د. نزار السامرائي
تعرض العراق لظروف عصيبة اختلط فيها التهميش والإقصاء بالقتل والتهجير والاعتقال الكيفي على الهوية، وتعرض المعتقلون من الرجال والنساء وصغار السن إلى عملية تعذيب ممنهجة مورست بأوامر عليا أو أن الجهات العليا غضت النظر عنها بهدف انتزاع اعترافات كاذبة تضمنت الإقرار بالمشاركة في عمليات "إرهابية" من تفجير أو قتل ثبت لاحقا أنها لا وجود لها أصلا إلا في مخيلة المحققين الذين احترفوا مهنة التعذيب الحاطة من كرامة الإنسان.
وعلى الرغم من أن أرقاما دقيقة لعدد المعتقلين في السنوات اللاحقة للاحتلال لم تصدر من جهات مستقلة بحيث توفر للباحثين فرصة عقد المقارنات وإجراء الدراسات القانونية والاجتماعية، إلا أن الحكومات المتعاقبة ظلت تنفي وجود معتقلين في سجونها الرسمية وغير الرسمية وظلت تؤكد أن جميع نزلاء السجون هم من مرتكبي الجرائم العادية أو من الإرهابيين.
علينا هنا أن نتذكر أن مصطلح السجين ينصرف إلى الأشخاص الذين صدرت بحقهم أحكام قضائية متخصصة حصرا، إلا أن واقع الحال يقرأ المشهد بصورة مختلفة تماما، فهناك آلاف المعتقلين الذين تم إلقاء القبض عليهم في ظروف استثنائية واستنادا إلى وشايات صادرة عن المخبر السري إما نتيجة ضغائن أو رغبة في الحصول على المكافأة المالية التي تخصصها الحكومة لمثل هذه الممارسات، ومن هنا يمكن أن نجد التفسير الوحيد لإصرار وزير العدل أو وزير حقوق الإنسان في حكومة المالكي على نفي وقوع انتهاكات لحقوق السجناء أو تعريضهم للتعذيب على الرغم من أن المحكومين أنفسهم لم يسلموا من انتهاكات لحقوقهم الإنسانية الأساسية المنصوص عليها في اللوائح والصكوك الدولية الصادرة عن المنظمات التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية والإنسانية.
أصبح القضاء العراقي بعد الاحتلال الأمريكي قضاء مسيسا بصورة غير مسبوقة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، نتيجة لإحكام السيطرة عليه من جانب السلطة التنفيذية والقضم التدريجي لصلاحياته من جانب الحكومة، بسبب إشاعة أجواء من الحشد الطائفي وتصرف رئاسة السلطة القضائية استنادا إلى هذا المنطق المنحاز، وكذلك لوقوع القضاة تحت سيطرة المليشيات الطائفية التي كانت تتحرك بتناغم مع رغبات السلطة التنفيذية، فضلا عن تحكم الأخيرة بمصائر القضاة وسائر العاملين في السلك القضائي من حيث المرتبات والترقيات والترفيعات والعلاوات أو الإحالة على التقاعد أو الفصل استنادا إلى ملفات معتقة، على الرغم من أن هذه الأمور الفنية ترتبط بالسلطة القضائية نفسها حسب ما نصت عليه القوانين المرعية، مع ذلك كله فقد حصلت انتهاكات صارخة في إجراءات التقاضي كان المتهمون الطرف الضعيف فيها على الرغم من أن النصوص القانونية تفسر لصالح المتهمين وهذه قاعدة قانونية عامة لا يختص فيها القضاء العراقي لوحده، ومن أسوأ صور تعطيل دور السلطة القضائية أن المعتقلين الذين تثبت براءتهم لا يتم إطلاق سراحهم إلا بعد مدد طويلة وذلك من أجل الحصول على أموال كفدية لعصابات منظمة تتاجر بمصائر المواطنين الأبرياء بدلا من التعويض عليهم نتيجة ما لحق بهم من ظلم وحيف.
مقابل هذا التعتيم المقصود من جانب الحكومة في العراق، فإن المنظمات الحقوقية الدولية وقوى المعارضة السياسية أو المسلحة تطرح أرقاما مرعبة عن أعداد المعتقلين والصور المؤلمة لما يلاقونه من تعذيب وانتهاكات تصل حد الاغتصاب الجنسي للرجال والنساء على حد سواء، وفي هذا الصدد يأتي تقرير الأمين العام للأمم المتحدة الذي رفعه لمجلس الأمن الدولي في 14/3/2014 عملا بالفقرة 6 من قرار مجلس الأمن المرقم 2110 لسنة 2013، في الفقرة ثالثا جيم 34، ليضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بما يسمى مبدأ سيادة القانون إذ يقول الأمين العام في تقريره استنادا إلى تقارير بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق (يونامي)، إنه "يساوره قلق بالغ فيما يتعلق بعمليات الاحتجاز والاعتقال التي تم الاضطلاع بها، خصوصا العمليات التي جرت بموجب قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لعام 2005، ولا تزال البعثة تتلقى تقارير عن أفراد يجري القبض عليهم في أثناء عمليات أمنية دون أي أدلة تثبت إدانتهم، وأشخاص يجري اعتقالهم بدون تهمة لفترات طويلة تمتد لخمس سنوات، ومعتقلين من النساء والرجال في مرافق تديرها وزارة الداخلية يتعرضون للتعذيب وإساءة المعاملة لانتزاع اعترافات تبرّر توجيه الاتهام والمحاكمة والإدانة".
الاعتقال الكيفي والتعذيب في المعتقلات والسجون الحكومية.
استعانت القوات الأمريكية التي احتلت العراق عام 2003 بسجن أبو غريب القريب من بغداد وحولته إلى معتقل لكل الأشخاص الذين تصدّوا للاحتلال العسكري من عسكريين سابقين وشباب أخذتهم الحمية الوطنية أو الدينية للدفاع عن وطنهم، وامتلأت ردهات السجن المذكور خلال شهور معدودة بآلاف المعتقلين بتهم مختلفة، ونتيجة لرغبة القوات الأمريكية في الحصول على معلومات أمنية ذات قيمة في مواجهة المقاومة المسلحة التي أخذت تزعج القيادتين السياسية والعسكرية الأمريكيتين بسبب الخشية من تكرار التجربة الفيتنامية المرة فقد مارست سلطات السجن أشكالا قاسية من التعذيب الذي أدى إلى حصول هزة سياسية في الولايات المتحدة.
إذ بدأ المعتقلون يتعرضون لتعذيب منهجي تضمن الإيهام بالغرق والصعق الكهربائي على المناطق الحساسة من أجسام المعتقلين، إلى محاولات إذلال المعتقلين بتكديسهم مع بعضهم وهم عراة وتصويرهم من قبل جنود أمريكيين، وبعد أن تفجرت هذه الفضيحة تم فتح التحقيق في ملابساتها خاصة بعد أن تحولت إلى مادة للصحافة وقنوات التلفزيون التي طرحت تساؤلا مريرا عن مصداقية منظومة القيم الأمريكية عن الحرية وحقوق الإنسان، إذا كانت هي التي تقود بنفسها مثل هذه الممارسات الشاذة، وتأكد من سير التحقيقات أن الرئيس الأمريكي وقت الغزو جورج بوش الابن ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد، هم الذين أجازوا هذا النوع من الممارسات الحاطة من كرامة الإنسان، وتقرير الأمين العام للأمم المتحدة آنف الذكر يشير صراحة إلى استمرار الأساليب التي اعتمدتها القوات الأمريكية المحتلة مع أن الجهات الحاكمة الآن ليست بحاجة إلى خبرة الولايات المتحدة في ابتكار فنون التعذيب.
على العموم تعرضت سمعة أمريكا وهيبتها في الأسرة الدولية إلى هزة عنيفة بعد الكشف عما جرى في سجن أبو غريب، وكعادتها فقد بحثت عن شمعات تعلق عليها خطاياها، فوجدت في فضيحة التعذيب الذي شهده سجن الجادرية في الرصافة في منتصف تشرين الثاني عام 2005 فرصته لتقدم نفسها مدافعة عن حقوق الإنسان في العراق والوقوف ضد الانتهاكات التي يتعرض لها، وتتلخص قضية سجن الجادرية أن قوة أمريكية تلقت تقارير عن وقوع انتهاكات وعمليات تعذيب وحشية فيه، فقامت قوة بمداهمة الملجأ بقيادة الجنرال الأمريكي هورست يساعده العقيد دسيالفو، في البداية تم اللقاء بالعميد عباس من وزارة الداخلية والمسؤول عن المعتقل حيث طلب منه الجنرال الأمريكي هورست تقديم كشف بأسماء المعتقلين، فأجاب بالحرف الواحد لا يوجد معتقلون سوى (41) معتقلا وتم تسفيرهم والباقون سبعة فقط، عندها طلب الجنرال هورست من العميد عباس فتح كافة الردهات والغرف لغرض التأكد من أوضاعها، وبعد أن فتحت الغرف وجدت القوات الأمريكية في الزنزانات اكثر من 227 معتقلا معظمهم تعرضوا إلى تعذيب شديد حيث كانت آثار التعذيب واضحة على أجسامهم وتم تصويرهم من قبل القوات الأمريكية وقال الجنرال هورست والكولونيل دسيالفو إلى العميد عباس لماذا تكذب علينا.
وروت وثيقة سرية كان "اللواء جواد رومي الدايني" قائد قاطع الرصافة في وزارة الدفاع قد وجهها إلى رئيس الوزراء في ذلك الوقت إبراهيم الجعفري باعتباره قائدا عاما للقوات المسلحة "مشاهد تقشعر لها الأبدان" على حد ما جاء في رسالة اللواء الدايني، جراء الممارسات التي كانت تجري في المعتقل، منها أن التعذيب كان باديا على الـ 227 معتقلا وليس على سبعة معتقلين فقط، كما أعلن وزير الداخلية في وقت الكشف عن الفضيحة باقر جبر صولاغ في مؤتمر صحفي عقده بعد أن تناولتها أجهزة الإعلام بالحديث، مبررا تعذيبهم بأنهم "من أخطر الإرهابيين"، كما روت الوثيقة حكاية أحد المعتقلين الذي اغتصبت "قوات الحسين" زوجته أمامه وأمام أشقائه الأربعة.
معنى الحديث الذي أدلى به صولاغ أنه يجيز من حيث المبدأ، التعذيب مع من يعتبرهم من الإرهابيين مع أن هذه التهمة لم تثبت عليهم لأنهم لم يعرضوا على محاكم متخصصة، وركز صولاغ على رقم السبعة فقط الذين قال إنهم تعرضوا للتعذيب مع أن الرقم الذي طرحه في مؤتمره الصحفي كان مختلفا عن نتائج زيارة القوة الأمريكية التي داهمت السجن ولكن صولاغ لم يعط تعهدا بفتح تحقيق في ملابسات الواقعة التي هزت الشارع العراقي في حينها، هذا الأمر يرتبط بثقافة جديدة بدأت تتسرب إلى المجتمع العراقي بخطوات قوية، ومن المؤكد أن القوات الأمريكية أسست لنظام أمني يتصف بنزعة عدوانية استباقية ونقلته إلى وسائل الاحتجاز على الشبهة والظن، وسلمته بكل آلياته إلى سلطة ومليشيات تحمل مورثا هائلا من الضغينة والحقد والشحن الطائفي.
أما ما جرى في سجن ساحة النسور فكان شبيها بما حصل في الجادرية، فذلك السجن سري أيضا ويتبع لوزارة الداخلية، وتم الكشف عنه بعد شهر واحد من الكشف عن فضيحة سجن الجادرية، وكشف النقاب عن وجود 600 معتقل من المكون السني تعرضوا لمختلف أشكال التعذيب الذي لا يختلف كثيرا عن المشاهد التي كانت سائدة في سجن الجادرية وقبل ذلك في سجن أبو غريب، وقال كثير من المعتقلين إنهم اعتقلوا من الشارع أو من أماكن عملهم من دون أن توجه لهم تهمة رسمية، وأفادوا بأنهم أرغموا على توقيع محاضر تتضمن اعترافات بارتكاب جرائم خطيرة، وقالت وزارة حقوق الإنسان العراقية إن تحقيقا سيفتح بشأن هذه الانتهاكات، مشيرة إلى أن 56 من المعتقلين في السجن الذي تم تفتيشه جرى الإفراج عنهم في الحال بعد التفتيش كما نقل 75 إلى سجن آخر، لكن اللواء منتظر السامرائي الذي سبق له أن عمل في الأجهزة الأمنية بعد الاحتلال الأمريكي، قال في برنامج وثائقي بثته قناة الجزيرة الفضائية في 13/12/2005، إن أمورا مروعة كانت تحصل داخل مراكز الاعتقال التابعة لوزارة الداخلية، واتهم مليشيا قوات بدر الشيعية بارتكاب عمليات التعذيب التي كانت تحصل بصورة منتظمة في عشرة من مراكز الاعتقال السرية، ثلاثة منها في بفداد، كما أفاد بوجود سجون للنساء في الكاظمية والرشاد حيث تتعرض المعتقلات فيها إلى التعذيب والاغتصاب.
هذه الصور القديمة التي ظلت سائدة في الشارع العراق وعانى من ويلاتها المكون السني، لم تتوقف على الإطلاق، بل اتسع نطاقها على نحو متسارع وخاصة بعد تفجير القبة الذهبية في سامراء في 22 شباط 2006، وأخذت طابعا رسميا عنيفا تجسد في تفشي ظاهرة الاستهداف بوسائل بشعة جدا مثل الحرق والتمثيل بالجثث من قبل المليشيات التي كانت تحصل على الغطاء الرسمي من قبل أجهزة الأمن الحكومية التي شاركت في الاعتقال على الهوية ونفذت عمليات خطف للمواطنين في شوارع المدن العراقية استنادا إلى الهوية المذهبية.
ومن المفارقات الطريفة أن باقر صولاغ جبر وزير الداخلية في ذلك الوقت والمسؤول الأعلى عن سجون وزارة الداخلية، والنائب عن المجلس الأعلى الإسلامي تحدث مع برنامج المختصر الذي يقدمه الإعلامي عبد الحميد الصايح من قناة البغدادية في 15/6/2014، فقال إن نائب رئيس الوزراء حسين الشهرستاني أبلغه بأن امرأة أمضت في السجن ست سنوات، وأنه أي الشهرستاني طلب ملفها فلم يجد فيه إلا ورقة واحدة فقط مكتوب فيها أنه عثر على ابنها وهو يحمل كيس نايلون أسود اللون وأن هذا الكيس كان يحتوي على مواد ذات استخدام عسكري، فأمضت في السجن ست سنوات عقوبة لها على عمل لم ترتكبه، وأضاف صولاغ إن الشهرستاني أبلغه بأن هذا هو الظلم بعين، وأردف إن الذي يراد إطلاق سراحه يأخذ الأمر ستة أشهر على الأقل ولا يطلق سراحه من أجل ابتزاز أسرته وأخذ الفدية.
قانون مكافحة الإرهاب وتأثيراته على خرق حقوق الإنسان
وكان لصدور قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005 الدور الأسوأ في إطلاق يد المليشيات وأجهزة الأمن التابعة للحكومة لممارسة الإرهاب الموازي "أي إرهاب السلطة ضد المواطن" وتم تفعيل المادة 4 من القانون المذكور حتى سميت تلك المادة من قبل الأوساط السياسية والشعبية بالمادة 4 سنة، لأنها استباحت المدن السنية أو الأحيان السنية في المدن المختلطة، وسيق عشرات الآلاف من المواطنين الأبرياء إلى سجون الحكومة من دون ذنب اقترفوه إلا ما كان يصل من وشايات المخبر السري، ولعل مضمون المادة المذكورة الذي يأتي بالأم أو الأب أو الزوجة أو البنت رهينة حتى يسلم المطلوب نفسه ما يتصادم مع الحكم القرآني الذي يقول "ولا تزر وازرة وزر أخرى" ومع ذلك فإن الأحزاب الحاكمة تزين أواخر أسمائها بعبارة الإسلامية.
ويشير تقرير صدر عن منظمة العفو الدولية نهاية عام 2011 إلى أن المعتقلين كانوا يتعرضون للتعذيب وغيره من صنوف المعاملة السيئة حتى أصبح ذلك أمراً متفشياً في السجون العراقية، وخاصة تلك التي تخضع لسيطرة وزارتي الدفاع والداخلية، فقد تعرض معتقلون للضرب بالأسلاك وخراطيم المياه، وللتعليق من أطرافهم لفترات طويلة، وللصعق بالصدمات الكهربائية، ولكسر أطرافهم، وللوضع على حافة الاختناق باستخدام أكياس بلاستيكية، وللاغتصاب أو التهديد بالاغتصاب، واستُخدم التعذيب لانتزاع معلومات و«اعترافات» من المعتقلين يمكن استخدامها كأدلة ضدهم في المحاكم، وقد أظهرت الوثائق السرية للقوات الأمريكية في العراق، والتي نشرها موقع «ويكيليكس» في أكتوبر/تشرين الأول، أن جنوداً أمريكيين قد أبلغوا قادتهم في مرات كثيرة بأدلة عن حالات التعذيب على أيدي قوات الأمن العراقية، وذلك حتى نهاية عام 2009، إلا إن هذه البلاغات لم تسفر عن إجراء تحقيقات، على ما يبدو.
ويمضي التقرير فيشير إلى أن أنباء ذكرت في نيسان عام 2011، أنه قد كُشف النقاب عن مركز احتجاز سري في مطار المثنى السابق في وسط بغداد، كان يُحتجز به ما يزيد عن 400 معتقل، ومعظمهم من السنَّة الذين قُبض عليهم في الموصل في أواخر عام 2009. وكان هذا السجن السري، الذي ذكر معظم السجناء فيه إنهم تعرضوا للتعذيب، يخضع لإشراف مكتب رئيس الوزراء نوري المالكي، حسبما ورد، وقد أفرجت الحكومة عن حوالي 95 من المعتقلين ونقلت الباقين إلى سجن الرصافة في بغداد، ونفت الحكومة أن يكون سجن مطار المثنى سرياً، ولكنها أغلقته وقبضت على ثلاثة ضباط من وحدة الجيش التي كانت تديره.
من المعروف أن مراكز الاعتقال في عراق ما بعد الاحتلال تعددت وانشطرت بصورة غير معهودة، فإضافة إلى أن مراكز الشرطة الثابتة في مختلف المناطق تحتوي على "مواقف" تضيق في كثير من الأحيان عن قدرتها على الإيواء، فإن مقار الوحدات العسكرية "الأفواج" تضم "مواقف" هي الأخرى وتزج فيها كل من تشتبه بضلوعه بعمل مسلح في منطقة عملياتها، أو يحمل اسما غير مرغوب فيه من قبل الجهات المتنفذة في الحكومة، مثل اسم عمر أو بكر أو مروان الخ... وعادة ما تعمل هذه الوحدات بل وحتى السرايا، من استناد إلى أخلاقي أو ديني أو قانوني، فمعظم هذه الوحدات تم تزويدها بمذكرات اعتقال موقعة من جانب قضاة ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا جزء من الاحتيال والالتفاف على القواعد القانونية الواجبة الاتباع عند إلقاء القبض على المطلوبين.
وتتوسع دائرة "المواقف" ليكون هناك واحدا في مقر اللواء وكذلك في مقر الفرقة وقيادة العمليات، هذا بخلاف "المواقف" التابعة لوزارة الداخلية والأجهزة الأمنية وهي معتقلات ومواقف سرية، تم اكتشاف بعضها مصادفة نتيجة افتضاح الانتهاكات الصارخة التي وقعت فيها، مثل ما جرى في سجن الجادرية وسجن ساحة النسور وسجن الشرف القريب من مكتب رئيس الوزراء في المنطقة الخضراء وسجن الحوت، وكل هذه المعتقلات لا تتبع وزارة العدل وبالتالي لا تنطبق عليها شروط التعامل مع النزلاء المنصوص عليها في القانون على الرغم من أنها تخضع لوسائل التعذيب أيضا.
إن ما يجري في هذه السجون والمعتقلات السرية والعلنية وراء ستار حديدي لم تستطع المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية من اختراقه، ولكن التعذيب أصبح سمة لازمة للأجهزة الأمنية والوحدات العسكرية والمليشيات المرتبطة بالحكومة ويستهدف فيها مكون واحد بدرجة استثنائية دون أن يعني ذلك أن التعذيب لا يمتد إلى المعارضين من المكونات الأخرى، ويؤكد تقرير الأمين العام للأمم المتحدة المشار إليه في هذه الورقة في الفقرة ثالثا جيم 35، أن المحاكم الجنائية لاسيما للأفراد المتهمين بموجب قانون مكافحة الإرهاب أخفقت في كثير من الأحيان في الالتزام بمعايير المحاكمة العادلة بل رفضها التحقيق في وادعاءات المتهمين بأن الاعترافات انتزعت منهم تحت التعذيب وأكد أن تلك المحاكم اعتمدت في دعم أحكام الإدانة على شهادات لمخبرين سريين ولم يجر التثبت منها الأمر الذي أفضى في حالات كثيرة إلى أحكام بالإعدام.
وخلاصة القول فإن المراقب المحايد يستطيع الجزم بأن ما كان يحصل في سجن أبو غريب أو الجادرية أو ساحة النسور، مستمر وعلى نطاق أوسع مما كان يحصل في ذلك الوقت، لأن الحكومة سلمت مراكز الاعتقال إلى مليشيات طائفية ظلت تعيش هاجس الانتقام، هذا فضلا عن أن الأجهزة الأمنية هي بالأصل منحدرة من مليشيات شيعية تم دمجها من قبل الحاكم الأمريكي بول بريمر وأصبح من المستحيل ترويضها لقبول فكرة احترام حقوق الإنسان واحترام كرامة المعتقلين، وبسبب الأحداث التي رافقت اندلاع الحراك الشعبي نهاية عام 2012 فقد توسعت دائرة الاعتقال الكيفي وخارج القانون وسلطة القضاء، فامتلأت السجون وتحولت حرية المعتقلين إلى تجارة رابحة للسجانين وآمري الوحدات والألوية وحتى قادة الفرق والقوات ورؤسائهم في السلطة السياسية.
وأخيرا هل يجيز الدستور الذي أصدرته العملية السياسية التي جاء بها الاحتلال الأمريكي، التعذيب وانتهاك حقوق المعتقلين أم أن له موقف آخر؟
وضعت المادة 37 من دستور 2005 قواعد شكلية مهمة في تأكيد حقوق الإنسان وكرامته، ولكنها بقيت نصوصا مفرغة من أية قيمة ميدانية على الأرض، تقول الفقرة (أ) من المادة المذكورة ما نصه (حرية الإنسان وكرامته مصونة)، أما الفقرة (ب) فنصت على (لا يجوز توقيف أحد أو التحقيق معه إلا بموجب أمر قضائي، وأخيرا جاءت الفقرة (ج) قاطعة في نصها إذ تقول (يحرم جميع أنواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الإنسانية ولا عبرة بأي اعتراف انتزع بالإكراه أو التهديد أو التعذيب) هذه النصوص الجميلة ظلت وكأنها ديكور سياسي الهدف الظهور بمظاهر زائفة أمام الرأي العام العالمي، فالعبرة ليست بالنصوص وإنما بمصداقية الطرف الذي يمتلك السلطة في وضعها موضع التطبيق، كما أن المادة 9 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نصت على (كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤّمن فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه)، وهذه الأحكام ملزمة للحكومات قبل الأفراد والجماعات لأنها هي المكلفة أصلا بالسهر على تطبيق القوانين.
644 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع