هارون محمد
عندما يزور سفير دولة أجنبية مدينة أو منطقة مضطربة في البلد الذي يعمل فيه، ويلتقي القيادات العسكرية والأمنية ويناقشهم ويبدي توجيهاته وربما تعليماته، فهذا يعني، ببساطة، ليس تدخلا مفضوحا في شؤون داخلية فحسب، وإنما استهانة بسيادة البلد وحكومته وشعبه وأراضيه.
وقد درجت الدول التي تحترم نفسها ومصالحها الوطنية أن تحظر على السفراء والدبلوماسيين الأجانب المعتمدين لديها الخروج أو الابتعاد عن مقار سفاراتهم وأماكن إقامتهم في العاصمة إلا لأسباب وجيهة وبموافقة مسبقة من وزارة الخارجية، هكذا هي سياقات العمل التي كنا نعرفها في العراق حتى أبريل 2003، عندما تغير كل شيء وأصبح الشاذ هو السائد، وتحولت العمالة إلى وطنية، والخيانة باتت وجهة نظر.
زيارة السفير الإيراني في بغداد “حسن دنائي فر” إلى آمرلي وطوز خورماتو في محافظة صلاح الدين، واستقباله الحار من قبل القيادات العسكرية والمليشياوية في المدينتين، ونحر الذبائح بين قدميه تبركا بقدومه وإطلاق الأهازيج الطائفية (الشيعة منصورين.. ما دام إيران وَيَّاُهُمْ) ترحيبا به، في بيئة سنية ومحيط عربي، عملية لا تندرج، ضمن ما يسمى بانتهاك السيادة الوطنية، ولا تدخل، من باب أن الرجل سفير أجنبي، لأنه، وهذه هي الحقيقة المرة، أكبر مسؤول حاكم في (الدولة) العراقية، وصاحب الأمر والنهي في تسيير شؤونها، كما أنه من أهل البيت حتى لو كان فارسيا ولا يضع عمامة سوداء على رأسه، المهم أنه سفير الشقيقة الكبرى ومندوب الولي الفقيه قائد الثورة الإسلامية في العالم -هكذا يلقب علي خامنئي في الإعلام الحكومي العراقي- وبالتالي فمن حقه أن يذهب إلى أي مكان يرغب في زيارته، ودون إبلاغ وزير الخارجية إبراهيم الجعفري أو إحاطته علما، وهل يستوي الحاكم والمحكوم؟
رحم الله الرئيس عبدالسلام عارف الذي رفض قبول اعتماد “مهدي بيراسته” كسفير للإمبراطور محمد رضا بهلوي في بغداد، لأن الأخير تجاوز حدود الأدب، وتحدث بما لا يليق في حضرة الرئيس، واقرأوا ما كتبه المرحوم صبحي عبدالحميد وزير الخارجية الأسبق في مذكراته حيث يقول: “في 22 يونيو 1964 حُدد موعد للسفير الإيراني الجديد مهدي بيراسته لتقديم أوراق اعتماده إلى الرئيس عارف، وخلال حديثه معه أخرج ورقة من جيبه قال إنها رسالة من الشاه إلى سيادته وبدأ يقرأها إلى أن جاء فيها: “إن الشاه باعتباره حامي المذهب الجعفري، فإنه يلفت انتباهكم إلى ضرورة إنصاف الشيعة في العراق”، وهنا لم يتمالك الرئيس أعصابه وهو المعروف بغيرته الوطنية وعنفوانه القومي فصاح بالسفير: “كفى انتهت المقابلة.. اسمع وقل لشاهك إن شيعة العراق عرب أصلاء ولا يحتاجون إلى حماية شاهك، وهم أعزاء في بلدهم وكرامتهم مصانة”.
هكذا كان رجال العراق العظام، وهكذا كانت مواقفهم، والشاه أيامها طاووس في عنجهيته، وبسبب هذه الوقفة الشجاعة ظل آل الحكيم والمرجعيات والأحزاب الشيعية تناصب الرئيس أبا أحمد العداء وتتهمه بالطائفية، وتتناسى أنه من سمح لآية الله خميني بالقدوم إلى العراق من منفاه في تركيا، وأمر بتوفير كل أسباب الراحة والعمل له ما دام معارضا للشاه، وبهذه المناسبة لابد أن نشير إلى برقية الاحتجاج التي بعثها المرجع الشيعي وقتئذ محسن الحكيم إلى الفريق طاهر يحيى رئيس الوزراء حينذاك، يستنكر فيها السماح لملا إيراني (مشاغب) اسمه روح الله موسوي خميني بالإقامة والعيش في العراق (البرقية كانت موجودة في المركز الوطني لحفظ الوثائق)، وتدور الأيام ويهرع أولاد وأحفاد محسن الحكيم باقر وعبدالعزيز وعمار وقادة حزب الدعوة، ومنهم إبراهيم الجعفري ونوري المالكي وعبدالحليم الزهيري وحسين الشامي ومحمد باقر الناصري وعلي الأديب وهادي العامري وأبو علي البصري ورياض غريب، إلى طهران وقم يبايعون الملا الإيراني المشاغب ويحتمون بعبائته ويتلقون الأموال منه، والأسلحة من أجهزته للتآمر على العراق، ويشاركون في حربه على شعب العراق وأراضيه وجيشه.
وعودة إلى زيارة المندوب السامي الإيراني دنائي فر، وكيف تعاملت الحكومة معها، فرئيس الجمهورية كان في إغفاءة ولم يسمع بها، ورئيس الحكومة الجديد منهمك في تثبيت كرسيه المهزوز ومقاومة دسائس نوري المالكي، ورئيس مجلس النواب مشغول بتنقلاته المكوكية بين السفارة الأميركية وصالون قصره في المنطقة الخضراء، أما وزير الخارجية المعني بالزيارة من الناحية الدبلوماسية والرسمية، فيقال إنه كان في خلوة مع نفسه لطرح فلسفة جديدة تقوم على ضرورة تفعيل المفاعيل وتسكين المسكوت عنه وتأجيل الناتج وتوسيع المنتوج!
وما دام الشيء بالشيء يذكر فإن وسائل الإعلام الحكومية غطت زيارة دنائي فر بشكل غير مسبوق، فالقائد العسكري لأمرلي العقيد مصطفى تائي وصف الزيارة بأنها تاريخية، وهي تشكل مع رقصة النصر التي أداها قائد فيلق قدس قاسم سليماني هناك، عنوانا للتلاحم الشيعي ودعما للحشد الشعبي الذي أمرت به المرجعية المقدسة (حفظ الله آياتها المعصومين)، وتتسابق القنوات (العراقية) في إبراز وعرض صور الزيارة الميمونة في صدر نشراتها الأخبارية، وكأنها فتح الفتوح.
شيء واحد لم يذكره القادة العسكريون والملشياويون في آمرلي وطوز، ولم تشر إليه قنوات الفتنة الطائفية، هو تحليق الطائرات الأميركية والأوروبية فوق المنطقة لضرب مواقع داعشية في قضاء بيجي القريب، بينما سعادة السفير الإيراني على الأرض وبيده منظار عسكري مصوب باتجاه تكريت، ولا يعرف هل تمكن من رؤيتها عن بُعد، أم أنه أرجأ مشاهدتها ميدانيا إلى حين، ما دام مشعشعان وتسعان وأخبيطان وبعض أنصاف وأرباع الشيوخ فيها من أهل (القصعة) جاهزين لترديد أهزوجة (هلا بيكْ هلا.. وبْجَيّتَكْ هلا) التي بحّت أصواتهم بها في سابق الأيام والسنوات ترحيبا بصدام! ولمن لا يعرف معنى (القصعة) فالمقصود بها، الإناء أو الصحن الذي يقدم فيه الأكل إلى الجنود في ثكناتهم، ويوزع المتبقي منه على المقيمين حول تلك الثكنات (صار مفهوم)!
688 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع