د. منار الشوربجي
لم تندلع التظاهرات من جديد في مدينة فيرغسون وغيرها من المدن الأميركية، لمجرد أن هيئة المحلفين أصدرت قراراً بعدم إدانة الضابط الأبيض دارين ويلسون، الذي قتل الفتى مايكل براون في أغسطس الماضي. فالملابسات والتطورات التي وقعت منذ ذلك التاريخ وحتى صدور القرار، لم تكن أقل أهمية من القرار نفسه.
فهي لم تؤد فقط إلى شعور السود بالغضب، وإنما كشفت عن عمق المعضلة العرقية في الولايات المتحدة، والتي هي قديمة قدم الدولة نفسها. القصة لم تتوقف عند مقتل براون، فجسد الفتى ذي الثمانية عشر عاما ظل ملقى على الأرض في الشارع أربع ساعات كاملة، بعد أن قتله الضابط بالرصاص. وبعد أن ظلت الشرطة في مدينة فيرغسون لأيام ترفض ذكر اسم القاتل، اضطرت لإعلانه، ثم راحت تثني عليه علنا وتبحث في ملف القتيل عما قد يدينه!
أكثر من ذلك، حين اندلعت التظاهرات الغاضبة بعد مقتل براون مباشرة، واجهتها الشرطة بعنف غير مسبوق، وبدت المدينة وكأنها ثكنة عسكرية.
وكان رجال الشرطة أشبه في لباسهم وهيئتهم برجال الجيش، فقد كانوا يرتدون الملابس العسكرية المدججة بالسلاح، ويستخدمون المدرعات والعربات التي تشاهدها في الصور في العراق أو في أفغانستان، وهو الأمر الذي أثار المزيد من الغضب، واضطر المدينة لسحب قوات الشرطة التي تم استبدالها وقتها بقوات من المقاطعة والولاية. ثم ساد الهدوء الحذر عدة شهور، انتظارا لما سوف تسفر عنه التحقيقات.
لكن لعل أهم ما يجسد سير الأمور في اتجاه بعينه، كان إسناد القضية لبوب ماكولاك، كنائب عام لمقاطعة سانت لويس. فأهالي فيرغسون طالبوا بتنحيته، لأنه مر بمحنة شخصية قد تؤثر على مواقفه.
فوالده، الذي كان ضابط شرطة، قتل على يد رجل أسود، وماكولاك نفسه له منذ ذلك التاريخ سجل يشهد بأنه لم يدن ضابطا واحدا في كل القضايا التي تولاها طوال أكثر من عشرين عاما قضاها في منصبه. ومع كل ذلك، ظل ماكولاك هو المضطلع بالأمر. وقد أدار الرجل فعلا مجريات القضية وكأنه ممثل الدفاع، لا ممثل النيابة، بل إنه لم يطلب حتى من هيئة المحلفين الإدانة ولا أي طلب آخر بالمناسبة!
أكثر من ذلك، لم يكن ما جرى بمثابة محاكمة للضابط، عرضت فيها كل الأدلة وتم فصحها وتمحيصها ثم انتهت بالبراءة، وإنما كانت جلسات سرية، لا علنية، عقدتها هيئة المحلفين وعرض فيها عليها ماكولاك ما لديه من أدلة وشهادات، وسمح بشهادة للضابط نفسه استمرت أربع ساعات كاملة، دون أن يناقشه أحد في ما ورد على لسانه من معلومات. وقد انتهى هذا كله باتخاذ المحلفين قرارا بعدم إدانة الضابط، وبالتالي عدم محاكمته.
أكثر من مجريات الأحداث نفسها، فإن المؤتمر الصحافي الذي عقده ماكولاك ليعلن فيه قرار هيئة المحلفين، كان بمثابة صب الزيت على النار المشتعلة، فهو في ذلك المؤتمر الصحافي قلل من شأن الشهود الذين تعارضت شهاداتهم مع شهادة الضابط واستهان بها.
أما شهادة الضابط ويلسون فقد انطوت للأسف على استخدام للكثير من التعبيرات التي تأتي مباشرة من ميراث «التفوق الأبيض»، وما تنطوي عليه من صور نمطية للسود. والصور النمطية هي أحد تجليات المعضلة العرقية، التي هي جوهر المشكلة في فيرغسون، لا ما إذا كان الضابط قد تمت تبرئته، فلم يكن أحد بالمناسبة يتوقع إدانته!
وقد هدأت التظاهرات بعض الشيء مع بداية عيد الشكر وموسم أعياد الميلاد، غير أن هذا الهدوء لا يعني في تقديري استقرار الأمور. فمايكل براون لم يكن الأول ولن يكون الأخير بين السود الذين يفقدون حياتهم على أيدي رجال الشرطة البيض، أو يتعرضون لتدمير حياتهم بسبب عدم عدالة النظام الجنائي القضائي برمته، تجاه السود وغيرهم من الأقليات. ومظالم السود لا تتوقف عند هذا الحد، فالعنصرية المؤسسية لا تزال تطل بوجهها القبيح في مجالات شتى وتؤدي للتمييز، بدءا من السكن ومرورا بالتعليم والصحة ووصولا إلى الإجراءات والقوانين الجديدة في عدد من الولايات، التي صارت تحرم قطاعات واسعة من السود من الحق في التصويت.
ووجود أوباما على رأس السلطة السياسية في أميركا، لم يؤد لا لبداية عصر ما بعد العنصرية كما زعم البعض، ولا هو حتى أدى لنهاية العنصرية المؤسسية والمستترة في أميركا. الأخطر من ذلك أن عصر أوباما لم يشهد تحسنا جوهريا في ما يتعلق بقضايا السود الرئيسية، وهو بالضبط الذي قد يعني انفجار الغضب مجددا في المستقبل المنظور.
فمن ناحية، فإن الظلم الواقع على سود أميركا له أبعاد متعددة مرشحة للتفاقم، وفي الوقت نفسه، فإن عدم حدوث تحسن جوهري في عهد أوباما، يفتح الأبواب أمام مزيد من الشعور بالمظالم فور غيابه عن الساحة السياسية، بعد نهاية مدة حكمه في يناير 2017. فاليوم، يشعر الكثير من السود بأن إنجازا تحقق لمجرد وجوده في البيت الأبيض، لكن في يناير 2017 سيختفي أوباما عن الأنظار، وستبقى المظالم دون حلول تذكر.
952 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع