عايدة رزق
كان فى طريقه إلى القمر على متن سفينة الفضاء «أبوللو 21»التى ضربتها الصواعق بعد دقائق قليلة من إقلاعها .. فأضاءت كل اللمبات التحذيرية الموجودة على لوحة التحكم فى السفينة.
عندئذ تذكر «آلان بيين» قائد الفريق الموجود على متنها أنه خلال فترة تدريبه على قيادة الطائرات تعلم أن هناك سؤالا واحدا ينبغى أن يسأله الطيار لنفسه حين يواجه مشكلة اثناء الطيران وهو: «هل ما زالت الطائرة تطير؟».. لأنه عندما يدرك أن الطائرة تسير متجهة صوب الهدف سيتمكن من الاحتفاظ برباطة جأشه .. وبالتالى سيمتلك القدرة على التفكير السليم والبحث بهدوء عن الحلول السريعة لتعود الأمور إلى وضعها الطبيعي.
ويقول «آلان بيين».. أن هذا السؤال عندما قفز إلى ذهنه لحظة أن لمحت عينيه لمبات التحذير المضاءة .. اجتاحه شعور بالطمأنينة .. لأن الإجابة كانت تؤكد أن سفينة الفضاء لم تكن فقط مستمرة فى الطيران .. بل كانت أيضا منطلقة فى الاتجاه الصحيح نحو القمر .. لذلك قرر عدم الغاء المهمة .. والبدء فورا بالتعامل بصبر وهدوء مع كل لمبة من اللمبات المضاءة .. وهكذا تم اصلاح جميع الأعطال .. وعادت الأجهزة تعمل بالشكل الصحيح.
المدهش أن ما فعله رواد الفضاء على متن السفينة حين تعطلت الأجهزة يفعله الآن المصريون .. فقد أبصروا اللمبات الحمراء مضاءة فى كل مكان حولهم .. لمبة الاقتصاد .. لمبة الفقر .. لمبة الإرهاب .. لمبة البطالة .. لمبة الكهرباء .. لمبة المياه .. ولمبات أخرى كثيرة .. ومع ذلك قرروا أن يتحلوا بالصبر والهدوء .. لأنهم حين سألوا أنفسهم: هل الطائرة تسير متجهة صوب الهدف؟ .. كان الجواب: نعم الوطن يمضى فى الطريق الصحيح .. وهكذا أعاد هذا الموقف إلى المصريين صفة كانوا قد فقدوها فى العقود الأخيرة .. وهى الصبر.
وقصة الصبر مع المصريين .. قصة طويلة ومعقدة .. بدأت حين كانوا ينتظرون عودة الأهل والأحباب من الصيد .. وينتظرون انحسار الأوبئة التى كانت تجتاح البلاد من وقت لآخر .. وينتظرون الطقس المناسب للزراعة .. وينتظرون نمو البذور التى يزرعونها فى الأرض .. وليساعدوا أنفسهم على الانتظار .. ابتدع الحكماء منهم مثل جميل هو الصبر مفتاح الفرج.
مرت سنوات .. وأشرقت شموس وغربت .. وجاء وقت اكتشف فيه المصريون أن انتظارهم طال أكثر مما ينبغى .. ومع ذلك لم يأت الفرج .. ينتظرون ساعات وساعات فى طابور طويل .. وفى النهاية يسمعون من يقول لهم «فوت علينا بكرة يا سيد» أو «ما فيش يا أستاذ» .. ينتظرون أعواما للبت فى دعاوى رفعوها ضد خصومهم.. وفى النهاية لا يجدون من يساعدهم على تنفيذ العدالة .. ينتظرون سنويا علاوة تصلح حالهم .. وفى النهاية يلتهمها تجار جشعون وبشر مرتشون وسماسرة نصابون .. ينتظرون عقودا عديدة لرؤية وعود المسئولين على أرض الواقع .. وفى النهاية يفهمون أنها أوهام وأكاذيب وكلام معسول .. حينئذ أدركوا أن الفرج لن يأت عن طريق الصبر .. وهنا اكتسبوا صفة لم تكن من سماتهم وهى نفاد الصبر التى رصدها بسرعة أساتذة علم الاجتماع والنفس الذين تأكدوا وهم يقومون بإجراء أبحاثهم عن التحولات الخطيرة التى حدثت فى الشخصية المصرية .. أن الصبر قد اختفى من قائمة الصفات التى يتحلى بها هذا الشعب الذى أذهل الجميع حين سارع باسترداد هذه الصفة حين لمح شعاع ضوء يلمع فى الأفق البعيد. وحين شعر بالثقة بأن هناك غدا مشرقا فى انتظاره .. .. وحين تأكد من أن المسئولين يقولون له الحقائق ولا يحاولون خداعه.
وتبقى عبارة لمفكر أجنبى .. قرأتها منذ فترة طويلة وفهمتها الآن وهي: نحن ننطلق نحو المستقبل بقوة إرادتنا.. وبقوة صبرنا.
1005 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع