بقلم د. سيّار الجميل
ليعذرني القارئ الكريم أن أكتب عن مثالب من ابتلي بهم العراق حديثا ، وقد صدق فيهم القول المتداول عنهم منذ أكثر من ألف سنة، وحاشا أن يكون القائل كاذبا ، وحاشا أن يكون كل العراقيين كذلك ، فقد حظي المجتمع بأطيب الناس وأرفعهم خلقا وسيرة وتصرفا وسلوكا واسماهم رفعة ، ولكن ما أن يتوغل المرء قليلا في أعماق المجتمع ، فسوف يجد أكواماً من أهل شقاق وأصحاب نفاق وحملة أسوأ الأخلاق ..
وللأسف ، يختلط المتسامون مع العوام ، فيذهب الغالي بسعر الرخيص .. بل وإن هناك ما يحدث من مظالم تحت مسميات شتى بفعل ما تفعله العامة .. كما أن واحدا من السيئين يمكنه أن يخرّب جمعا يتألف من مئة من الطيبين .. وأتمنى مخلصا من القارئ أن لا يرى نفسه في ما أقول ، بل يرى ويتخيل حجم الدمار الذي حصل في الشخصيّة العراقية ، ويرى حجم الاضمحلال في أخلاقيات المجتمع المختلفة تماما عن أصول الآباء والأجداد .. وعليه أن يفكر قليلا بهدوء قبل أن تأخذه العاطفة الجياشة او العزّة بالإثم لكي يخرج ما بجوفه من ردود الفعل كالتي اعتاد عليها !
لقد بقينا نتغنى بعظمة الشعب ، وأمجاد الأمة ، والقيم الحسنة والطيبة العراقية .. ولكن الحقيقة غير ذلك تماما ، فحال شعبنا مثل حال كل شعوب العالم فيه من الخيرين والسيئين، ومن الأشرار والأبرار معا .. ولكن عندما تطغى العملة الرديئة في السوق، فهي تطرد الجيدة فتختفي هذه شيئا فشيئا ! ويكثر الفساد ويعم الانحطاط.
كم من العراقيين ذهبوا ضحايا تقارير سريّة كيدية ؟ وكم فظائع ارتكبت باسم سلطة أو دين أو مذهب أو حزب أو عشيرة أو جماعة أو طائفة ؟ كم عانى الناس من مصاعب ومحن وأهوال جراء أمزجة قادة ، وهمجية غوغاء ، وشغب مجموعة ، وفتنة فئة ، ومروق عصابة ؟ كم ارتكب من الظلم بحق تلاميذ وطلبة وموظفين ومعلمين وكسبة وضباط وأطباء وقضاة وأساتذة ؟ كم من أبرياء ذهبوا ضحايا أقوياء وأشقياء جراء كراهية وأحقاد ؟ كم من مظالم ارتكبت ضد المرأة العراقية جراء وشايات واكاذيب لا صحة لها أبدا ؟ وكم ترمى المحصنات ؟ كم من التهم ألصقت بأناس لم يرتكبوا أية ذنوب ومعصيات ؟ كم هي الضغائن مزروعة في الصدور ؟ كم هو حجم النذالة ، وانعدام الوفاء ، وتمكن الغدر ؟ كم استخدمت الأحقاد والكراهية في الدعاية والشعارات ؟ كم عذب وقتل وسحل من عراقيين في الزنزانات او الشوارع جراء أكاذيب ألصقت بهم ؟ كم يسجل اليوم من أكاذيب واتهامات باطلة ؟ وكم ينشر من مفبركات وتشهيرات ضد مخالفين ومناوئين ومنافسين سياسيين حتى في وجهات النظر ؟ كم من المخادعات والتضليلات تنشر على الناس لا حقيقة لها أبدا ؟
كم غابت الأخلاق عند الكبار والصغار جراء الشحن الطائفي غير الأخلاقي ؟ كم هم عدد الغلاة والمتطرفين والمتعصبين من هذا الطرف أو ذاك ؟ كم ابتذلت بعض الأوصاف المهينة التي تطلق على أناس مؤثرين واصفياء وأقوياء ووطنيين من قبل طائفيين وفتنويين ومشعوذين وحقودين ؟ كم ازداد عدد المفسدين والمختلسين والمهربين والمرتشين والمنحرفين ؟ كم برد دم هؤلاء واولئك جميعا بحيث غدوا لا يهمهم عرف ، ولا يوقظهم ضمير ، ولا يردعهم قانون وهم يوزعون مفاسدهم ضد الآخرين ؟ كم طالت الألسنة وكثرت مفاسد الأفواه وناشز العبارات بشتم الآلهة والآباء والأمهات ؟ كم غدا حجم المرتزقة في الخفاء والعلن لقاء شراء سكوته أو صمته عن قول الحق كي لا تنقطع عنه العطايا ! كم اشتريت ضمائر وخربت نفوس ودمرت أجيال من قبل سلطات سياسية او ادارية او اجتماعية ؟
لقد كثرت أعداد الديماغوجيين بعد الانتقال المفاجئ من اوكار اجتماعاتهم الحزبية الضيقة إلى عالم فوضوي فسيح غير منضبط بأعراف وقوانين وقيم .. فمن يسرق بيتا ، أصبح يسرق مال الدولة ، ومن يقتل انسانا سهل عليه قتل امة .. وتربى الأطفال على الكذب والمروق والانحرافات على امتداد خمسين سنة ليكونوا كهلة سيئين وهم اليوم في السبعين من العمر .. ومثلما تربوا على تقاليد بالية مناقضة للحياة السليمة ، باتوا يرون الناس جميعا مثلهم .. ان مجتمعنا في الحقيقة بحاجة ماسة إلى ثورة أخلاقية وتربوية وقيمية قوامها المثل الجديدة ..
قبل أكثر من ثلاثين سنة ، قدموني في واحدة من المناسبات في بريطانيا إلى أحدهم وكان عربيا شديد السمرة ، وكان قد آذاه بعض العراقيين لخلاف سياسي ، فكان ان حمل ضد العراق والعراقيين ، وبدا لا يطيقهم أبدا .. فما ان صافحني أمام الناس وقالوا نقدّم لك فلانا من العراق ، أجاب مبتسما ويده بيدي : يا أهل العراق ، يا أهل الشقاق والكفر والنفاق !! فسحبت يدي من يده مباشرة واجبته مزمجرا في الحال: لقد صدق قول المتنبي فيكم : لا تشتري العبد إلا والعصا معه .. الخ انقطعت عنه عدة شهور ثم تلاقينا وغدونا من أعز الأصدقاء بعد ان اعتذر كلّ منّا للآخر !
لقد أعجبني أنني سقت هذه " الحادثة " في مقالي اليوم نظرا لما أصاب المجتمع العراقي من الأمراض النفسية والفكرية اليوم ، وبات العراقيون لا يعرفون ما حلّ في ما بينهم من كراهية وأحقاد وتراشق أوصاف سيئة وشتائم وسباب علني وكيل اتهامات باطلة لأسباب سياسية أو خلافات طائفية ، أو تباين وجهات نظر عادية ، خصوصا أن كلّ عراقي يعدّ نفسه اليوم مركزا كونيا ، أو قياديا كبيرا سيأخذ بناصية التاريخ أو انه صانع للأحداث والتحوّلات .. ولا يمكن ان تجد اليوم عراقيا يدلي برأيه السياسي او بقناعته الشخصية ، إلا وانصبّت عليه من مخالفيه أقسى العبارات المتشنجة ، واللعنات القبيحة ، وأسوأ الاتهامات الباطلة ، وأحطّ التعابير وأقبح الأوصاف !! ومن يراقب صفحات التبادل الاجتماعي على الفيس بوك أو ما ينشره البعض من الأدعياء العراقيين ضد مخالفيهم ، فسيجد ركامات سيئة من التراشق الشخصي غير الأخلاقي وما يجري من شقاق وزرع فتن وتبادل سباب وتوزيع اتهامات لا يمكن تصديقها كونها تأتي من بشر أسوياء ! أو ما يجري من نفاق ومداهنة هذا وتبجيل ذاك مع مجاملات كاذبة ، وتصفيق لقادة سياسيين ، أو تمجيد لدعاة متخلفين ، أو تفخيم لمسؤولين تافهين .. أو ما يتردّد من عبارات وضيعة وطغيان مهاترات ومشاغبات سيئة يزيد على الحد المعقول .. وليس من السهل تفسير هذه " الظاهرة " المرضية المضطربة إلا كونها إفراز انقسامات سياسية معروفة ، وصراعات اجتماعية خفية على امتداد القرن العشرين .. وخصوصا ما حدث لهم في ذروة السنوات العشر الأخيرة من حياتهم البائسة.
لقد انتقلت أوبئة الرعاع وسوء أخلاق أولاد الشوارع من مهرجين ومدجنين وكتبة تقارير إلى ساسة ومسؤولين واعتلائهم مناصب في مؤسسات عليا وقد جاءوا من أوساط بيئات متخلفة ومتدنيّة في عاداتها وتصرفاتها وسلوكياتها .. ان من سوء حظ العراقيين ان تنتقل الأوبئة وتستشري عند الناس جميعا ، بمن فيهم الكثير من المثقفين وحملة الشهادات المصدّقة والمزوّرة .. ان هؤلاء لا يتورعون من ان يقولوا ويكتبوا ما شاءوا بلا وازع أخلاقي .. في مجال يتيح الفوضى التي لا يعرف أحد حدودها ، وغياب الرقابة الذاتية ، وانحطاط الحصانة الأخلاقية ، فقد غدا النيل من الآخرين نيلا مبرحا مفخرة عندهم من دون التفكير بردود الفعل وانعكاسات ذلك ..
لقد توارث العراقيون نزعة التشّفي منذ أزمان ، فهم يتوارثون الكراهية أيضا من زمن إلى آخر .. وهم يرددّون دوما كلمة ( يستاهل ) التي لا أجدها لدى مجتمعات أخرى .. التشفّي بالموت .. وبالمناظر المروعة ، والتلذذ بالتعذيب والمازوشية في الترويع .. والتعبير عن ذلك بعبارات مقذعة ، وشتائم مقرفة ، والاستهانة بالجسد والعنف حتى في التوصيف بل والاستزادة من بشاعة النقل في التوصيف .. بل والتفنن في السباب والشتيمة . واعتقد ان الكلمة المحلية ( الشفيّة ) مصدرها التشّفي ! ان التشفّي اقصى أنواع التعبير عن الكراهية المقيتة الدفينة .. وعندما تلتقي تلك الكراهيّة مع المحبة المصطنعة المعلنة تنكشف المجاملات الرخيصة والزيف المعهود بتركيبته .. فذاك هو قمة النفاق الذي لم يقف وحده في الميدان ، بل يسانده الشقاق ويعبر عنه بأسوأ أنواع الأخلاق ..
فمن أي مادة خلق بها مثل هذا النوع من البشر ؟ ومن أية مقابر تناسلوا ؟ ومن أي ثقافة (لملوم) رضعوا ؟ وفي أي بيئة نشأوا ؟ ومن أي " تربية " نهلوا ؟ وبأي دين أو معتقد آمنوا ؟ وفي أي وطن نبتوا ؟ كم هم بحاجة إلى " مدارس" ليتعلّموا فيها الأخلاق وحسن المعاملة ورقي التفكير ونبل العلاقات ؟ كم هم بحاجة إلى ان يتعلموا كيف يرتدون الألبسة المدنية ويعرفوا ربطة العنق ولبس الأحذية واساليب الحياة الحضرية ؟ كم هم بحاجة إلى قوانين رادعة من أكبرهم حتى اصغرهم ليكونوا عبرة للآخرين ؟ كم هم بحاجة إلى مستشفيات ومصحات ومنتجعات ودور نفسية وحدائق زهور وحدائق حيوان ليتعلموا الكثير من سلوك النباتات والحيوانات ؟ كم هم بحاجة إلى منتديات وملتقيات ومقاهٍ ثقافية وأغنيات حضرية ليتعلموا الحياة المدنية الرائعة ؟ لقد تأكد انهم لم تنفع معهم لا دور عبادة ولا جوامع ولا مساجد ولا حسينيات ولا مواعظ ولا خطب ملالي وترهات أصحاب عمائم ، فلقد ازدادوا مع هؤلاء مكراً ونفاقاً وعهراً وسوء أخلاق ! ولا يقول قائل بأن العراقيين ليسوا وحدهم على مثل هذا وذاك ، ولكن أقول : لقد بلغ عندهم السيل الزبى !
4816 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع