هارون محمد
لابد من الاعتراف بأن ما حدث في التاسع من حزيران/ يونيو الماضي، عندما اجتاحت قوات “داعش” محافظتي نينوى وصلاح الدين، وأحكمت سيطرتها على الأولى بالكامل، واحتلت أكثر من نصف الثانية، وامتد نفوذها إلى أجزاء واسعة من محافظات كركوك وديالى وبابل، وهي تسيطر أصلا على معظم محافظة الأنبار،
لم يكن حدثاً عابرا أو عملا يندرج ضمن ما سماه المالكي بـ”أعمال عنف”، وإنما شكل تطورا خطيرا في مسار الأحداث، أدى إلى قلب المعادلة السياسية السائدة في العراق رأسا على عقب، وأنتج حزمة من التداعيات المقلقة والمتشابكة في العلاقات والتوازنات على الأرض لم يعد من السهل احتواؤها في ظل ظروف معقدة تمر بها البلاد، وأقر العالم كله بخطورتها ليس في العراق فحسب وإنما في المنطقة بأسرها.
ولعل أبرز النتائج التي ترتبت على ما حدث عقب ذلك التاريخ، هو منع المالكي من تجديد ولاية ثالثة قاتل من أجلها، وهذا الأمر وحده يشكل تحولا مثيرا في المعطيات السياسية، فلأول مرة يحصل في تاريخ العراق الحديث عن أن أحداثا تحصل في محافظة أو بلدة تبعد عن العاصمة مئات الأميال تفرض إيقاعها وتترك آثارها على المركز الذي ترنح تحت وطأة هزائمه العسكرية المتلاحقة على أكثر من محور وجبهة، بسبب تخبط القيادات العسكرية الحكومية وعلى رأسها القائد العام للقوات المسلحة الذي ظل لأكثر من عام يبالغ في وصف تنظيم “داعش” ويهوّل من قوته، الأمر الذي انعكس سلبا على قادة جيشه الذين هربوا من الميدان دون أن يطلقوا رصاصة واحدة وتركوا جنودهم يواجهون مصيرا مجهولا، بلا ذخيرة أو عتاد أو أوامر وتعليمات كما حصل في الموصل وتكريت والحويجة وجلولاء وكثير من المواقع والوحدات.
وإذا كانت “داعش” قد نجحت جغرافيا في احتلال نينوى المحافظة الثانية في العراق، بعد العاصمة، وتنتشر في أجزاء كبيرة من محافظات الأنبار وصلاح الدين وكركوك وديالى وحزام بغداد وشمال محافظة بابل، وهي مناطق تزيد على 70 بالمئة من مساحة العراق العربي (مساحة محافظة الأنبار وحدها تساوي 31 بالمئة من مساحة العراق بما فيه إقليم كردستان) فإن المسؤول الأول عن هذا النجاح هو نوري المالكي شخصيا وسياسيا ورسميا، حتى يخيل للكثيرين أنه وبسبب كراهيته للسنة العرب، ربما تواطأ مع داعش في إطار “التخادم السياسي المشترك غير المباشر” على احتلال مناطق يدرك أنها لا تطيقه ولا تستجيب لسطوة حزبه الطائفي، وإلا كيف يعقل أن يهرب من الموصل وحدها قادة تلمع على أكتافهم النجوم وشرائط الركن الحمراء، وهم خمسة فرقاء و17 لواء و29 عميدا و42 عقيدا و1268 ضابطا من رتبة مقدم فما دون، و70 ألف جندي ومنتسب (حسب إحصاءات وزارة الدفاع) في أقل من ساعتين أمام مسلحي داعش، وكل التقارير الاستخبارية تؤكد أن عددهم لا يتجاوز 700 مهاجم فقط؟
ومما يؤكد علامات هذا “التخادم” أن طائرات المالكي ومنذ العاشر من حزيران/يونيو الماضي لا تغير إلا على الأحياء السكنية، ولا تضرب غير أهداف مدنية، ولا تقصف غير محطات الكهرباء والماء ومخازن السلع في المدينة، بينما مقرات داعش ومعسكراتها ونقاط تمركزها وسيطرتها، وهي معروفة ومكشوفة، في حرز أمين.
وإذا كان المالكي الخاسر الأول من أحداث التاسع من حزيران/يونيو الماضي، فإن الخاسر الثاني هو مجموعة السياسيين والنواب والوزراء الذين ادعوا تمثيل السنة العرب في “العملية السياسية” وأبرزهم: رئيس مجلس النواب السابق أسامة النجيفي، ووزير المالية المستقيل رافع العيساوي، ونائب المالكي لشؤون الخدمات صالح المطلك، ورئيس كتلة “الحل” جمال كربولي، ومعهم أنفار مستفيدون منهم نيابيا وماليا وتجاريا، وهؤلاء الأربعة- بالتحديد- فقدوا المبادرة والتأثير في الأحداث وبـاتوا مجرد متفرجين على المشهد.
فهم خسروا مناطق نفوذهم التي كانوا يزعمون أنهم يمثلونها وخصوصا في الموصل والأنبار، وهم أيضا على وشك خسارة مواقعهم السياسية والوزارية والنيابية التي كانوا يستغلونها لكسب المقاولين ورجال الأعمال الذين كانوا أول من شم رائحة زوالهم، والدليل على ذلك أن رئيس مجلس النواب الجديد سليم الجبوري تلقى في آخر زيارة للعاصمة الأردنية، قبل أيام، عشرات الدعوات من قبل أتباع هذا (الرباعي) للقائه وتقديم الولاء له، ولكن الجبوري اعتذر منهم، وفضل حضور لقاءات رصينة ذات طابع سياسي وفكري وثقافي حفلت بالحوار والنقاش الجاد وتبادل الآراء، أبرزها اللقاء الذي شهده منزل النائب السابق والسياسي المستقل حسين الفلوجي.
ويبدو أن النجيفي والعيساوي وهما متحالفان ضمن ما يسمى بكتلة “متحدون للإصلاح” التي تشققت وتحولت إلى أكثر من كتلة أوسعها نيابيا كتلة “اتحاد القوى الوطنية” بقيادة سليم الجبوري، وجدا أنهما أصبحا “فوق الرف”، وفقدا القدرة على التدخل في الأحداث الدراماتيكية التي أنتجها التاسع من يونيو الماضي أو التأثير فيها، فعمدا إلى تسويق فكرة إنشاء “صحوات” جديدة تتولى التصدي لـ”داعش” في المناطق والمحافظات السنية العربية، ولأن الاثنين يدركان أن كلمة أو مفردة “الصحوة” تجد نفورا من المزاج السني، فإنهما سعيا إلى اختراع تسمية جديدة لقواتهما الموعودة “الحرس الشعبي” يتم تسليحها وتجهيزها عسكريا من قبل هادي العامري قائد ميليشيا بدر، وحجتهما أنهما لا يريدان أن يكون “حرسهما الشعبي” جزءا من القوات الحكومية، وهما يعرفان، سلفا، أن ميليشيات العامري هي وحدات عسكرية تتبع الحرس الثوري والجيش الإيراني، وتتلقى التوجيهات من قم وطهران.
وشخصيا اعتذرت عن حضور دعوة خصصت للعيساوي في منزل أحد الأصدقاء لعرض فكرته بهذا الخصوص، لأنني من خلال تجربتي ومتابعاتي السياسية والاجتماعية والصحفية، توصلت إلى قناعة بأن هذه الطبقة لم تعد تنفع السنة العرب، ولا تملك رؤية استراتيجية لمستقبل الملايين منهم، في وقت أثبتت القيادات الكردية والشيعية أنها قادرة على الفعل وخدمة جمهورها ومناطقها، حتى عندما تختلف في ما بينها حزبيا أو تتنافس على الصدارة، ولاحظنا كيف تم انتخاب فؤاد معصوم لرئاسة الجمهورية، واختيار حيدر العبادي رئيسا للوزراء، في الحالة الأولى رضي برهم صالح الأقوى حضورا ومكانة وعلاقات بالأضعف منه، وفي الثانية تنازل المالكي المعروف بعناده ووقاحته وانسحب لصالح مساعد له أقل دورا ومرتبة.
وصحيح أن السنة العرب في العراق مجتمع “متمدن” تاريخيا واجتماعيا، وليس متشددا دينيا أو طائفيا، ولا ينسجم مع توجهات “داعش” المتطرفة ولا يتوافق مع منهجها العقائدي القائم على العنف، إلا أن الصحيح أيضا أن الشارع السني العربي تعب جدا، ووصل إلى حد الإرهاق مما تعرض له من قهر واضطهاد وتهميش وإقصاء وتنكيل وتقتيل طيلة أحد عشر عاما.
وبالتالي فإنه غير مستعد لتجريب صيغة (النجيفي والعيساوي) ليكون بين مطرقة دولة الميليشيات الشيعية، وسندان دولة الخلافة الإسلامية، وهو الآن أشبه بهدف يتلقى البراميل المتفجرة والصواريخ والقذائف من كل نوع وشكل حتى المحرمة دوليا، ويتعرض، يوميا، إلى حملات دهم واعتقال واغتيال جماعية، في حين تحاصره “داعش” وتفرض عليه البيعة والمبايعة بالقوة والإكراه، أما ممثلوه المزعومون فإنهم يتنقلون بين بغداد وأربيل وعواصم المتعة والاسترخاء.
إن النجيفي والعيساوي يرتكبان إثما كبيرا وجرما خطيرا، إذا أقدما على مشروعهما المشبوه ونجحا في توريط بعض السنة العرب والزج بهم في تشكيلات حرسهما الشعبي أو صحواتهما الجديدة، لأنهما يدركان جيدا أن من يصطف معهما إذا نجا من ذبح الدواعش، فإن رصاصة غادرة من عصائب الخزعلي أو ميليشيات العامري ستقتله ولو بعد حين.
السنة العرب في العراق يُدفعون اليوم إلى محرقة جديدة، يراد لهم أن يدافعوا عن دولة فاشلة قمعتهم وأذلتهم، ويحاربوا دولة هائجة وفدت على مناطقهم واحتلت مدنهم، والمصيبة الأعظم أن جلاديهم والمحسوبين عليهم- كل من موقعه- يلوحون لهم بـ”الخلاص”، وهو خلاص خادع بالتأكيد.
714 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع