د.عماد عبد السلام رؤوف
منذ أن سقط أول شهيد ببغداد في ثورة العشرين الكبرى، في ليلة الثلاثاء 25 أيار 1920، وثمة آراء مختلفة أدلى بها عدد من شهود تلك الليلة ومؤرخيها، دارت حول هوية هذا الشهيد الكريم، وظروف استشهاده، فبينما تسكت المصادر البريطانية عن ذكر اسمه، تتردد المصادر الأخرى في حقيقته بين كونه (حسن النجار الأخرس) و(محمد) و(عبد الكريم) و(عبد الكريم بن رشيد النجار الأخرس) و(محمد رشيد بن علي) و(عبد علي بن الحاج رحيم) و(رشيد الملا شكر) و(سلمان شكر)!.
ومثلما اختلفت المصادر حول اسمه، فإنها قدمت بيانات مختلفة عن ظروف استشهاده، وتتراوح هذه الاختلافات بين كونه قد سقظ أرضاً فدهسته السيارة المصفحة التي كان يستقلها الحاكم البريطاني، وكونه قد حاول أن يضرب سائق السيارة المصفحة بقنينة ماء الصودا فلما رأى السائق ذلك حرك السائق المديتين اللتين في جبهة السيارة فنزلتا على كتفي ذلك الرجل فخر صريعاً ودارت عليه دواليب السيارة فسحقته سحقاً، وفي شهادة أخرى أنه هجم على السيارة عند استدارتها وتعلق بها، ولكن إحدى رجليه كانت على الأرض فداست عجلة السيارة عليها فسقط الشاب على الأرض، ومرت عليه دون أدنى اكتراث، فأدى ذلك إلى كسر إحدى قدميه، وحدوص نزيف أدى إلى وفاته بعد نحو ساعتين، وذكر آخر أنه هجم على السيارة محاولاً ضرب ضابطها بفأسه المعلقة في حزامه، ولكن الضابط بادر بأن ضربه بحربة في يده وقع الأخرس الشهيد على إثرها قتيلاً، مضرجاً بدمائه، ويتردد آخر بين أنه مات مدهوساً، وبين كونه أصيب بطلق ناري.
جامع الحيدرخانة حيث استشهد في بابه أول شهداء ثورة 1920
وأكثر هذه الاختلافات يعود إلى أن رواة الحادثة اعتمدوا في تسجيل تفاصيلها على ما نقل إليهم في حينها، أو بعد ذلك الحين بمدد متفاوتة، أو أن مزجوا بين ما قرأوه عنها وبين ما رأوه أو سمعوه، وهي آفة الأخبار المنقولة في كل زمان.
وكان من حسن طالعنا أن التقينا في شباط سنة 1989 بشاهد عيان رأى هذه الحادثة بأم عينه، واطلع على جميع تفاصيلها بحكم قربه من مكان وقوعها، وتكشف روايته عن تفاصيل جديدة ودقيقة حول هوية هذا الشهيد وظروف استشهاده، تزيد أو تصحح بعض ما ورد في الروايات السالفة.
وشاهد العيان هذا هو المرحوم طاهر بن صالح بن عبد الرحمن، وقد ذكر لي أنه ولد سنة 1912، والراجح أن ولادته جرت قبل ذلك التاريخ بعدة سنين، وهو بغدادي، من مواليد محلة (حمام عيفان) المعدودة جزءاً من محلة الفضل، درس الابتدائية، فالصنائع، ثم دخل في سلك الشرطة، وتقلب في وظائفها حتى صار آمراً لفوج شرطة احتياط السليمانية، وتقاعد سنة 1966. وقد أدلى لي بشهادته حول هذا الحادث وغيره في داره الكائن في حي الغزالية ببغداد، وسجلتها في حينه في دفتر خاص، وكانت وفاته – رحمه الله- سنة 1992.
وخلاصة ما شاهده بأم عينيه في نهاية ذلك اليوم العصيب من أيام الثورة، أنه دخل مع بعض أطفال محلته في جامع الحيدرخانه، فرأى الملا عثمان الموصلي، بزيه المولوي، وهو يقرأ المفامات بكلمات وطنية، وقبيل الغروب خرج من الجامع إلى الشارع العام (الذي سمي فيما بعد بشارع الرشيد)، ولم يكن يومذاك مبلطاً، بل مفروشاً بالحصى الكبير، فمرت مدرعتان إنكليزيتان في طريقهما من القلعة (وزارة الدفاع فيما بعد) إلى محلة باب الآغا، وأعقبتهما ثالثة، واستدارت الأخيرة من عند الشارع الذي سمي بشارع حسان بن ثابت، واتجهت إلى باب جامع الحيدرخانه، الذي على الشارع العام، فحصبها المتجمهرون هناك بالحصى، فزلت العجلة الأمامية للسيارة عند الباب المذكورة، بسبب انخفاض مدخلها عن مستوى الشارع، وفي هذه الأثناء ظهر رجل يحمل (كوشر) وهو الزنبيل الكبير من الحصير، فيه أدوات نجارة، فسحب من (الكوشر) فأساً، وكانت الفأس من مستلزمات النجارة عهد ذاك، وهجم على المدرعة وقتل سائقها بفأسه, وكانت السيارة تضم، فضلا عن الضابط الانكليزي، سائقاً وجنوداً هنود، وأصابت الفأس عجلة السيارة والضابط الانكليزي، فأطلق الجندي الهندي الموكل بالرشاشة الرصاص عليه وأرداه قتيلاً، وباشرت المدرعتان اللتان اتخذتا مواقعهما بين محلة امام طه (ساحة الرصافي اليوم) وبين باب الآغا، بضرب الرصاص في الهواء لتفريق المتظاهرين، وبات جثمان النجار في جامع الحيدرخانه، ويظهر أنه غسل هناك، وفي الصباح جرى نقل الجثمان من الجامع ، وحمله المتظاهرون في الشارع العام متوجهين إلى جامع الحضرة الكيلانية حيث صلوا عليه، ثم اتجهوا به إلى جسر مود (في مكان جسر الأحرار الحالي) ومنه إلى السفارة البريطانية في الكرخ، ومن هناك إلى مقبرة الشيخ معروف الكرخي حيث دفن.
ويذكر شاهد العيان (لقد جرت حادثة استشهاد النجار أمامي مباشرة، حيث كنت في تلك الساعة واقفاً، مع أخي الأكبر، على الرصيف المقابل لجامع الحيدرخانة، على بعد عشرين متراً فقط عنه، واسم الشهيد كما سمعنا في لحظة مصرعه هو حميد رشيد النجارالأخرس، وأن حمل النجار في ذلك الوقت (كوشر) يحوي أدوات النجارة يدل على أنه كان في محل قريب من مكان الحادث، وأنه خرج متجهاً إلى داره في آخر ساعات ذلك النهار، مما دل على كونه من أهالي محلة الحيدرخانة أو محلة الست هدية، وأذكر أنه كان يرتدي (جراوية) و(زبوناً) ويبلغ من العمر الخامسة والأربعين تقريباً).
وهكذا تنتهي هذه الشهادة المهمة، وهي تصرح باسم الشهيد الأول، وتحدد عمره، وزيه، ووقت استشهاده، وتكشف عن أن هجومه على سيارة الإحتلال المصفحة كان بالفأس (لا بزجاجة صودا!)، وأنه توفي متأثراً بإطلاق الرصاص عليه من السيارة المذكورة، وليس بسبب دهسه أو تحريك مديتي السيارة، إلى غير ذلك من التفاصيل.
فرحم الله الشاهد والشهيد وأسكنهما دار قراره.
728 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع