الدكتور/ عبدالرزاق محمد جعفر
في تشرين الأول "أكتوبر" سنة 1960 سافر"صابر" إلى بغداد في مهمة رسمية، وفي أحد الأيام ,.. وبينما كان يتسكع في شارع الرشيد, التقى بزميل دراسته الجامعية,.. وتبادل معه التحية والكلام، وعلم منه عن وجود بعثات, أعلن عنها في مديرية البعثات في وزارة التربية إلى الدول الأشتراكية، حيث جُـمدت البعثات الى الدول الغربية في السنة الأولى لثورة الرابع عشر من تموز 1958.
وفي اليوم التالي واجه صابر مدير البعثات , وبعد تبادل التحية , هنأ المدير صابراً على قبوله في البعثة الى الأتحاد السوفيتي ( روسبا حالياً )لأكمال دراسته العليا للحصول على الدكتوراه في الكيمياء من " كلية الكيمياء في جامعة موسكوMJY",.. وطلب منه تقديم الوثائق بسرعة,وسـلمه كتاب القبول,وطلب منه المرورعلى مديرالحسابات المالية لأستلام المنحة المالية المخصصة لكل طالب بعثة لشراء ما يلزم له من ملابس,.. وتذكرة السفربالطائرة .
عمل صابر وكالة لأحد زملاءه من المدرسين في ثانوية الزراعة لتولي الأدارة اثناء غيابه عدة ايام لأجراء بعض الفحوصات في بغداد, طالباً منه كتمان الخبر, كما أنه لم يخبرأحداً عـن قبوله في بعثة دراسية لخارج العراق , وودع أهله والأصدقاء بسـرية تامة ،.. وكان ذلك اليوم موجعاً ومؤثراً للغاية يصعب وصـفه بكلمات عابرة، إنها أحاسيس وانفعالات كجمرات في دم "صابر"، فهو,.. ولأول مرة سـيفارق والديه واخوانه لعدة سنوات,.. ليعيش في بلد يجهل طبيعة مجتمعه ومستوى الحياة فيه جهلاً تاماً,..الا ان "صابر" وكعادته لم يأبه بكل المعوقات وتجاوزكل الصعوبات ، مردداً بيتاً من قصيدة الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي :
(ومن يتهيب صعود الجبال = يعش أبَدَ الدهر في الحفر)!
وأضافة الى ذلك فقد غمرته والدته بعبارات أججت فيه الطموح , ووجد منها تشجيعاً غـير مُعلن ، فعلت جبينه هالة من السعادة لم يستطع الأفصاح عنها, فهي مزيج السنوات التي جلس فيها صابراً في حضن أمه وهو طفل صغير, وأيام الصبا والشباب,.. أما والده فقد توشح بالسعادة وهو يودع أصغر أولاده لينال شـهادة الدكتوراه,.. وسيحمل هو لقب ( أبو الدكتور), ولذا أصرَّ على توديعه برفقة العديد من الزملاء لغاية محطة قطار" أُور", الواقعة في محيط مدينة "أور" الأثرية , موطن الكلدانيون وكيـش , و التي تعتبر من اشـهر المدن في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد عندما اتحدت كلا من "دولة سـومر" و"دولة أكًد" مكونة المملكة المتحدة التي استمرت زهاء اربعة قرون, وقد تسلم السلطة فيها عام 2000 ق. م. المشرع حمورابي ,.. كما انها مهد النبي ابراهيم عليه الســلام.
في 31 تشرين الأول (اكتوبر) 1960 ,توجـــه "صابــــر" جواً إلى موسكـو عن طريــق امسـتردام عاصمة هولنــدا, على متن طائرة الخطوط الجوية الهولندية الموسومة بـ (KLM) ووصل في 1/11/1960 " ورفاقه مطار موسكو العالمي , واستقبلهم أحد الطلبة القدامى وكان يجيد اللغة الروسية وقاد "صابر" وجماعته إلى القسم الداخلي للطلبة الأجانب الواقع في منطقة (السوكول) التي لا تبعد كثيراً عن مركز جامعة موسكو(أَم كَو MJY), والتي تعتبرأهم وأرقى جامعة في الأتحاد السوفيتي آنذاك، وما زالت ,فهي تحفة معمارية، بنيت فوق المرتفعات الموسومة بـ (تلال لـيـنـين), المطلة على ضفاف نهر(الفولكا) المخترق للعاصمة "موسكو".
في اليوم التالي لوصول "صابر"، أتم الوثائق اللازمة للتسجيل في معهد اللغة الواقع بنفس بناية القسم الداخلي، مما سهل عملية الوصول للمعهد والتخلص من الطقس البارد والذي لم يتعود عليه "صابر" فقد تـصـل درجة الحرارة الى أقل من (20° مئوية) تحت الصفر, أضافة الى أكوام الثلوج المكدسة على جانبي الطريق, والتي قد يصل ارتفاعها إلى أكثر من متر، إلا أن سيارات النظافة لا تترك تلك الثلوج تتراكم ، فالتنظيف مستمراً ليلاً ونهاراً،.. وبمساهمة المتطوعين في تنظيف ممرات المشاة, ومداخل العمارات والمخازن والدوائر الحكومية.
بدأ "صابر" يشعر بنوع من الراحة النفسية,وفي اليوم الثالث من وصوله، ذهب للنزهة في الساحة الحمراء الشهيرة، وهي من أوسع الساحات في موسكو وفيها (الكرملين), مركز قيادة الحكومة السوفيتية, وفيها منصة الأحتفال فوق مبنى يحتوي على جثمانين محنطين,.. أحدهمالـ (لينين) مؤسس الدولة والثاني لـ (ستالين), الا ان جثمان ستالين احرق ووضع في علبة في جدار الكرملين في عهد التغيير الموسـوم بـ" البريسترويكا , في مطلع التسعينيات ,بقيادة رئيس اللجنة المركزية للحزب الشيوعي آنذاك ( الرفيق كرباتشوف )! تجول "صابر" وزملاؤه في تلك الساحة وشعروا ببهجة ومتعة لا مثيل لها، فالساحة واسعة ومكتظة بالبشر من كافة الأعمار ومن الجنسين، وغالبية المتسكعين من الفتيات الروسيات المتميزات ببشرتهن البيضاء وشـعرهن الأشقر(المغطى بمنديل), وبساطة ثيابهن الشعبية التي تزيدًهن جمالاً, واضافة الى ذلك مرحـهن, والبهجة الطافحة عليهن وكأنها هالة من شعاع غير مـرئي تجذب الناظر لهن بقوة خـفـيـة قد تسحبه لعناقهن لولا بقايا من الحشمة !
الساحة الحمراء مركز الأحتفالات الوطنية والمواعيد الغرامية
قبل سنة 1960، نادراً ما كان يـشاهد أجنبياً يتسكع في شوارع موسكو. وإن الاِنفتاح بدأ في زمن " الرفيق خروتشوف", فهوالذي اتاح للمجتمع الروسي أن يختلط بالأجانب, ولذا صار بالأمكان تعارف الشبيبة والصبايا من مختلف المجتمع السوفيتي مع الأجانب المقيميين أو السـياح,..وهكذا تمكن "صابر" وأصحابه بالتعرف على ثلاث فتيات جميلات بمقتبل العمر, وتم التفاهم معهن بالإشارة ، حيث لم يكن لدى اياً من أصحابه معرفة باللغة الروسية,..وكذلك الفتيات,.. لا يتكلمن الا لغتهن الروسـية !
وعلى أية حال,.. تم الاِتفاق مع الفتيات على لقاء آخر في يوم َغـد بالاشارة اليدوية, على أن يكون المكان بالقريب من ضريح "لينين " في الساحة الحمراء.
في اليوم التالي وصل "صابر" ورفاقه إلى المكان المتفق عليه, قبل الموعد بدقائق ، وبعد برهة وجيزة حضرن الفتيات وهن بأجمل زينة، وتم تبادل التحية معهن باللغة الروسية وبلكنة مضحكة أفرحت الفتيات لمعرفة صابر ورفاقه للغتهن القومية ، ..ثم توجه الجميع سَّيراً على الأقدام نحو شارع "غُوركي" الذي يعتبر من أرقى شوارع العاصمة "موسكو"، وبعد التسكع في المحلات ، عرجوا إلى أشهر مطعم في تحضير الأكلات الشرقية أسمه (أَراكفي), حيث أشتهر بطبخ الأكلات (الأذربيجانية)، المشابهة للأكلات الأيرانية المعروفة في مطاعم بغداد.
وبعد استراحة وتبادل المجاملات، طلبوا أنواعاً عديدة من الأكلات(مثل التهجين على تمن والتشريب اليخني, والقيمة والشاشليك)!
استمرت علاقة "صابر" مع صديقته "آليجكا" بشكلها الرومانسي , اي" يابسـه وتـمًـن ", (كما في المثل الشعبي العراقي),.. لفترة زادت عل الثلاث سنوات، ولم توافق على الأنفصال بالرغم من محاولاته العديدة بالأبتعاد عنها لأسباب عديدة منها, ألتزامه بالقيم الدينية والأعراف الأجتماعية التي تحرم الأعتداء على شـرف الفتاة قبل الزواج البته,..ألا أنها راحت تخطط لأثارته جنسياً ,..فعسى ولعل يهيم بها ويتقبل فكرة الزواج منها, فأقترحت عليه قضاء سهرة الأحد القادم عند خالتها التي تسكن بيتاً قروياً يسـمى بـ ( داجه), يقع في ضواحي مـوسـكو.
استمر "صابر" على ذلك النهج أشهراً عديدة وهو يتذكر طرفة وقعت له في إحدى الأمسيات حينما هيأت زميلته طاولة عامرة بالأكلات ، ومن ضمنها (الكافيار الأسود وهو بيوض سمك خاص يكثر في بحر قزوين), المشهور بمزاياه الصحية حتى سُمي بأكل الملوك!
تفجرت شهية صابروتمادى في أكل الكافيار, حيث كان نادراً وصار يباع بالعملة الصعبة وهكذا وبعد لحظات داهمه النوم على (الكنبه)!
غط " صابر" في نومه وراح يشـخر, والفتاة تتوسل به كي ترقص معه ,الا ان أنه لم يشعر في حينها بأي شيء , ..لكنه ما زال يتذكر توسلها به وهي تندب حظها وتقول:
"إكـًدَ,َ أكرا" أين الكافيار ؟! , ... خـَسرتُ السـهرة والكافيار!
538 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع