علي السوداني
سأذهب الليلة الحسراء مذهبَ كتابةٍ لا تدويخَ فيها ولا كبير جدلٍ حولها ولا انولادَ مَنطحةٍ على أسوارها ، بل هي من ينابيع الحنين الذي يستجلبُ الشجن حتى لو كان غاطساً في بحر الظلمات . أيام حنينة مُشجنة تسيح فوقها مرارة مستلةً من طعم فنجان المقهى البرازيلية المعروفة .
على طول وعرض السبعينيات الجميلة ومفتتح الثمانينيات ومدافعها الطنّانة من جهة الشرق ، كنت مزروعاً بباب سينما بابل بشارع السعدون من أعمال أُمّ البلاد بغداد الحلوة . عرَبانة مكسّرات وبزر وفق معجم الشوام والفراعنة ، وحَبْ على تسمية أهل العراق . ألعربة تحمل فوق مستطيلها الخشبيّ المشغول في ورشة جلال السمين ، ما اشتهر من تسالي ومفضّلات زبائن السينما الفرادى والعائلات الأنيقة بالزلوف والجارلس والميني جوب والخنافس والروغان . ثلاثية العربة الجوهرية كانت هي " حَبْ سكائر علك " ومن أصناف الكرزات كان الحَب الأحمر والأسود والأبيض والفستق بأصنافه المالحة والحامضة والسادة والعبيد والبندق ونبات آخر رأسه منبتة شوك اسمه السسّي الذي لا صلة له بالزعيم عبد الفتاح ، والحمّص القويّ والهشّ وحبة خضرة والبطم المملّح الذي أصله حبّة خضرة منزوعٌ جلدها ومنقوعة بماء مالح ، ومن حسن الحظّ هو أنني لم أكن بحاجة إلى العياط على بضاعتي بصوتٍ يكاد يموت من قوة الحياء ، لأنّ العربانة خاصّتنا كانت مشتولة على مبعدة خمسة أشبار من حلق بيع التذاكر وجامخانة الصور الفوتوغرافية التي تُري الناس لقطات منتقاة بعنايةٍ من بدن الفلم المعروض .
بودّي الليلة أن أحكي لكم عن مدير السينما المؤتمن عليها حجّي محمد أبو ثائر . رجلٌ أشيب طويلٌ أريحيٌّ منيرٌ وجههُ ، تتكسّر مهنتهُ أحايين كثيرة ، فهو بائع البطاقات ومرقّمها بالقلم الجاف في حال غيابٍ مباغتٍ لأبي سعد أو بهجت أو أبي عماد ، وهو الرقيب الذي يشاهد الشريط السينمائي قبل عرضهِ ، لتنظيفهِ من جملة سياسية حادّة ، أو من فخذٍ معلنٍ لسهير رمزي أو ميرفت أمين أو نبيلة عبيد أو ناهد شريف أو نادية لطفي ، إذ غالباً ما يؤدي إشهار هذه الأفخاذ والنهود الفائرة والقبل الحارقة ، إلى زفّة صفير شعبية مبتذلة ، فيقوم أبو ثائر الذي لا رادَّ لقولهِ ، بقصّ المقطع وإبقاء الإيحاء ، ليدفع تالياً مشغّل ماكنة العرض وارتكيس الطويل ثمن هذا القطع القاسي مدافاً بمفردة أعور .
كان فلم معبودة الجماهير من بطولة عبد الحليم حافظ وشادية أطول من الشرائط المعتادة ، يومها طلب مالك السينما القويّ مثل العرّاب كورليوني ، عبد الرزاق أبو عارف من المدير الذكي ، قطع عشرة دقائق من الفلم مشروطية أن لا يؤثر الأمر على بنية النصّ وبلبلة المشاهد ، ففعل الحاج بمقصّه وكانت أشهر المشاهد المقصوصة هو مشهد عزومة الجمعة للمساعي الحميدة ، ببيت حليم وحضور زينات صدقي والقصّاب الضحّاك محمد رضا . أكتفي الآن بهذا القنص من أيام راحت ولن تعود .
732 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع