د.عبدالرزاق محمد جعفر
علم "صابر" بموافقة قسم الهجرة على سـفر زوجته وولده بمعيته,.. فهرع الى مديرية الجوازات في وسط مدينة موسكو واستقلوا الباص,.. وصعدت زوجته اولاً,.. ثم حمل الطفل وصعد خلفها,.. واتجهت الزوجة الى مكان فارغ, وجلست بجانب أمرأة في مقتبل العمر,واذا بتلك المرأة تتحرك نحو اليمين وتترك فـُسـحة من المكان, واشارت " لصابر" بالجلوس الى جنبها,.. وما ان اسـتقـر بمكانه,.. حتى التفت الى تلك المرأة التي نبض قلبه لها من دون ان يدري من تكون !؟,واذا بها خطيبته الأولى عند أول وصوله الى موسكو,.. فهل هي صدفة؟, أم ضَرباً من الخيال ؟!, فهو الآن بينها وبين زوجته, يحتضن طفله الذي طالما تمنته,وطالبته حتى من دون عقد زواج,.. ولكن "صابر" لم يسـمح لنفسه في تنفيذ رغبتها,لألتزامه بالشريعة الأسلامية التي ترعرع في كنفها, وعلى أية حال,هاهي تنظرللطفل الشبيه " لصابر" بصمت وحزن دفين, لا تـشعر به ألا العانس,..أو العاقر!
تبادل "صابر", وزميلته (آلجكا), التحية والعتاب,..بأطراف العيون ,.. وتجيبه بصمت :
رد لي عمري بنظره منك لو كلام,..ياسلام العين يا أحلى كلام !
ولم يأبه "صابر" لوجود زوجته بجانبه,.. ومَـرَ الوقت مُسـرعاً, ووصلا للمكان المقصود,.. وما ان توقف الباص حتى نهظت الزوجة لتتهيأ للنزول وفق القواعد المتبعة,..وعلى الفور نهظ "صابر" وحضن ولده ليرفعه, ووقف خلف زوجته وأمام خطيبته ,. فنظر"صابر" الى الحبيب الأول, نظرة وداع ممزوجة بالأسى والمرارة لشعوره بالذنب,.. وأذا بها (تقرصه) بشدة !, في منطقة ساقه فكاد أن يصرخبلا أرادة ,..وترتبك زوجتة وتسأله عما به ؟,..فقال لها كادت ساقي أن تلتوي!,..فصدقت المسكينة أدعائه,..وما أن هبطا على الأرض, حتى أبتسمت له, ثم طلبت منه أن يتكلم الصدق,..فغضب كعادته,..فهدأت من روعه,..وأبتسمت له وقالت له :
ألم تكن تلك المرأة (آلجكَا), خطيبتك السابقة؟, فأنكر وراح يحلف بالعربي على الطريقة العراقية, ولم تصدقه, فما العمل؟!, هذا هو حكم القدر,..أو قل : الطريق المظلم , الذي سارا فيه وهو أعمى البصر,.. ومصراً في عناده بالرغم من تحذيرات أقرب الناس أليه !
***
بالرغم من أنكار "صابر", معرفـتة بمن كانت بجانبه, ألا أن الصًب تفضحه عيونه,.. فلم يستطع َلجم عواطفه ومشاعره عندما استنشق عبيق انفاس اول أمرأة في حياته,.. ولذا ما ان انهى عمله, حتى اوصل زوجته وابنه الى سكنه,واختلق عذراً وتوجه الى سـكن خطيبته الأولى واترك للقارئ ان يرسم صورة بذهنه حول ذلك اللقاء والأحاديث التي دارت بعد غياب ثلاثة سنوات!,.. وتبادلا التهم بمن كان السبب,.. ولكن هل ينفع الآن العتب ؟,..كل شيئ بقضاء ما بأيدينا خلقنا ُتعـساء ,فأذا ما أفترقنا وتلاقينا لقاء الغرباء, لا تقل شئنا فأن الحظ شاء!
ثم كانت قبلة الوداع , وراح يردد من شعر المتنبي بصمت وَحـسرة ُتفطرالصخر:
قبلتها ودمـوعـي مَـزج أدمـعها = وقبلتني على َخوف فـماً بـفم
***
بعد ان أكمل "صـابر" دراسته العليا وحصوله على شهادة الدكتوراه من جامعة موسكو، غادرلوطنه العراق بصحبة زوجته الروسـية وطفله الذي لم يتجاوز الثالثة من عمره،.. وما إن وطأت قدمه ارض مطار بغداد حتى أغـرورقت عيونه يالدموع!,.. وهو ينظرالى المسـتقبلين من أخوته ولفيفاً من الأصدقاء ,.. وهم يلوحون له بالتحية من على بـعـد !
انهى "صابر" الأجراءات المتعلقة بفحص جوازات السـفر, والتفتيش الكمركي ,.. ثم توجه نحو المستقبلين , ولم يجد بينهم والده !.. , فأصابه القلق لأعتقاده بوفاته,...وكـتم مشاعـره , الا ان اخوه تدارك الأمر وحدس ما كان يدور في مخيلة "صابر",.. وعلى الفور ابلغه عن حالتة الصحية,.. حيث هو الآن في المستشفى بسبب اجراءه لعملية إخراج "الحصى" من المثانة, وقد نجحت العملية, فأطمأن "صابر"وصدق كلام اخيه, وعلى اية حال,.. ودع "صابر" المسـتقبلين ثم توجه بصحبة أخيه الى داره والحزن جاثم على كليهما, .. مما زاد من يقين "صابر" بحرج حالة الوالد الصحية,.. ولذا طلب من اخيه الأسراع بالعودة الى المستشفى,.. وفي الطرق تكلم اخ "صابر" بصراحة عن حالة الوالد الصحية وقال : الوالد بحالة مزرية, لأصابته بشلل في امعائه, لزيادة في جرعة المخدرأثناء اجراء العملية !
***
تلقى "صابر" النبأ بأسى شديد، وطارت أحلامه بحرارة اللقاء التي تخيلها كثيراً عندما قرر العودة لوطنه ، والتي حدَّث زوجته عنها وفق تقاليدهم بمثل هذه المناسبات, وعلى اية حال:ما ان وصل "صابر" الى مستشفى المجاري البولية حتى ترجل مـسرعاً نحو الأستعلامات,.. فوجد على مسافة قريبة اخوه الأكبر, وبعد تبادل القبل الممزوجة بالأسى والدموع,.. اقتاده الى الغرفة الراقد فيها الوالد, وغصت الكلمات في فم "صابر"عندما شاهد والده ممدداً على سريره وتبادل معه القبل المختلطة بدموع فرحة اللقاء للحظات، ثم ابتسم الوالد ورفع يده نحو السماء شاكراَ ربه على تحقيق أمنيته التي رددها ً أثناء تأدية الصلاة سـابقاً،.ونصها :
"اللهم دعني أرى ولدي "صابر", للحظات قبل أن تأخذ أمانتك"
جلس صابر بجانب والده , وكلاً منهما يقرأ ما يدور بذهن الآخر,.. ثم سأل الأب :
"هل وصل ولدك معك؟.. فأختنق "صابر",.. وهزً راسه بالأيجاب,.. فقال الوالد :
" دعوني اراه ! "...فوعده "صابر" بتنفيذ رغبته ,.. ولكن ما من احد في مثل تلك المواقف له القدرة على التكهن بما سيحدث !,.. وقرأ صابر لغة عيون والده , وتكهن بما سيحدث ,ولكن ما العمل ؟!,... الموقف ينم على تدهور صحة الوالد !, وعلامات الوداع ظاهرة للعيان ولا تحتاج لصوت يعبرعنها,.. ثم أمر أحد الممرضين بإخلاء الغرفة للفحص.
خرج "صابر" يجر قدميه جراً،... ومضت لحظات كأنها الدهر كله, وحـدس نظرات والده وهي تكاد تنطق بصمت مشـاعرالوداع الأخير!...ورفع الوالد احدى يديه مودعاً !
وفي اليوم التالي، وبينما كان "صابر"يتناول طعام الغداء مع زوجته ويحدثها عن الكارثة التي تنتظره إذا ما حدث مكروه لوالده،.. ثم دخل أخوه شاحب الوجه وتوجه نحوحقيبة والده، وانتزع منها بعض الوثائق، ونادى على "صابر"... بقوله : الحقني للمستشفى!
وقف "صابر" ورمى الملعقة من يده,، وهب متوجهاً الى المستشفى,.. فوجد الأخ الأكبر والأقارب ينتحبون,.. وتوجه نحوه أحد المعارف,.. وقال له لقد توفى والدك !
لم تنزل دمعة واحدة من "صابر" فقد ُذهلَ للخبر,..فها هو والده الذي كان يمني النفس باللقاء معه بعد فراق ستة سنوات ليبشره بنيل الدكتوراه, وانه الآن ابو الدكتور"صابر",.. ولكن القدر اكبر من كل الأماني ,..وعلى الفور دخل "صابر" على والده,.. والقى النظرة الأخيرة عليه,.. وبمساعدة الممرض غطى الجثمان بأيزار,.. ثم وصل التابوت, ووضع فيه , ورفع بمساعدة كافة افراد العائلة ووضع على سطح الحافلة التي ستقله الى مثواه الأخير في النجف الأشرف, وتوجه "صابر" واخوانه وجميع الأقارب الى بيت العائلة في الشطرة ,.. حيث أقيمت مراسيم الفاتحة على روح الفقيد الأكبر للعائلة !
***
ألتقى "صابر" مع العديد من ابناء جيله, معزين بمصابه,.. ومرحبين بعودته, , وتبادل واياهم الآراء حول ما حلً بالوطن من محن منذ الأطاحة بالملكية بثورة 14 تموز (يوليو) 1958 ,..وثورة الـ14 من رمضان (8 شباط 1963), والأحداث الدامية التي واكبتها, كما سمع قصصاً واحداثاً رهيبةً جرت لأبناء الشطرة, المواليان لثورة الـ 14 من تموز 1958!
وبعد ثلاثة ايام قضاها "صابر" في مسقط رأسه ,.. بين الأقارب والأصدقاء, تكونت لديه فكرة عن الأنحدار نحو الأسـوء في علائق الناس, وبخاصة بين حملة الشهادات العليا !
***
يتبع في الحلقة / 14 مع محبتي
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://www.algardenia.com/maqalat/13366-2014-11-03-07-43-05.html
673 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع