سعاد الصيد الورفلي *
في بلدي لاتستقر الطيور تتناوب في رحلات متتالية ، قد أسميها "مكوكية" فهي تنتقل أسرابا أسرابا تسبح في الفضاء العميق ، وتطول رحلة البحث عن الاستقرار ، لكنها سرعان ما تعود وتصر على بناء أعشاشها فوق أشجار الزيتون والكرم والسرول ؛ المزروع على حواف الطريق عبر رقعة بلادي الشاسعة .
هناك التقى شابان على شاطئ البحر ، أحدهما أبكم والآخر ثرثار ، لكن كيف يأتي هذا التضاد العجيب ويلتقي اثنان ،تختلف طريقتهما في الحياة بطريقة عجائبية ؛ ناطق وساكت ، هادئ ومشاغب ، محاور يقابله فضاء صامت يمتثل في إنسان !
تحدث الشاب في كل شيء وعن كل شيء ، تحدث عن الطيور التي تملأ مساحة الوطن ، عن ألوانها حتى أنه أخبر الشاب الملتزم بالصمت أنه يبيع الطيور ، ويستوردها من خارج البلد ؛ سحب نقاله من جيبه ليريَه الصور المتنوعة لأنواع الطيور : هذا ببغاء أفريقي ، وهذا الطائر من ساحل العاج ، وهذا لونه جميل وصوته أجمل ...
آه ياصديقي لو تسمع صداه في يوم حزين ستصاب بالغبطة والفرح ، لقد كان ثمنه غاليا ، يشترونه مني الأثرياء فهم يصابون بالكآبة دائما ولديهم هاجس أن صوت هذا الطائر يزيل الكآبة ..نعم ...
حدثني رجل ثري ؛ يتاجر في كل شيء حتى الأعضاء البشرية أخبرني أنه لاينام أبدا – لايعرف معنى النوم- مصاب بالإحباط والإفلاس النفسي ، سحب سيجارة لو رأيتها لاندهشت منها ! فحجمها كبير ورائحتها جذابة ، والأغرب من ذلك أنها لاتنتهي أبدا ... كلما امتصها شعرت أن السيجار ازداد طولا ...!! قال لي وهو ينفث دخانه : هل عندك طيور تجلب السعادة ؟
ضحكتُ أمامه متظاهرا بالاعتداد قائلا: طلب رخيص .. تفضل هاهو العرض أمامك تماما واختر ما شئت من زينة الحياة الدنيا ..
بدّل خطواته الثقيلة كثقل نفسه بين أفنية المحل ، ونظر كثيرا متفحصا في طائر عجز كثير من الزبائن في وضع اسم لألوانه المتنوعة ، فله ألوان غرائبية جدا ! لم أقرأ عنها ولم أشاهد مثلها في الطبيعة ..أشار بأصبعه الذي يحمل الأصبع الآخر – أقصد السيجار- قائلا : هذا – هذا نعم ...لقد أصبتُ بشيء من الارتياح مجرد أن نظرت إليه ، كأنه يحاورني بعينيه ويعرف أنني أحتاج إليه ...ضُمه اليّ ...
وأخذته بلهفة وضممته في أجمل قفص ، تناولتُ المال وتناول الرجل القفص ..
بعد أيام جاءني الرجل نفسُه وبصحبته " المدام " تبدو سيدة في منتصف العمر ، حاجباها معقودان وشفتاها تلتصقان ببعضهما ، وتمتنعان عن الابتسام يبدو عليها الضيق ، اقترب مني قائلا : اختر أحلى ماعندك لزوجتي العزيزة ، فهي حسدتني على الفرحة التي غمرتني منذ أن اشتريتُ منك سعدون !
قلت : ومن سعدون هذا ؟ ضحك الرجل طرِبا وقال : العصفور ذو الألوان الغرائبية ! لقد تفرغتُ لطعامه وشرابه ومحادثته ، أكاد أن أسجل صوته ورقم هاتفه بجوالي ، واسترسل الرجل ضاحكا ...
اقتربت السيدة من عصفور صغير جدا جدا ؛ يمتاز بلون أبيض يخامره الاصفرار بين ريشاته الحريرية ، ورقبته تبدو متموجة ، بابتسامة باهتة أشارت : هذا ...
أومأتُ برأسي ..حسنا ... تفضلي بكل سرور سيدتي ... رأيتها تداعبه بصمت ..حينها اقترب زوجها مني وهو يقول : زوجتي منذ أن فشلت في أن تنجب َ لي طفلا ..أصيبت بشيء غير مفهوم ، كرهتْ الأطفال ! وسماع أصواتهم ..لقد أنجبت في البداية ؛ لكنهم لايعيشون !! ذهبتُ بها إلى أصقاع الدنيا ، غير أنه كُتِب علينا الحرمان من الذرية ..بتنا نراها من حولنا لكننا لانملكها ...
انتهى حديثي مع هذا الرجل الذي يبيع كل شيء ولايمتلك شيئا !
التفتُّ لمرافقي الذي يجلس بجواري ولايأبه لكلامي ، غير أنه يطيل النظر في البحر ، أشرتُ إليه : هَيْ هَيْ....أنت لاتسمعني ؟!!!!
لكنني فوجئتُ بعد هذا السرد الطويل ، والضحك والحكايات المتنوعة التي جلتُ وصلتُ بها شرقا وغربا ؛ أن جليسي لايمتلك من رأسه سوى النظر ! فلا هو يسمع ولايتكلم ....
علمتُ حينها أن زينة الحياة الدنيا لم تكن فقط الذرية ... أو ما نمتلكه في أجسامنا من صحة وعافية ، أو ما نتوهمه في هذه الحياة أنه سعادة ونعيم ...
إن زينة الحياة الدنيا ؛ في كل ما حولنا من طيور تضفي السعادة على حياتنا ، وبحر يمتد لآهاتنا ، وسماء نرفع أبصارنا نحوها في ساعات الضيق ؛ فتنجلي وتنشرح صدورنا ...وأناسيّ يستمعون إلينا بكل هدوء –فقط- لنتحدث نحن بانطلاق يلقى صداه بين أفانين الحياة.
*كاتبة من ليبيا
1223 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع