شذى لالجبوري
اللي مضيع ذهب.. بسوق الذهب يلقاه
واللي مفارق محب.. يمكن سنة وينساه
بس اللي مضيع وطن.. وين الوطن يلقاه؟
أذكر عندما سمعت هذا الموال العراقي الشهير بصوت المطرب سعدون جابر لأول مرة في الثمانينات. الحضور في الحفل يطربون للكلمات وللصوت الشجي، وهو يكرر: وين الوطن يلقاه؟
شغلتني قصة الذهب والمحب، ولم أعر اهتماما لموضوع الوطن. فكيف بإمكان الوطن أن يضيع مني أو أضيع منه؟ الوطن باق، أرض راسخة، جذورها عميقة تمتد لآلاف السنين. نحن نرحل وننتهي ونموت لكن الوطن يبقى دائما. أو هذا ما كنت أعتقده.
قد نسخط على الوطن، ونغضب من الأنظمة ونظن أنها هي الوطن. نحزم حقائبنا ونشد الرحال، ونقرر ألا نعود ثانية، كما فعلت عندما عدت في زيارة إلى بغداد قبل سنوات فوجدت رجال الأمن بانتظاري في المطار. وبينما كانوا يكيلون لي سيل التهم من الإرهاب وخيانة الوطن، كنت أقسم بيني وبين نفسي بأغلظ الأيمان بأني ما إن أخرج من هذه المحنة فلن أعود مرة أخرى. وبالفعل، لم أعد حتى الآن.
لكننا نعود في آخر المطاف ولو على شكل جثة هامدة، نطلب قبل أن نموت أن ندفن هناك بين ثنايا تراب الوطن.
لم أشعر لحظة في حياتي أن وطني العراق قد يضيع مني، كما أشعر الآن. حتى مع الغزو الأميركي عندما قالوا إن بغداد سقطت، لم أرها تسقط بل ظننتها تنهض بشكل آخر. وعندما نشبت النزاعات الأهلية وجاء تنظيم القاعدة وظهرت الميليشيات وكانت الجثث منثورة في كل شارع وزقاق، لم أشعر أن الوطن انتهى. كنت أقول أزمة وتمر، مثلما مرت كل الأزمات على العراق.
وعندما كانوا يتحدثون عن الفيدراليات والتقسيم، لم تكن هذه نهاية بالنسبة لي، بل بداية فحسب، فنصف دول العالم مؤلفة من فيدراليات وأقاليم، فما المشكلة؟
لم أخش أبدا أن يضيع الوطن، فهو كما علمونا كطائر العنقاء الذي ينهض دائما من رماده. وهو موجود في القلب والعقل من الجبل إلى الهور، بنهريه وبغداده.
لم يخامرني الشك لحظة حتى رأيت مغول القرن الحادي والعشرين يقفون على أبواب بغداد بلحاهم الكثة وملابسهم المستوحاة من العصور الجاهلية، تعوزهم السيوف فقط، بانتظار اقتحام مدينتي في أية لحظة.
تحالف دولي من عشرات الدول يضرب من دون جدوى، وحكومة عاجزة مكبلة بجيش كسيح وميليشيات طائفية، وشعب ذاق كل مرارات الدنيا ومصيره صار في حكم المجهول. المدن تسقط الواحدة تلو الأخرى، والنساء يبعن سبابا في سوق الرقيق وعمليات القتل والاغتصاب والصلب وقطع الرؤوس وسفك الدماء على قدم وساق حتى باتت هذه المشاهد أمرا مألوفا لا يثير فينا أي مشاعر.. لا حزن ولا دموع.
هل هو مجرد كابوس مزعج وسينتهي؟ أم مقدمة لصفحة أخرى أشد ظلمة مما مر به العراق سابقا؟
سألت صديقة في بغداد إن كانت ترى مخرجا؟ فردت علي بالقول: كفى ما مضى مخبرا عما بقى.
أحاول ألا أستسلم لليأس وأنا أرى الوطن يحتضر، وأفتعل بصيص أمل بداخلي، عسى أن يباغتنا الوطن وتنبعث فيه الحياة من بين سكرات الموت، فكما يقولون ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
أسمع صوت سعدون جابر وهو يكرر مرة تلو الأخرى دون توقف: اللي مضيع وطن.. وين الوطن يلقاه؟
يتردد صدى الأغنية بداخلي.. والسؤال يلح علي بشدة: إن ضاع الوطن.. فأين نعثر عليه؟
فأجيب نفسي: حقا.. لا أعرف!
658 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع