د. محمد عياش الكبيسي
يربط كثير من الباحثين في السيرة النبوية بين زيادة الضغط على المستضعفين من المسلمين في مكة وبين الهجرة، مما يوحي أن الهجرة كانت للخروج من هذا الضغط وتجنبا للأذى الشديد الذي يتعرّض له المسلمون،
وبنظرة حسابية بسيطة نرى أن حجم التضحيات التي قدمها المسلمون في مكة لا يكاد يذكر أمام حجم تضحياتهم في دار الهجرة، حتى جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل عمه حمزة وسفيره مصعب وسبعون صحابيا في يوم واحد، وهكذا توالت التضحيات وتزايدت بعد الهجرة من بدر حتى حنين.
حقيقة أن الهجرة لم تكن طلبا للأمن والأمان وراحة البال، وإنما لتفتح بابا واسعا من التضحيات، لكنها تضحيات مقترنة بمشروع الأمة وبناء مجدها وحضارتها وفرض هيبتها وسيادتها على الأرض، ومن المفارقات هنا أن هذا المشروع تطلّب في بعض مراحله التضحية بمصير المستضعفين كأبي جندل وأبي بصير وإبقائهم تحت سلطة قريش وفق اتفاقية (صلح الحديبية)، وهذا يؤكّد أن بوصلة الهجرة كانت باتجاه المشروع الكبير مهما كانت التضحيات وليست باتجاه التقليل من الخسائر والتخفيف من الآلام.
من الواضح أن المدينة كانت مؤهلة أكثر من مكة لاحتضان هذا المشروع والانطلاق به نحو العالمين، ولا ندري إن كان واحدا من هذه المؤهلات أنها الأقرب جغرافيا إلى سقف الجزيرة المزدحم بالثقافات والحضارات في مصر والشام والعراق، وكذلك أنها الأقرب إلى هذا السقف من حيث تنوعها الاجتماعي وتركيبتها العرقية والثقافية المختلفة، حيث تقطنها قبيلتان عربيتان وثلاث قبائل يهودية بخلاف مكة المنغلقة على قبيلة واحدة وبنمط ثقافي واحد.
إن الهجرة من مكة لم تكن إذاً بسبب الأذى، ولو كان كذلك لعاد المهاجرون إليها بعد الفتح، ولما رأينا عليا -رضي الله عنه- يتخذ الكوفة عاصمة له، والأمويين يتخذون الشام، والعباسيين يتخذون بغداد، وكل أولئك هم من أبناء مكة! هناك حركة تتطلب مثل هذا التغيير، وهذه الحركة ينبغي أن تدرس بدقّة بظروفها وبيئتها وطبيعة التحديات التي تلازمها، والهجرة ليست استثناء من هذا بل هي نقطة الانطلاق الأولى في ذلك المشروع الكبير وتلك الحركة الدؤوب.
في جانب آخر تقدّم لنا الهجرة المباركة نموذجا أخلاقيا لا مثيل له، حيث يكلّف الرسول -صلى الله عليه وسلم- ابنَ عمه عليا -رضي الله عنه- ليؤدّي عنه الودائع التي استودعها عنده أهل مكة، بينما كان أهل مكة في الوقت نفسه يصادرون أموال المهاجرين كما حصل مع صهيب الرومي -رضي الله عنه-.
هذا النموذج بكل أبعاده هو الفيصل بين الفريقين، وهو البرهان على أن هذه الدعوة لا تتأثر بردود الأفعال البشرية ولا بحساباتهم ومنافساتهم الأرضية، إنها النبوّة وكفى، إلا أن هذا النموذج تعرّض للتحجيم والتشويه على يد المسلمين أنفسهم نظريا وعمليا.
في الجانب النظري نرى بعض الباحثين يذهب إلى أن هذه الأموال قد استعادها الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر من خلال الغنائم وفداء الأسرى، ومنهم من يجعل أصل المعركة إنما كان من أجل هذه الأموال، فلما أفلت أبوسفيان بالقافلة التقى الجيشان، جيش خرج يطلب المال، وجيش خرج لحماية المال، هذه هي كل القصّة! مع أن القرآن سمّى تلك المعركة بالفرقان، وقال فيها: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) إن التعبير القرآني يرقى بمستوى المعركة وأهدافها ونتائجها بعيدا عما يتحدّث فيه الناس من حقوق مالية لا تعدل كلّها حفنة دم واحدة سُفكت على تلك الأرض.
لقد تحوّل ذلك النموذج الأمثل وفق هذه القراءة إلى حالة من الضعف والخضوع لمنطق القوّة، فلمّا تغيّرت موازين القوى كان لا بدّ من الثأر واسترجاع الحقوق!
وكان من آثار هذه القراءة جرأة بعض المتدينين اليوم على أموال الآخرين، وتهرّبهم من الوفاء بالتزاماتهم المالية إذا كان المقابل (كافرا) أو (مرتدا)، وفي زياراتي للأقليات والجاليات المسلمة في أوروبا وجدت هذه ظاهرة معروفة، وهناك من يتجرأ على الفتوى فيها خاصة من أولئك الشباب الذين يعطون لأنفسهم صلاحية الإفتاء والقضاء بلا مؤهلات ولا مقدّمات! وقد حدّثني بعضهم أن هذه الفتاوى موجودة حتى في بلادهم الإسلامية لأن حكوماتها لا تطبّق شرع الله! وحينما كنت أحاججهم بما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الودائع التي عنده وأغلبها كانت للمشركين، يقولون كان ذلك في مرحلة الاستضعاف وقبل الإذن بالجهاد، فلما جاء الإذن بجهاد (الكفار) واستباحة دمائهم كان استباحة أموالهم من باب أولى!
إن هذه التبريرات (الدينية) لا تختلف عن تلك التبريرات التي كانت شائعة عند بعض أهل الكتاب ممن قال الله فيهم: (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، فما أشبه الكذب بالكذب مهما تلبّس بمقولات الدين وتأويل المتأولين.
أما موضوع اعتراض القافلة فإنك ترى الدول المعاصرة مهما كانت الدولة صغيرة ومسالمة لا تسمح بالمرور في أراضيها من دون إذن وتصريح مسبق، وهذا من لوازم سيادتها على أرضها، أما إذا كان المارّ عدوا فهو انتهاك صريح لهيبتها وسيادتها، ومن حق الدولة اعتراض هذا المارّ فردا كان أو موكبا أو قافلة، ومن حقها سجنه ومصادرة ما معه، وهذا ما تفعله كل الدول، وهذا هو الذي فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد تأسيس دولته على أرض المدينة وكتابته لدستورها الأول، وقد كانت قريش ترفض الاعتراف بهذه الدولة، وتصرّ على استخدام أراضيها طريقا لتجارتها صوب الشام، مع حالة العداء القائم بين الطرفين، فكان هذا المنع وما تلاه من مواجهات سببا لاعتراف قريش بهذه الدولة الحديثة وإبرام اتفاقية الحديبية معها، وآنذاك لم يعد هناك من يمنع قوافل المشركين من المرور في بلاد المسلمين، فالنزاع كان حقيقة حول (السيادة) وليس حول (المال)، وذلك هو الحق الذي أراد الله له أن يحق، وما قبله كان هو الباطل الذي أراد الله له أن يبطل، وذلك هو يوم الفرقان.
1174 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع