجتمع السنّي لا يختلف عن سلفه المالكي، وأن تكوينه الثقافي والتربوي سيدفع به ليكون (بطلا شيعيّا) وليس (بطلا وطنيا)، وهناك من يرى فيه فرصة للتغيير باعتبار أنه سيستفيد من تجربة سلفه، خاصة أنه يحمل تجربة شخصية أثناء معيشته في الغرب ربما علّمته معنى (المواطنة) و (الحريّة) و (التعددية)، وربما فات هؤلاء أن الجعفري والذي قضى شطر حياته في أوروبا قد حكم العراق بطريقة لا تختلف عن طريقة المالكي.إن السؤال الأصح الذي
ينبغي أن يُطرح في هذه المعادلة هو المتعلق بطبيعة الأهداف الأميركية في هذه المرحلة والتي استدعت هذا التغيير، وليس في الفوارق الشخصية بين المالكي والعبادي.
إن السيناريوهات التي تبثها الدائرة القريبة من البيت الأبيض على شكل تقارير ودراسات وتصريحات لا يمكن الوثوق بها أو الاعتماد عليها، كما أن مستوى التحليل عندنا في مراكزنا العلمية ومؤسساتنا السياسيّة لا يرقى إلى مستوى التنبّؤ ووضع الاحتمالات والمواقف المناسبة. يبدو في مثل هذا الوضع أنه ليس أمام سنّة العراق إلا أن يقوموا بعمليات فحص جريئة على مختلف الصُّعُد، وتسجيل ردود الأفعال ودراستها والبناء عليها، وهي أشبه بعملية استكشاف الطريق، ولكنّ الانقسام السنّي الداخلي سيشكل عقبة كبيرة كما هو الشأن في كل المحطات المصيريّة التي مرّت
معنا من سنة 2003 ولحد الآن، ولم يجنِ أهل السنّة من كل هذه التجارب ما يعينهم على بناء الخبرة المتراكمة، ذاك لأن الاتهامات والمواقف المتشنّجة عادة ما تسبق أية تجربة يتبناها هذا الطرف أو ذاك، ولذلك يصعب القول بوجود تجربة ناضجة يمكن اعتماد نتائجها نجاحا أو فشلا، ومن هنا بقيت المواقف كما هي رغم مرور ما يزيد على عقد من الزمان.
لقد انفتح اليوم بإزاحة المالكي باب لتجربة جديدة، وحينما نقول تجربة نعني أنّها تحتمل النجاح كما تحتمل الفشل، وهناك الأسوأ من الفشل وهو أن تمرّ التجربة ولا نجني منها حتى (خبرة الفشل).
632 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع