د.منار الشوربجي
في خضم المعركة الجارية لانتخابات الكونغرس وفي سياقها، تدور معركة أخرى حول نفوذ المال في أميركا، أبطالها ليسوا فقط الديمقراطيين والجمهوريين ، وإنما المحكمة العليا والولايات والكونغرس وقوى المجتمع المدني، بل والناخب الأميركي نفسه، فعلى مدى الشهور الستة الماضية، تشكلت حركة واسعة على مستوى الولايات، من أجل الدفع نحو تعديل الدستور بما يقيد نفوذ المال.
ورغم أن تعديل الدستور الأميركي مسألة غاية في الصعوبة وقد تستغرق أعواماً وربما عقوداً، فإن اللجوء لتعديله صار ضمن بديلين فقط أمام من يريدون الحد من دور المال في السياسة، والسبب هو دور المحكمة العليا، فهي تاريخياً، اعتبرت إنفاق المال في العملية السياسية أحد أشكال حرية التعبير، وبالتالي رفضت فرض قيود عليه.
ولطالما ظل النفوذ الهائل للمال في العملية السياسية، من القضايا التي يتقاذفها الكونغرس والمحكمة العليا، فالكونغرس المنوطة به كتابة قوانين البلاد، ظل يسعى لتقييد ذلك الدور ولكن في الحدود التي تسمح بها مصالح أعضائه، الذين يريدون تمويل حملاتهم الانتخابية.
والمحكمة العليا، المنوط بها الحكم بمدى دستورية القوانين، ظلت على موقفها الذي يعتبر إنفاق المال أحد أشكال التعبير عن الرأي. أما أصحاب المصالح الذين ينفقون الأموال من أجل النفوذ السياسي، فقد استفادوا من ذلك التدافع تاريخياً، بل ونجحوا دوماً في إيجاد ثغرات في كل قانون جديد يستخدمونها لصالحهم.
وكل ذلك على حساب قدرة الناخب الأميركي العادي على محاسبة الطرفين.
وقد ازدادت حدة التدافع في العامين الأخيرين حين أصدرت المحكمة العليا عام 2010، حكماً أضاف لموقفها التاريخي، عبر اعتبار التعديل الأول للدستور ينطبق على الهيئات الاعتبارية، فقد رفعت الحظر الذي كان مفروضاً على الهيئات الاعتبارية بشأن استخدام رؤوس أموالها في تمويل الحملات الانتخابية، بشكل مستقل عن حملات المرشحين.
فوفقاً لقانون تمويل الحملات الانتخابية وتعديلاته الصادرة في 2002، كان محظوراً على الهيئات الاعتبارية، أي الشركات والاتحادات والمنظمات غير الربحية وجماعات المصالح، أن تنفق بشكل مباشر لتمويل الحملات الانتخابية، إذ كان يلزم أن تنشئ ما يسمى »لجنة العمل السياسي«، التي تجمع التبرعات من الأعضاء، وكانت تلك اللجان مقيدة بسقف محدد، وتخضع لرقابة هيئة الانتخابات الفيدرالية.
لكن المحكمة العليا حكمت بأن الهيئات الاعتبارية »أشخاص« يغطيهم التعديل الأول للدستور، وألغت الحظر، الأمر الذي فتح خزائن تلك الهيئات على مصراعيها لإغراق وسائل الإعلام بالإعلانات واستخدام كل أشكال الدعاية لحسم النتيجة، طالما أنها لا تتم بالتنسيق مع المرشح.
ولأنه حكم من أعلى محكمة في البلاد بعدم الدستورية، فإن الوسيلة الوحيدة لإلغائه هي تعديل الدستور نفسه، وهو ما يتطلب موافقة مجلسي الكونغرس، كل بأغلبية الثلثين، ثم تصديق ثلاثة أرباع الولايات على التعديل الجديد. وقد تشكلت حركة سياسية من أجل المطالبة بتعديل الدستور، بدأت من الولايات ونجحت في الحصول على موافقة المجالس التشريعية لأكثر من 16 ولاية على الأقل، على مطالبة الكونغرس صراحة بالشروع في تعديل الدستور على النحو المطلوب.
وإزاء تلك الضغوط، ناقش مجلس الشيوخ الشهر الماضي الموضوع، ووافق على تعديل الدستور بأغلبية 54: 42، إلا أن تلك الموافقة تعني الهزيمة لأنها جاءت أقل من نسبة الثلثين المطلوبة للتعديل في كل مجلس، لكن الموضوع نفسه صار قضية انتخابية في معركة الانتخابات التشريعية الدائرة بخصوص كل مقاعد مجلس النواب وثلث مقاعد مجلس الشيوخ، ففي عدد من السباقات الانتخابية لمجلس الشيوخ، كما هو الحال مثلا في ولايات نيومكسيكو، وأوريغون، ومين، وكنساس، وساوث داكوتا، تحول موضوع تمويل الحملات والتعديل الدستوري المقترح إلى قضية انتخابية، يستخدمها الديمقراطيون بالذات لهزيمة الجمهوريين.
وقد تلعب تلك القضية دوراً في حسم بعض النتائج في نوفمبر لصالح مرشح أو ضد آخر، إلا أن هذا لن يؤدي لحلول ناجعة لنفوذ المال في السياسة في أميركا، على الأقل في المستقبل المنظور.
ففي كنساس مثلاً، يواجه السيناتور المخضرم بات روبرتس، ربما لأول مرة، منافسة حقيقية من مرشح مستقل جعل تصويت روبرتس ضد التعديل الدستوري قضية انتخابية يستخدمها ضده، وهي التي أثرت بالفعل في مقدرات روبرتس، إلا أن من يبحث الأمر بدقة، يجد أن ذلك المنافس، جريج أورمان، رجل أعمال ثرياً للغاية، ينفق من ماله الخاص على العملية الانتخابية! لذلك فهو يحرص في حملته ضد روبرتس على أن يجعل هجومه مقصوراً على نفوذ أموال الهيئات الاعتبارية في العملية الانتخابية، دون التطرق للتمويل الذي يقدمه الأفراد، الذي كانت المحكمة العليا قد أطلقته دون سقف في حكم آخر لها، لا يتحدث عنه أحد في أميركا، بما في ذلك الإعلام.
ومن هنا تأتي أهمية البديل الثاني، إلى جانب تعديل الدستور، والمتاح أمام من يريدون تقييد دور المال في السياسة، وهو باختصار تمويل الانتخابات من المال العام، فانتخابات الكونغرس تمول كلها من المال الخاص، سواء الفردي أو الاعتباري، في غياب كامل للمال العام الذي قد يحل القضية، كما هو الحال في ديمقراطيات أخرى.
868 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع