د. منار الشوربجي
رغم أن الإعلام الأميركي يركز هذه الأيام على هروب الكثير من مرشحي الكونغرس الديمقراطيين من الرئيس باراك أوباما، وعدم رغبتهم في الظهور معه في حملاتهم الانتخابية، إلا أن تلك ليست ظاهرة جديدة ولا هي قاصرة على الرئيس أوباما. فالإعلام الأميركي الذي يلهث وراء الإثارة، يحب ككل الإعلام الهادف للربح، الموضوعات المسلية الجذابة.
وفي موضوع معقد مثل الانتخابات التشريعية الجارية الآن، ليس هناك أفضل من موضوع عنوانه "تخلي حزب الرئيس عنه"، بل وهروب المرشحين من دعوته للحديث في حملاتهم الانتخابية.
فانتخابات الكونغرس تخضع لخمسين قانونا مختلفا، كونها تخضع لقوانين الولايات، ونتيجة الانتخابات تحسمها اعتبارات متباينة ومعقدة في كل دائرة انتخابية بالنسبة لمقاعد مجلس النواب، وفي كل ولاية بالنسبة لمقاعد مجلس الشيوخ.
لذلك، إذا كانت الصحف المحلية في كل ولاية تركز على انتخابات مرشحيها فقط، فإن الصحف وقنوات الأخبار الكبرى تهتم بما يمكن أن يصنع خبرا مثيرا وبسيطا في الوقت ذاته، مثل هروب المرشحين من الرئيس، رغم أنها مسألة معروفة وتقليدية تماما ولا جديد فيها على الإطلاق.
فوفق الدستور الأميركي، فإن مدة الرئيس أربعة أعوام، يمكن بعدها إعادة انتخابه لمرة واحدة فقط. أما انتخابات الكونغرس فهي تحدث كل عامين، وتكون فيها المنافسة على كل مقاعد مجلس النواب وثلث مقاعد مجلس الشيوخ.
وعلى ذلك، فإن مدة العضوية في مجلس النواب عامان، وفي مجلس الشيوخ ستة أعوام، حيث تتم إعادة انتخاب كل ثلث في المجلس كل ستة أعوام.
ويعني ذلك أن الكونغرس يشهد انتخابات تشريعية مرتين في كل مدة رئاسية، الأولى في عام انتخابات الرئاسة نفسه والتالية في منتصف مدة الرئيس.
وجرت العادة بأن يخسر حزب الرئيس مقاعد في انتخابات منتصف المدة، وقد حدث ذلك مع رؤساء كثيرين من قبل، من الحزبين. بل إن الحزب الديمقراطي خسر الأغلبية في المجلسين في منتصف المدة الأولى لبيل كلينتون في عام 1994، وخسر الحزب الجمهوري، حزب الرئيس، الأغلبية في منتصف المدة الثانية لبوش الابن عام 2006.
وتزداد تلك الخسارة كلما انخفضت شعبية الرئيس، أو كانت هناك أحداث كبرى تخصم من رصيده. وينطبق ذلك على أوباما كما انطبق على رؤساء سبقوه، فشعبية الرئيس وصلت إلى أدنى مستوياتها مؤخرا (40%). ومن الطبيعي في مثل تلك الأجواء، أن ينأى المرشحون الديمقراطيون، الحريصون على الفوز، بأنفسهم عن الرئيس، بل ويهاجموه إذا لزم الأمر. ورغم أن ذلك قد يبدو غريبا وغير متوقع في نظم ديمقراطية أخرى، إلا أنه يمثل الأمر المعتاد بالنسبة للنظام الأميركي الذي تتمتع الأحزاب فيه بخصوصية فريدة.
والدستور الأميركي لا توجد فيه كلمة واحدة عن الأحزاب السياسية، فهو لم يذكرها مطلقا ولا ينظم عملها. والحزب في أميركا لا يقوم على تراتبية واضحة تخضع لقيادة مركزية مثلا، يتم من خلالها تصعيد الكوادر المختلفة عبر أروقة الحزب ومستوياته التنظيمية.
ففي بريطانيا مثلا، يكون الراغب في الترشيح للبرلمان من كوادر الحزب، أو على الأقل ينجح في إقناع زعاماته بترشيحه، ثم يخوض المعركة الانتخابية بأموال الحزب ومساعدة هياكله وأجهزته، وبعد الفوز يتوقع الحزب منه أن يعمل في تعاون وثيق مع باقي رموزه المنتخبين، فيدلي بصوته في البرلمان مثلا لصالح قضايا الحزب وأولوياته، ويؤدي دوره كجزء من كتلة متماسكة هي باقي أعضاء الحزب.
كل هذا غير صحيح بالمرة في الولايات المتحدة الأميركية، فلأي مواطن في أميركا متى توفرت فيه الشروط المنصوص عليها دستوريا أن يرشح نفسه للكونغرس أو الرئاسة، رافعا شعار أحد الحزبين دون استشارة الحزب بالضرورة ثم يخوض المعركة بأموال يجمعها بنفسه، وبشكل مستقل عن الحزب، ثم يتوقف ترشيح الحزب له على نسبة أصوات الناخبين التي يحصل عليها، أي دون أن يعني ذلك بالضرورة مساندة تنظيمية من الحزب.
ومن هنا، فإن عضو الكونغرس، الذي يسعى لإعادة انتخابه ويهرب اليوم من أوباما، ليس مدينا لأوباما بفوزه ولا مدينا حتى للحزب، فهو مدين لناخبي الدائرة (ولأصحاب الأموال طبعا). فالناخبون، لا الرئيس ولا حزبه، هم من انتخبوه أول مرة، وهم الذين بإمكانهم هزيمته في المرات التالية. لذلك لا تنتظر من عضو الكونغرس، مهما توثقت علاقته بالرئيس أو حتى كان من حلفائه، أن يعطي لتحالفه مع الرئيس الاعتبار الأكبر في حملته الانتخابية، وتزداد المسألة حدة إذا كانت شعبية الرئيس متدنية في وقت الانتخابات.
لذلك لم يكن مستغربا ولا هو جديد بمنطق انتخابات الكونغرس، أن تقوم السيناتورة الديمقراطية ماري لاندرو، التي تواجه أصلا انتخابات صعبة في ولاية لويزيانا، بإنتاج دعاية انتخابية تقول فيها صراحة إن سياسات إدارة أوباما "خاطئة" بشأن ملف الطاقة، الحيوي بالنسبة لاقتصاد الولاية.
وإذا كان ذلك هو حال الأعضاء، فما بالك بمن يرشحون أنفسهم للمرة الأولى رافعين شعار الحزب! لكن كل هؤلاء المرشحين يحتاجون للمال، وهم ليس لديهم مانع أن يجمع أوباما الأموال للحزب طالما لا يظهر معهم في دوائرهم.
لذلك، وكالكثير من الرؤساء الأميركيين من قبله، خصوصا في العامين الأخيرين لحكمه، لا يقضي أوباما وقته مسافرا بين الولايات ليظهر مع مرشحي الحزب لدعمهم في حملاتهم، وإنما يقضي وقت فراغه في لعب الغولف!
1118 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع