محمود سعيد
فتحتْ باب المقطورة، غمرها ضوء الشمس المشرقة. هواء ساكن مشبّع برطوبة شديدة أشبه برطوبة البصرة، درجة حرارة في حدود الخامسة والثلاثين مئويّة. يُمكن تحمّل الحرارة، أما الرطوبة فمن الصعب. تصيب النفس، القلب، الروح بالتقزّز.
ثمة شيء ما ذو رائحة كريهة ينبعث من مكان ما؟ أشبه برائحة بيض فاسد، لا بل سمك نتن. أهي المجاري أم زنخة البحر؟ أم يخيّل لها! أذلك من تأثير صدمة الاغتصاب التي جعلتها تمكث عشرة أيام في المستشفى؟ من يدري! عشرة أيام. لا تتناول سوى السوائل، كيف يمكن للإنسان أن يعمل في وسط عدائيّ يتربّص به الجميع؟ تُغتصب، تتمزّق، تدخل مستشفى في اليوم الأول لتسلّم عملها ولا يهتّم أحدّ لما جرى لها، وقبل أن تشفى ينسكب على رأسها حمل من الوثائق عليها أن تطّلع عليها: عشرات أشرطة تسجيل عليها أن تسمعها، تقارنها مع الملّف الضخم المرافق. بدأتْ بها في المستشفى، ثم أنهتْها في المقطورة، الصغيرة الضيّقة، وأنفاسها تختنق، تقرأ وآلام وسطها تشتّد حتى لتدمع عيناها رغماً عنها. ترى كيف يبدو أحمد؟ كيف يبدو ذلك الإرهابي العتيد الذي كُتب عنه هذا الملّف الضخم كله، وتلك الأشرطة المتعددة؟ لا شك أنه عملاق هائل، قويّ، جبار، ذو جسد مليء بالعضلات. حدّقتْ بالسماء. لماذا تبدو في الضحى باهتة الزرقة؟ ثمة غيوم بيض بعيدة في طريقها للذوبان، تمنّتْ لو لم ترتكب تلك الحماقة الكبرى، فتطلب العمل معهم! أكانتْ تدرّي أنها ستعمل في هذا السجن الكبير، المنفى، ومع تلك الإهانة الكبرى؟ كل ما فكّرتْ فيه ابنتها البريئة. أينفع الندم! إن بقيتْ في بيتها، فستنمو الطفلة مشوهة أمام عينيها، وتلك الكرة السرطانية في عظام جمجمتها تتضخم بنموها، ستغدو أشبه بمسخ يثير الخوف والسخرية! ستعاني مدى الحياة هي وباقي العائلة. لا شيء من دون ثمن كما قال الجنرال ديفيد. هكذا الحياة. دفعتْ الثمن مقدماً.
هبّتْ موجة هواء ساخنة مشبعة بالرطوبة والعفن، نعم إنها زنخة البحر لكن أين البحر؟ كم هي مشتاقة لرؤيته! حدّقتْ باتجاه الشمال، الجنوب، الشرق. لم تره. لم ترَ سوى أبراج المراقبة المتعددة، قريبة هائلة واضحة، وبعيدة تمتد إلى أقصى الأفق على بعد لا تستطيع تقديره، تبدو كأعواد الكبريت دقيقة رقيقة. ابتسمتْ، لاحتْ من بعيد النوارس، في جهة الشرق، تحتل السماء بعبث. لابد أن يكون هناك بحر. لا نوارس من دون بحر، أو نهر! ما هذا؟ يا لها من نوارس! إنها دكناء تميل إلى السواد. أكل شيء يختلف في هذا المنفى عن العالم؟ حتى النوارس! لكن أهي دكناء أم يخيل إليها لمصيبتها؟ رفعتْ نفسها إلى الأعلى، وقفتْ على رؤوس أصابعها، حدّقتْ بتركيز. لاح البحر قصياً خطاً أبيض رقيقاً، بعيداً في نهاية الأفق. قدّرتْ أنها لو صعدتْ على سطح المقصورة لرأته، لكن لا سبيل لذلك، لا يوجد درج يصل إلى سطحها، لا من داخلها ولا من خارجها، قدّرتْ أيضاً أنها إن نزلتْ درجات المقطورة الثلاث، فلن تراه، ولن ترى حتى الأفق. الجدار العالي ذو الأبراج العسكرية المرتفعة يحجب المعسكر عن كل شيء جميل، البحر، الأمواج، السفن، غابات جوز الهند، مزارع السكر التي لا تحدّ. عليها أن تسأل إن كانوا يسمحون لها برؤية البحر فقط، يا لها من رغبة سخيفة! كانتْ تعلم أن التجول خارج السجن ممنوع، لا بل جريمة يعاقب عليها القانون، علمتْ من الأوراق التي وقعتها أن الطريق الذي يربط السجن بما حوله لا يمكن أن يفتح إلا بإذن خاص من القائد الأعلى. لا طريق سوى الطريق الجوي بوساطة السمتيّات، من يحاول أن يخرج من دون استقلال سمتيّة يُرمى، من يدخله من دون طريق الجو يّرمى، من يقترب من السياج من داخل المعسكر أو خارجه يرمى أيضاً، لكنها لم تقرأ أن من يغتصب مترجمة وفق عقد شرعي يقتل أو حتى يحاكم، يا له من عالم قاسٍ، عالم مليء بالظلم، يسحق ضحاياه.
حدّقتْ بالأرض لأول مرة. ما هذا؟ ارتعبت، أمامها أرض مليئة بعظّايات خضر، تلمع نقطا فسفورية خضراء على ظهرها، جاءتْ ليلاً، واغتُصبتْ ليلاً، لم ترَها من قبل. أعينها السود ساكنة جاحظة، لكنها تلمع، أهي ميتّة أم نائمة! أتنام وهي مفتوحة العينين؟ أم تراها مستيقظة! ارتعبت. لا، لن تنزل إلى الأرض قط. ظلّتْ واقفة في باب المقطورة، وملّف أحمد في يد، وفي يد أخرى الأشرطة وكتيب صغير فيه مئات الكلمات من الدارجة المغربية. مبوبة معجمياً، وفق الأحرف الهجائية، أيقظها تلفون الجنرال ديفيد موللر قبل ساعة. أمرها أن تنتظره. لن تنزل قبل أن يأتي. من مكانها أمام مقطورتها أخذتْ تخمّن عدد العظّايات التي غيّرتْ لون الأرض المحروقة بالشمس إلى لون أخضر، لو كان في كل متر مربع ثلاث عظّايات، فكم يكون عددها في عشرة آلاف متر مربع؟ ثلاثون ألفاً. أليس كذلك؟ لكن كم مساحة السجن؟ عشرون ألف متر مربع، ثلاثون، أربعون! من يدرّي؟ ترى هل يتجاوز عدد العظّايات المليون؟
أغمضتْ عينيها، لن تنظر إلى هذه العظّايات قط. ستنظر إلى السماء. لم يذكروا لها في العقد أن عليها أن تسير وسط وحوش لم ترها من قبل. وحوش مقززة كهذه العظّايات.
-هيّا.
سمعتْ صوتاً من ناحية اليسار، التفتت، رأتْ الجنرال، هتف: تعالي.
حدقتْ به وبالعظّايات، والرعب يلتهم قسمات وجهها. ابتسم، هتف: تعالي، لا تخافي.
لكنها ظلّتْ في مكانها، اقترب منها، حتى إذ أصبح على بعد متر منها قال مطمئناً: لا تخافي. لا تؤذِي إلا إن وطأتْ عليها، وتركتِ لها الفرصة كي تعضّك، آنذاك تترك أثراً كالوشم في جلدك لا يزول حتى الموت، لهذا زودناكم بجزم عالية حتى الركبة.
كرر: انزلي.
نزلتْ الدرجات الثلاث. وقفتْ على الأرض. حدّقتْ بموطئ قدميها، كان هناك ممر إسمنتي بعرض متر، يشقّ الأرض اليباب أمامها، يمتد من مجمع المقطورات الملتمة وراءها وحتى زنزانات السجناء البعيدة، المنتشرة في فضاء المعسكر، لينكسر موازياً الجداران العالية التي تحول دون رؤية البحر العريض، وقبل ذلك يتفرع إلى ممر إسمنتي آخر يؤدي إلى مجمع مقطورات أخرى إلى اليسار. إن كانتْ هي والجنود والضباط في هذه المقطورات، فمن يقطن في المقطورات الأخرى؟
مرة أخرى حدّقتْ بالأرض، العظّايات تملأ الممرات الإسمنتية والساحة التي أحرقتْ الشمس عشبها، فباتتْ أشواكاً وجذماً صفر، ترى كيف تمشي بينها؟
نقلتْ عينيها بشك من الأرض إلى عيني الجنرال الزرقاوين، وفترتْ شفتاها عن ابتسامة مجهضة انتهتْ لترسم ملامح وجلة مصحوبة بآهة ضياع. كرّر الجنرال ديفيد حاثاً إياها على السير: استمري، تعالي.
- قلتَ أنها تعضّ.
-في حالة وطئها فقط.
لم تتحرك، هتف يستعجلها: لا تخافي. إنها تسمع جيداً فتهرب، انظري.
خطا بخفة أشبه بالهرولة أمامها فأخذتْ العظّايات تهرب من وقع قدميه في شتى الاتجاهات، ذكرتها بأسماك شط العرب الصغيرة، التي تهرب بمثل لمح البصر مع أي حركة في الماء، من رمي حجر، من سقوط تمرة. التفتَ إليها الجنرال حاثاً إياها: هيّا. أنت وحدك بقيت، حينما دخلتِ المستشفى ليلة وصلتِ كان عندنا أربع مترجمين ومترجمات، سُفِّروا جميعاً، هناك أكثر من منطقة ساخنة أخرى في العالم، احتاجوهم بعد الاجتياح. ستأتي دفعة أخرى من المترجمين والمترجمات اليوم أو غدا.
بدأ يسير بخفة، وهي تحاول اللحاق به.
سأل، وهو يلتفتُ إليها ويحثّ السير: هل قرأت الملّف؟
-نعم.
-والأشرطة؟
-كلّها؟
-كيف ستقابلين "مهاماد" المراكشي؟
أدركتْ أنه يمتحنها، قالت: أحمد المغربي وليس محمداً.
ابتسم، ولم يقل شيئاً. بعد برهة التفتَ مرة أخرى: هل حضّرت أسئلة؟
-لا، ليس هناك أسئلة.
-لكني قلت لك.
-قلت لي أدرسي الملّف.
-درستِه؟
-نعم.
-ولا أسئلة؟
-نعم.
-أ أنت متأكدة أنه لم يثر أسئلة؟
-هناك أمور غامضة.
-الغموض يثير أسئلة.
-لا.
توقف، توقفتْ، نظر إليها مستغرباً، سأل محتداً: ما هذا التناقض؟
-ليس بتناقض مطلقاً.
-ماذا تسمينه؟
-اضطراب.
مشى، مشت خلفه، التفت إليها: لم أفهم.
-أتريد رأيي؟
-نعم.
-التقارير تختلف اختلافاً كلياً عن الأشرطة.
-كيف؟
-في التقارير المكتوبة أنه اعترف لكنه لم يكشف عن أعوانه.
-صحيح، لذا يجب أن يكون لديك أسئلة.
-لا.
توقفت، التفتَ إليها: لا تقفي. وقتنا ثمين، تكلمي وأنت تسيرين. دعيني أفهم ما تعنين.
-من يسمع أقواله في الأشرطة يدرك أنه كشف كل شيء، لم يعد الموضوع بحاجة إلى استجواب جديد.
وحينما أدركتْ أنه لم يردّ عليها، خمّنتْ أنه يفكر في كلامها، استمر يسير، وهي تتبعه وكلاهما صامتان، ثم قال وكأنه يحدّث نفسه: لا، لم يكشف.
-الملّف يقول ذلك. الأشرطة تقول شيئاً آخر
-إنه يكذب، عليه أن يقول الصدق.
يسير الجنرال أمامها بخفة تخدع من يراه من بعد فيظنه في ثلاثيناته أو أربعيناته بينما هو في الخامسة والستين تقريباً، فجأة التفتتْ إلى اليسار، رأتْ جندياً أشقر، لوحته الشمس فبات برنزي البشرة، في العشرينات بملابس عسكرية نظيفة، يسير خلفها من بعد، وإذ رآها تنظر نحوه، أسرع ليكون محاذياً لها. ابتسم الجندي لها حينما اقترب، التقتْ عيناهما برهة، انقبض قلبها، لاح لها شبح الاغتصاب الذي مزّق أعضاءها، جعلها تفقد في المستشفى أكثر من اثني عشر باوناً. لم تدرّي لماذا نظرتْ إليه ثانية! يبتسم الجندي ابتسامة واسعة. ما معنى ذلك؟ أساهم بالجريمة! لم تستطع أن تستشف شيئاً من ابتسامته. أهو بريء أم بارع إلى درجة أنه جعل الابتسامة تبدو محايدة. ركّزتْ نظراتها على ظهر الجنرال مرة أخرى، غذّتْ السير لتوازيه. كان نحيفاً متوسط القامة، غيرت شمس المنطقة إهابه، فبات أسمر كأي مواطن في المنطقة، وإذا وصل إلى حيث يتفرع الممر الإسمنتي إلى فرعين، تنتشر إلى اليمين منه زنزانات السجناء متراصة تملأ الأفق، مكشوفة للهواء والشمس والرياح، ظنته سيتجه إليها، لكنه تركها. اتجه نحو عشرات المقطورات المتجمعة كقرية صغيرة تبعد نحو مائتي إلى اليسار.
صعد بالخفة نفسها الدرجات الثلاث للمقطورة رقم 10، ثم فتح الباب بقوة، جعلتْ الباب يئن تحت وطأة عنف فتحه المفاجئ القوي. كان الجو في داخل المقطورة ساخناً رطباً منفراً، شبه مظلم، بينما بدا جندي آخر متين الجثة شبه أصلع، ينظر من شباك المقطورة الشمالي نحو الأفق، فوجئ بفتحة الباب المباغتة، استعد، نصب جسده، تعلّق بصره بالجنرال. دخلتْ خلف الجنرال، وإذ أصبح الجندي الأشقر الأنيق داخل المقصورة، أغلق الباب وراءهم بالقوة والضجيج نفسيهما.
وجدتْ بعد ثوانٍ أمامها على الأرض العارية السجين، توقعتْ أنه هو أحمد المغربي الذي توجّب عليها ترجمة أقواله. بذلة السجناء الحمراء، المتكونة من قطعتين. ساعدا السجين مشرعتان كالمسيح مصلوباً، ساقه الأولى مربوطة من رسغ القدم الأسمر العاري بزنجير من حلقات لامعة مثبتة إلى مسمار كبير في أرضية المقطورة، أما الأخرى، فكانتْ مجذومة القدم، يغطي جورب أبيض ما تبقى من الساق، مثبتة من البطة ومن فوق الركبة بزنجير آخر إلى مسمار مماثل في الأرضية، حدقتْ بالكرة التي يفترض أنها تكوّن الرأس، لم تجد فيها أي ملامح بشرية، هناك لفافة كبيرة حمراء تمتد من الجبهة حتى المنخرين، وكمّامة أخرى تكمّم الفم، وثالثة تغطي الأذنين، لم يكن في الجثة التي أمامها ما يمكن أن يدل على أن هناك كائن بشري سوى منخرين، لا يبدوان إلا إن وقف المتطلع إليهما من الأمام. أهو إنسان؟ ربما تمثال أدخل في ملابس سجين. أو تجويف من النايلون منفوخ. إن كان بشراً فهو ليس بعملاق، لا يبدو قوياً جباراً كما تصوره التقارير. من يدرّي؟
-زينب.
فوجئت، نطق الجنرال اسمها بطريقة صحيحة، كأنه عربي، أو كأنه يتقن العربية. عملتْ منذ أن هاجرتْ في تدرّيس اللغة الإنكليزية، لكنها لم تسمع من ينطق اسمها بشكل صحيح كالجنرال موللر. خففتْ تلك النقطة التافهة من سخطها، وألمها، التفتتْ إليه. تذكرتْ الملّف، والأشرطة. لابد أنه يريد الاستفسار عن نقاط معينة. لفتها الحيرة. قضتْ آخر يومين لها في المستشفى، ومعظم يوم آخر بعد خروجها تدرس الملّف، دوّخ رأسها، دوخها، أفقدها صفاء تفكيرها، قرأتْ كل شيء في صفحاته التي تتجاوز المئة، معلومات كاملة، تفصيلات وافية، اعترافات شاملة، كما يقول المصريون من طق طق حتى السلام عليكم. بينما كان داخلها منفصماً تمام الانفصام من آلام الاغتصاب. وضعتْ أوراقاً بيضاً في ثنايا الملّف، أين النقص إذن؟ ولماذا التحقيق؟ لا تدرّي. ماذا يجب عليها أن تفعل؟ لا تدرّي!.
لم يتكلم الجنرال معها، حدّق بالجندي المتين، أسرع هذا فتح باباً إلى اليمين، ثم جاء بكرسي من الخيرزان، جلس عليه الجنرال، قرب يافوخ السجين من الخلف، ثم نظر مرة أخرى إلى زينب باهتمام. في زرقة عينيه شفافية غريبة، كما لو أنهما من زجاج أزرق باهت، زرعتا في عينيه في عملية جراحية، زجاجتان تنفذان إلى أعماقه. لمحتْ لأول مرة تجعدات وانتفاخات خفيفة تحت العينين، تبدو وكأنها من فعل وإصرار الزمن. وإذ رآها تحدق بعينيه، سألها: وهو يشير إلى السجين: هيا استجوبيه. سنتفعن هنا عشر سنوات أخرى ونحن لم ننجز أي مهمة.
لم تفهم قصده، اضطربتْ بشيء من الخوف، وهو يحدّق بها نافد الصبر، بينما لاحتْ ابتسامة ظفر في عينيّ الجندي المرافق، قال الجنرال يستحثها: تأكدي. من معلومات الملّف، والأشرطة.
ارتجفتْ يداها فجأة، لم يكن هناك أي لبس في الموضوع، لكنها توقّعتْ أنها ستسأل عن بعض نقاط. أغمضتْ عينيها لتجمع أفكارها، فتحتْ الملّف. أين تبدأ؟ احتارت. أي امتحان أمام جنرال يعتبر الاغتصاب أمراً لا بد منه في هذا المنفى! سجّلتْ ملاحظات كثيرة حول تناقضات المحققين، اتجاهات مختلفة، تقاطعات لا حد لها. كادتْ تبكي: غير واحد اشترك في التحقيق، سألوا، استجوبوا، راوغوا، تركوا كتاباتهم، آراءهم، بصماتهم، الكابتن جون كيللر، الملازم ويلبي، النقيب جيم سيفرد، خطوط بالألوان: الأحمر، الأخضر، الأزرق، الأسود في كل صفحة، كلمات وجمل معلّمة بألوان فسفوريّة مختلفة، اختلافات في الخط والتعبير هنا، وهناك. كل بضع صفحات بخط معين، وقلم جديد، وتعليقات مختلفة، لكنها جميعاً تلتقي بنقطة واحدة: أحمد الطويل خطر، عقل منظم عميق التفكير، واضع خطط إرهابيّة من الدرجة الأولى، خبيث إلى أقصى حد. مع تقرير وافٍ من حسين جلالي المساعد الأشد قرباً للمغدور الزعيم شاه ممدي. وإذ ظل الجنرال يحدّق بها قررتْ أن تقوم بعمل ما. قرفصتْ قرب رأس السجين من الجهة اليسرى كي تتمكن من النظر إلى الجنرال من جهة، وإلى السجين من جهة أخرى، فجأة شبت نار محرقة في جروح وسطها، خشيت أن تنزف، عضّتْ على شفتها، أرادتْ أن تطلب من الجندي أن يقرب الكرسيّ لكنها استبعدتْ الفكرة خوف إثارة أعصاب الجنرال.
مدتْ أصبعها نحو كمّادات السجين حول العينين والأذنين والفم، تساءلتْ وألمها يكاد يقتلها وبصوت تعمّدتْ أن يكون ساخراً بشكل واضح: أيسمعني إن تكلمتْ معه؟
رفع الجنرال رأسه إلى الجندي المتين. فحدّق هذا بهم، يداه مشغولتان بسحب سماعات صغيرة تمتد من جهاز تسجيل كبير أسود لم ترَ مثله، أخذ يثبّت السماعات على صدر السجين، في قميصي الجنرال وزينب، من دون أن يتكلم، ثم قرفص أمامهما في الطرف الثاني من جسد السجين، وأخذ يفكّ الكمّامات بسرعة. بدأ بمانعات الصوت حول الأذنين، ثم أزال كمّامة الفم، فندتْ عن السجين آهة ارتياح طويلة. ملامح سمراء وسيمة تميل إلى البياض، فتح فمه كأنه يحاول أن يختبر شفتيه، ثم انفرجتْ أسارير ما حول فم محروس بشارب خفيف ولحية فحمية بطول سنتيمترين، لم تكن متأكدة أهو يبتسم أم يتألم، لأن عصابة العينين كانتْ واسعة تبدأ بالجبهة وتنتهي بنهاية المنخرين. طاف فوق التقاطيع شبح العشرينات المشاغب، ربما لو رأتْ العينين وبقية الملامح لساعدتها في تخمين عمره، لكنها توقعتْ أنه لم يتجاوز الخامسة والعشرين بأي حال. خفق قلبها، ثلاثة أشياء إضافة إلى الاسم مألوفة لديها: بشرته، فمه ذي الحدود الواضحة، ذقنه وعقصته الطويلة، كل ذلك يشبه ما عند أخيها أحمد، عندما كانتْ تتصفح الملّف ظنتْ أن الاسم وحده يجمعهما، ترى ماذا بعد؟ هل ستكون عيناه سوداوان مكحلتان مثل أحمد؟ ودّتْ لو ترى ملامحه، لو تعانقه.
ترى كم ساعة قضى وحواسه معزولة عن الكون، الوجود، الناس، العالم؟ ترددتْ قبل أن تخاطبه. هل سيسمعها؟ وإن سمعها هل تستيقظ حواسه ليجيبها بصفاء؟ كانتْ عينا الجنرال حربتين ناريتين تنغرسان في عينيها، تستحثها، قرّبتْ فمها من أذن السجين اليسرى، قالت: أحمد.
أدار رأسه نحوها، لم يقل شيئاً، أضافت: اسمعني رجاء، وجدوك ذاهباً نحو الحدود، ممن تسلمتَ المتفجرات؟ ولمن تريد أن تسلّمها؟ لماذا لا تعترف فترتاح؟
نبر الجنرال: ماذا سألته؟
ترجمتْ له قولها، ابتسم، هزّ رأسه موافقا: استمري.
لم يجب السجين، أعادتْ السؤال.
فتح السجين فمه فابتسمت، قال: آللّا. اشحال من درّي معاك؟
سألها الجنرال: ماذا قال؟
رفعتْ رأسها نحوه: قال كلماتْ مغربية، لا أعرف معناها سأفتش عن معناها في الكتيب.
بحثتْ عن الكتيب بين الأشرطة، فسقط من يدها، انحنت لتتناوله فانغرزت سكين حادة في جروحها، تأوهت بالرغم منها.
-أهي عربية؟
تهدّج صوتها من الألم: لا أدري.
-إذن فرنسية.
-لا.
-ربما بربرية.
لم تعرف كيف تسيطر على آلام جروحها، أو على إلحاح الجنرال، كادتْ تهتف متضايقة، لكنها ضبطتْ نفسها: أعطني لحظة، دعني أنظر.
صمتَ الجنرال مرغماً، ضحك السجين، أحسّ الجنرال أنه يستهين به، قال بصوت أشبه بالصراخ: أرأيت كم هو خبيث!
ضحك السجين مرة أخرى بصوت أعلى. استنتجتْ زينب أنه لابد أن يعرف الإنكليزية. وأنه يلّذ له أن يتلاعب بأعصاب الجنرال. هتفتْ فرحة والابتسامة تملأ وجهها، نظرتْ نحو الجنرال: وجدْتُها، وجدتُ معنى الكلمات، للّا: تعني سيدة، درّي. تعني طفلاً، سألني: يا سيدة كم طفلاً عندك؟
صرخ الجنرال وهو ما يزال تحت تأثير الغضب: قولي لـ هذا الـ , mother fucker إننا نحن من يستجوبه، لا هو.
غيّرت اتجاه الأسئلة، سألت الجنرال بدورها: في الملّف شيء عن المحفّزات، إن اعترف ماذا ستكون المكافأة؟
- نطلق سراحه.
ضحك السجين بقوة، وبنبرة من يسخر بعمق!
-أرأيتِ؟ أعصابه من حديد.
- أصمت mother faker.
صرخ الجنرال بصوت عالٍ. لكن أحمد أخذ يردد بصوت خافت لكنه مسموع، ومع لحن موسيقي جميل: آللّا. اشحال من درّي معاك؟
قالت: دعك منه. ليقل ما يشاء.
خفض الجنرال من صوته، لكنّه مازال منفعلا: أضرب السجناء عن الطعام، فيهم من أفطر بعد أسبوع، أسبوعين، ثلاثة، أربعة لكنه وحده لم يفطر إلا بعد ثمانية أسابيع، ضرب الرقم القياسي، أيوجد أقوى منه!
انحنت مرة أخرى نحو السجين، قالت بصوت هادئ حرصت أن يكون ودوداً: أحمد، هل تخسر شيئاً إن اعترفت؟ ستكسب كل شيء، الحرية، الراحة، السعادة؟
لم يطلب منها الجنرال هذه المرة أن تترجم له سؤالها، أشار إليها إن تكتبه، كتبته في ورقة سلمتها للجنرال، هزّ رأسه موافقاً، كررّ السجين سؤاله باللهجة الباردة نفسها: آ للّا اشحال من درّي معاك؟
فتحت الملّف، أخذتْ تفتش عن الوريقات التي زرعتها فيه في الليلة الماضية، لتذكرها بحقيقة النقاط المتناقضة في التقارير والأشرطة، عبر حياته القصيرة الواضحة التي سطرتها أقلام متعددة في الملّف: أبوه تاجر سجاد مشهور في الدار البيضاء، اعتاد أن يرسله إلى تركيا، إيران، أفغانستان، الصين، الهند، باكستان. في آخر رحلة له علق بحب شابة حسناء كانتْ تدرُس في إسلام آباد، لم يرجع، تزوّجها، بقي في الباكستان حسب شرط أهلها، استقلّ عن أبيه، ثم انتقل إلى بشاور القريبة من أفغانستان، حيث يستطيع أن يحصل على سجاد راقٍ رخيص من القرى الباكستانية والأفغانية. ثم أخذ يزوّد غير مصدر في المغرب، إسبانيا، فرنسا بطلباتهم من السجاد.
في الخامس عشر من أيلول سنة 2001 ذهب ليسلّم (بيك أب) ضخم مليء بسجاد تبرّع به أثرياء بشاور لتجهيز بضعة مساجد في قرى فقيرة تابعة لمدينة جردي الأفغانية، أعيد بناؤها إثر غارة جوية أمريكية دمرتها كليّة. طلبَ منه المتبرعون أن يسلّمها إلى رجل الدين حميد الله كبيري، في منطقة على الحدود بين البلدين. كان من المفروض أن يرسل مظفراً أخا زوجته، وصديقه الذي يعمل معه راوي. اقنعه مظفر: لم ترَ في حياتك ندف الثلج تداعب وجهك، كيف يغطي الثلج الطبيعة كلها، سهولاً وصخوراً وأودية وتلالاً وجبالاً، أجمل منظر تراه في حياتك، ستتذكره ما حييت، لن يأخذ الطريق منا سوى يوم واحد، لتكن زيارة وتجارة.
استقلوا سيارته النيسان الصغيرة البيضاء الجديدة، وصلوا إلى نحو مئة متر فقط من الـ" تنكنا" (المضيق) المتعرج الملتوي الذي يلتف حول بداية جبال هندوكوش الشاهقة المؤدية إلى الحدود الأفغانية، لا يسمح المضيق إلا بمرور سيارة واحدة، يتوجبّ عليها أن تتوقّف ملاصقة للجبل إن رأتْ أخرى قادمة، وإلا سقطتْ إحداهما في هاوية سحيقة، لا نجاة منها. عندئذ سمعوا أصواتاً منبهة صاخبة لشاحنة كبيرة مسرعة تريد سلوك الـ" تنكنا" قبلهم. الغلطة الكبرى وقعتْ هنا، أعطوها المجال لتمرّ، كانتْ قمرة الشاحنة زرقاء، أما باقي هيكلها فبلون الصدأ الغامق، لكن الفرصة فاتتها، دخل (بيك أب) السجاد الـ" تنكنا" قبلها، فاضطرتْ الشاحنة لتسير وراءه، فتفصل سيارتهم عن البيك آب، لم يكن الأمر بأيديهم. ثم ماذا؟ ينتهي الـ"تنكنا" بعد نصف كيلومتر فقط، عندئذ تلتحق سيارة النيسان بسيارة السجاد لتسيرا معاً. وإذ أصبحتْ شاحنة الصدأ على بعد عشرة أمتار فقط من المضيق هاجمتهم طائرات الهيلوكبتر بقنابل كالمطر. انفجرتْ الشاحنة التي أمامهم، وكأنها كرة نار جبارة تريد أن تحرق الكون كله. كأنها مليئة بالمتفجرات، تمزّق حديدها أشلاءً في شتى الاتجاهات، زرعت النيران والموت في الوجود أمامهم، ارتفعتْ ألسنة النار والدخان حتى النجوم، إلتهب الفضاء كله, لم يجد أحمد نفسه إلا وهو وحده بالمستشفى، أين مظفر؟ أين رواي؟ أين (بيك أب) السجاد؟ أين سيارة النيسان؟ لا يدرّي أي شيء، لم يكن أحد يتكلم معه، حرس مدجج بالأسلحة على الباب، لا أحد يجيب على أسئلته، لا أحد ينقل أخباره إلى زوجته، والد زوجته، أخوتها، أخواتها، إلى أهله، انقطع عن العالم كلية. جاءتْ قوة عسكرية اعتقلته قبل أن يشفى، تسلمته فئة، ثم سلّمته لأخرى، ثم ثالثة، ثم رابعة، ثم، ثم، ثم لينتهي هنا مع آلاف السجناء والتحقيق الذي بدأ ولم ينتهِ.
يتذكر كل ما حدث له قبل هجوم الهيلوكبترات وبعد خروجه من المستشفى. يتذكر كل شيء، يصفه بدقة آلة تصوير جيدة، حتى ألوان بذلة السجن التي كانتْ زرقاء، ثم رمادية، ثم بلون الخاكي، وأخيراً حمراء، ثم مبقعة، ثم عادت زرقاء، ثم، ثم، ثم، الخ. يتذكر الطعام، الجوع، التعذيب، الضرب، السبّ. يتذكر رفاقه في الزنازين كلهم، لم ينس أي واحد منهم، سجّلهم جيمعاً في تلافيف دماغه. في أقواله المتعددة، ذكر كم طائرة استقلّها، وهو معصوب اليدين والرجلين والأعين والأذان والفم. قدّر كم ساعة طار فيها! كيف كان يُصفع، يُركل، يعذّب. شريط سينمائي يبدأ بتفجيرات الشاحنة حتى رُسوّه في مستعمرة العظّايات الخضر. تكرّر قوله منذ ستة عشر شهراً عشرات المرات، المعنى نفسه وبكلمات تكاد أن تكون كما هي من دون تغير، فلماذا كل هذا الغباء؟ التحقيق، الاستجواب، الأسئلة؟
سألته زينب بهدوء وهي تتخيله أخاها: أحمد، لماذا يهمّك كم درّي عندي؟
-آالعراقية! آللا اشحال من درّي معاك؟
سأل الجنرال: ماذا قال؟
-الجملة نفسها لم يغيرها، أيتها العراقية كم طفلاً عندك؟
-أعرفك عراقية؟
-نعم.
-كيف؟
-من لهجتي.
احتد الجنرال، صرخ: قلت لك خبيث، أتعبنا هذا الأحمد، اضربيه. , Fucker mother, shit اضربيه. يستحق الموت، لا يتجاوب.
كادتْ تبكي، قالتْ بما يشبه الأنين: لا أستطيع ضربه. لماذا لا تفعل أنت؟
هتف الجنرال بالجنون نفسه التي استحوذ عليه: انظري إليه. إنه ضعيف جداً، ربما ثمانين أوقية فقط، يعني أقل من أربعين كيلوغراماً إن ضربته ضربة واحدة سيموت حالاً، ويُعدونني قاتلاً لإنسان، وهو ليس أكثر من حشرة، من animal أنت امرأة، ضرباتك أخّف.
انفرج فم السجين، ردد وبصوت جميل عذب وكأنه في عالم آخر: آالعراقية، اشحال من درّي معاك؟
هتف الجنرال، وهو ينظر إلى الجندي المتين: هات الجهاز، دعه يذُق جراء استهتاره.
اختفى هذا مسرعاً بإحدى الغرف، فجأة أحسّتْ بالحرارة تشتد داخل المقطورة، والنفس يضيق، وظهرتْ غير بقعة مبللة في قميص السجين، جعلتْ اللون الأحمر يبدو مبقعاً بما يشبه اللون الماروني، ثم فوجئتْ بالعرق يتساقط من وجهها، بملابسها تلتصق بجسدها، بخاصة تحت إبطيها، في وسطها، أحستْ بالعرق يحرق جروح ما بين فخذيها، وجّهتْ عينيها نحو الجنرال، هتفتْ متضايقة: ألا يوجد تبريد هنا؟
التفتَ الجنرال إلى الجندي المرافق، صرخ: افتح المكيف.
سرت في الجو نسمة باردة أحستْ بالانتعاش، فيما قدم الجندي وبيده عصاً سوداء غليظة قصيرة، وصندوق صغير عليه صليب باللون الأحمر، وجهاز من الإسفنج ينتهي بقابس كهربائي، ثبته بالحائط. أقعى قرب بطن السجين. الجندي، متين تشي ملابسه بعضلات بارزة، كان أحمر الإهاب مع شعر أسود، شبه أصلع، تكاد عيناه أن تكونا جاحظتين في مستوى الحاجبين، أنف قصير مفروش. وضع العصا وصندوق الإسعافات الأولية على الأرض، حاول رفع رأس أحمد فتصالب هذا على نفسه بشدة كي يمنعه، لكن الجندي استطاع رفع رأسه بسهولة، كمّمه فلم يعد يظهر منه سوى منخريه، ثم رفع قميصه إلى الأعلى، بان بطنه بسمرته الخفيفة أميل إلى البياض، رقيقاً، منخفضاً، ككشح طفل في العاشرة، مع سرّة غير عميقة، تذكرتْ زينب أخاها، كادتْ عيناها تدمعان، لكنها تمالكتْ نفسها، ركّزتْ عينيها على الجندي.
حلّ تكة سروال بزة السجين الحمراء، ظهر اللباس الأبيض الطويل تحتها، وضع يديه كلتيهما حول وركي السجين، رفعه إلى ألأعلى قليلاً، ثم مد راحة يمينه تحت إليتي السجين، وبيده اليسرى أنزل اللباس الداخلي، والسجين يتحرك يمنة ويسرّة من دون فائدة، بان أعلى فخذيه المشعرين وجزء من إليته اليسرى، ثم أرجع الإليتين إلى الأرض حيث وضعهما الأول.
ازدادتْ حركة السجين شدة وعصبية، عندئذ سحب الجندي اللباس من الجانبين نحو الركبة، فخرج صوت السجين أشبه بأزيز مخنوق من تحت المنخرين، في الوقت الذي لطمتْ أعين الجميع عانة سوداء كثيفة ترتفع بضعة سنتيمترات فوق جلد اسمر صافٍ، تملأ الفراغ، أنزل الجندي أصابعه الغليظة، أخرج عضو السجين. بدأ هذا ينتفض ويرتجف بشكل غير إرادي. تساءلتْ زينب في داخلها: ترى هل مرّ بهذه التجربة من قبل؟ كان الجندي يمسك به بإبهامه وإصبعين فقط ثم سحبه إلى الأعلى بقوة جعلتْ السجين يتأوه، لكن الكمّامة أخرجتْ الصوت جافاً مخنوقاً، أصبح الحبل حبلاً ضعيفاً ممطوطاً بطول خمسة عشر سنتيمترا، تناول الجهاز الأسفنجي، فتح ظلفتيه، المقورتين في الوسط، أطبقهما عليه، انتفض السجين مرة أخرى. لفّ الجندي الجهاز بشريط لاصق أسود ملحق به، ثم رمى به فوق العانة الفحمية الكثيفة، ضغط على زرّ في وسط السلك الممتد إلى الحائط، أخذ الجهاز يتحرك، يصدر صوتاً قوياً كالأزيز، يرتفع، ينخفض، يتيمّن، يتيسّر، وأحمد يهتّز معه مرتعشاً كأنه جزء من الجهاز، وكمّامة الفم تنتقع بروال يخرج من فمه مع صوت مبحوح مخنوق متحشرج، ولهاث مخرّش يصدر من قعر عميق، في الوقت الذي كان الجندي ينظر باهتمام إلى ساعة ملصقة بالجهاز، يمشي عقربها نحو الجهة اليسرى بهدوء.
نهضتْ زينب، أخذتْ الدنيا تدور بها، رأسها يتضاعف حجماً، ضغطاً، عيناها تخرجان رغماً عنها، صعد القيء فجأة إلى حنجرتها، تراجعتْ مسرعة، أصبحتْ خلف الجنرال، اندفعتْ معدتها إلى الخارج، قذفتْ بعض السوائل على الأرض، مصحوبة بصوت قوي، بصقت، أغمضت عينيها: يا إلهي، أين رميت نفسي؟ لمحت كرسياً قرب الباب، جلستْ عليه، وضعتْ وجهها بين يديها، ودموعها تسحّ، أحست بالجندي الأشقر الأنيق يلمسها من كتفها، ناولها قنينة، أخذتْ منها جرعة ماء، ثمّ صبّتْ على راحتها اليمنى بعضه، مسحتْ وجهها، تنفستْ بعمق، سيطرتْ على نفسها، نظر إليها الجنرال وأشار إليها أن ترجع. وصلت مكانها الأول. السجين ما زال يتفتت من اهتزاز الجهاز القوي، وربما من الألم الفظيع، ترى إلى متى سيصمد؟ وإذ وصل عقرب الساعة إلى نقطة الصفر، هتف الجنرال: هذا كافٍ، إبدأ.
فتح الجندي ضلفتي الجهاز، تناول العضو مرة أخرى، جسّه، كان قد اكتنز قليلاً، بات في سمك الأصبع، مع تغيّر لونه إلى حمرة فيها شيء من السواد. كان السجين لا يزال يرتجف بقوة، بينما أمسك الجندي بحشفة العضو بأصابع يده اليسرى، وشدّه إلى الأعلى ثانية، تناول العصا القصيرة السوداء باليمنى، وبلمح البصر وجّه ضربة صاعقة إلى العضو جعلته يتأرجح يمنة ويسرّة والدماء تنز من الجهة التي وجهتْ لها الضربة، فيما طفق السجين يهتزّ، ويرتجف بشدة، يزفر ويشهق بقوة كالثور الذبيح، وكمّامة الفم تتبلل باللعاب. كرّر الجندي الضربة مرات عديدة، حتى تدفقتْ الدماء من العضو في غير مكان، لا بل تناثرتْ قطرات الدم شتى الاتجاهات، وقعتْ بضع قطرات على وجه الجندي الأصلع، لوثتْ أخرى سرواله، بينما كونتْ باقي القطرات شبه دائرة أهليجية على جسد السجين والأرض. شهقتْ زينب أغلقتْ عينيها، لم تسيطر مرة أخرى على دموعها.
لم تدرِ متى توقّف الضرب، لكن جسد السجين لم يتوقف عن الحركة، كان يرتفع، ينخفض، والشهيق يشتدّ، والرأس يتحرك يمنة ويسرّة، ومن تحت الكمّامة سمعتْ صوت أسنانه تصطك بخفوت.
التفتَ الجندي نحو الجنرال، سأل: هل نعيد الكرة؟
حدّق الجنرال بالدماء تبلّل لباس السجين الأبيض، والسروال الأحمر، والأرض، قال: لا. هذا كافٍ.
عندئذ تناول الجندي صندوق الإسعافات الأولية، رشّ على العضو من قنينة أشبه بقنينة العطر سائلاً أبيض كثيفاً غمرها من جميع الجهات، بدا أن ذلك يؤلم السجين فأخذ يشهق بقوة، عندئذ أخذ الجندي يلّف العضو بالشاش الأبيض الذي كان يتبقع بزهور حمر، حتى إذ انتهى، أخذ يمسح الدم بعناية من فوق السرّة والجلد الأسمر، وشعر العانة وما تحتها، وملتقى الفخذين، ثم رشّ على المنطقة نفسها من قنينة أخرى سائلاً أخضر اللون، وأعاد مسح الدم حتى نظف، ثم أرجع اللباس الأبيض المطرز بالدماء إلى مكانه، وأعاد ربط تكة السروال الأحمر. كان شهيق السجين وزفيره قوياً كأنه يريد أن يفارق الحياة، تمنّتْ في قرارتها أن لا يموت، وتوقعتْ أنه لن يعود إلى وضعه السابق من الوعي حتى بعد يوم كامل. لكن الجندي أزال الكمّامة فظهرتْ قطرات من الدماء تلطخ شفته السفلى، خمّنت أنه لابد عضّ شفته. كان الجندي مستغرقاً في عمله بتوئدة، وكفاءة مهنية، أخرج قنينة صفراء، قربها من وجه أحمد، ضغط على الرأس فاندفع رذاذ كثيف ذو رائحة قوية حامزة جعلتْ أحمد يحرك رأسه يميناً وشمالاً، ليستقر بعد نحو دقيقة في وضعه الأول، ويعود نفسه منتظماً بعد نحو دقيقة واحدة
أدارت زينب وجهها نحو اليسار وهي تمسح دموعها ثم نظرت إلى السجين. مرّتْ هي نفسها بمثل هذه المعاملة قبل أيام. في اليوم الأول لوجودها دعتها المجندات إلى البار، وعندما أخبرتهن أنها لا تشرب، تساءلتْ إحداهن: حتى عصير البرتقال؟
ضحكت: بل أشرب هذا.
-إذن هيا.
في البار الغارق بالضوء ودخان السكاير والموسيقى الصاخبة التي تمزق طبلتي الأذن وضجة الراقصين، وحركاتهم الجنونية لم تجد عصير البرتقال بل الكولا، أحسّتْ بها لذيذة جداً، لكنها وجدتْ نفسها في اليوم التالي في المستشفى، لم تدرِ ما بها، لكنها لا تستطيع أن تقضي حاجتها، لا تستطيع أن تنحني، لا تستطيع أن تقف على رجليها، ملابسها الداخلية ممزقة، وسطها ممزق كله.
لم تفهم نظرات الممرضة، فم صامت، ابتسامة غامضة، عينان ناطقتان تقولان الكثير، جاءتْ بعض زميلاتها اللواتي أتين معها من ديترويت في طائرة الشحن نفسها، قضتْ معها كل منهن بضع دقائق، بكين بحرقة. لماذا؟ لا تدرّي. خرجن. كانتْ تسأل كل واحدة منهن: أحصل لك شيء مشابه؟ لكن لا إجابة. دموع فقط. لم تفهم. ربما لن تفهم حتى الموت. هل ما حدث لها وحدها أم للجميع!
عصر اليوم التالي زارها الجنرال ديفيد نفسه، وعندما اشتكتْ له ما أصابها، أخرج صورة من جيبه، نظرتْ إليها، ضابط ضخم لم تره قط، يحملها هي نفسها بين ذراعيه كطفل، يحملها مستلمة، مغمضة العينين، سألها الجنرال: أهذه صورتك؟ لا يستطيع أن يحملك بين ذراعيه لو لم تكوني موافقة، لا يشكّ بذلك أحد!
الصورة لها، لم تتذكر إلا وهي تثرثر مع زميلاتها وتشرب الكولا، ذلك وحده في دماغها. إذن كيف حدثتْ الصورة؟
فاجأها الجنرال: كم ستتسلمين سنوياً بموجب العقد؟
ظنته يريد تغيير الحديث، دمعتْ عيناها، حدّق بها بقوة، قالت: مئتين وعشرة آلاف دولار.
- المدرّسة في الثانوية لا تتسلم أكثر من خمسة وثلاثين ألف دولار في السنة. راتبك يعادل ستة أضعاف المدرسة. لكل شيء ثمنه أليس كذلك؟
استنتجتْ ما لم تكن تتصوره مطلقاً، بدأتْ دموعها تنهمر، ظلتْ ساكتة، أضاف الجنرال: ذكرتْ في أوراقك أن ابنتك تحتاج إلى عملية مهمة.
هزّتْ رأسها مؤيدة.
-سيكون لها ذاك بتضحيتك.
مصيبتها أكبر من أن تمحيها الدموع، وقعتْ لقمة بين مخالب النمر! ما العمل؟ إن كانوا اخذوا لها هذه الصورة فمن المؤكد إنهم اخذوا لها صوراً أخرى، وأوضاعاً أخرى أشدّ قذارة. تذكرتْ كلام الجنرال حول العظّايات، يبدو أنهم تركوا العظّايات كي تكون رمزاً واقعياً لكل من يعمل هنا، تترك عضة العظّايات أثراً كالوشم لا يزول حتى الموت.
استجوبيه.
جاء أمر الجنرال ليوقظها من سقطاتْ قدرها، حدّقتْ بالسجين رأتْ دموعه تسحّ من عينيه، من تحتِ العصابة المبللة. قدّرتْ أنها دموع غير إرادية، إذ بدا كما كان من قبل مسيطرا على أعصابه.
نادته برقة كما لو كان أخوها: أحمد؟ هل تشعر بتحسن الآن؟
-آ للّا اشحال من درّي معاك؟
سألها الجنرال: أردد العبارة نفسها؟
- نعم.
- يا له من خبيث!
التفتتْ نحو الجنرال: لماذا لا أجيبه. ما المانع؟ دعه يعْتدْ عليّ.
صرخ الجنرال بقوة: لا، لا، لا، نحن من نستجوب وليس هو. ما قيمته هو؟ إنه خراء shit!
توقف لحظة ثم قال: خيّري هذا الـ Fucker mother إن لم يعترف الآن فسنعيد وضع عضوه في الجهاز حتى يتآكل وينتهي، يصبح خنثى.
اقتربتْ من إذنه: عزيزي أحمد، أنت تعرف الانجليزية، أليس كذلك؟ سمعتَ الجنرال، عرفتَ قصده، سيقضي عليك، ماذا تقول؟
جاء الصوت وبنفس الإصرار السابق، وبهدوء، كأنه لم يمرّ بمثل هذه المحنة قط أو كأنه لم يسمع كلام الجنرال أو يسمعها: آللّا، للّا اشحال من درّي معاك؟
- أحمد. لا تتغابى. فكّر في مستقبلك. أنت شاب. سيقضون عليك.
خيّل لها أنه يبتسم: آ للّا، اشحال من درّي معاك؟
أعاد غناء الجملة بصوت جميل، قوي، فقدتْ أعصابها كليةً، أخذتْ تبكي بصوت عالٍ، صرخت: سيقضون عليك. ستنتهِ. فُقْ يا غبي.
وعندما لم يصمتْ ضربته على صدره بكلتا يديها، وهي تصرخ: كفى.
- آ للّا، اشحال من درّي معاك؟
-كفى.
-آ للّا، اشحال من درّي معاك؟
-كفى. كفى. كفى. كفى. كفى.
- آ للّا، اشحال من درّي معاك؟
كانتْ يداها تقعان على القسم الأيسر من صدره، وكانتْ تصرخ وتضربه بعنف يتزايد مرة بعد مرة، وآلام وسطها تمزقها بضراوة ولهيب يتصاعد، فيشتد بكاؤها وتعلو نبرات صوتها مع عنف حركة اليد، مصحوبة بنشيج باكٍ، استمرتْ تضربه من دون وعي، وصوتها العالي يردد كلمة كفى. وهو يردد بعدها مباشرة وبإلحاح: آ للّا، اشحال من درّي معاك؟ حتى خفتَ صوته، صمتَ، انتهتْ حركات شفتيه، لم يخرج من فمه أي شيء. لم يبق سوى صوتها، وضربات يديها على صدره، وصراخها: كفى. كفى. كفى. ثم أدركتْ أنها وحدها في الميدان، فتوقفت، حدّقتْ به. لا حركة. لا نفس. أي جسد واهٍ؟ وضعتْ أذنها على صدره ودموعها تسحّ على ملابسه الحمر، لم تسمع أي دقّة. جسد صامت، صمت الصخور. طفقتْ تبكي بصوت عالٍ. سحبها الجنرال من كتفها الأيمن: لا عليك. لا تبكي. هذه هي النهاية التي يستحق.
ثم نظر إلى الجندي المرافق: نادي الطبيب ليلقي نظرة عليه.
خرج الجنرال، وهي تتبعه وخطواتها واهنة ضعيفة، تكاد تلقي بها فوق العظّايات، والعظّايات تبتعد عن طريقهما، وهي تنشج، وترجف، وعقلها وأحاسيسها مع السجين الجامد في الداخل وهو يردد: آ للّا، اشحال من درّي معاك؟ وشيء ما في قرارتها يرفض أن يصدق أنه مات، ترى لماذا كان يصرّ على معرفة عدد أطفالها! كان وقت الغداء قد حان، فقدتْ شهيتها، بقيتْ في مكتبها الصغير، جامدة أمام الحاسوب، مشتتة الفكر.
بعد قليل استدعاها الجنرال، وضع أمامها أوراقاً للتوقيع تقضي بأن السجين أحمد الطويل قد انتحر. "كان معروفاً بتمرده، غروره، اضرب عن الطعام، عشرات المرات، هو الوحيد الذي بقي من دون طعام ثمانية أسابيع، كان عنيداً إلى درجة أنه فضل أن ينتحر ليحرج إدارة المعسكر، بالرغم من المعاملة الممتازة التي تجري مع الموقوفين وفق معايير مبادئ حقوق الإنسان، والتصرف القانوني المسؤول".
-أشار الجنرال إلى كومة من الأشياء أمامه: هذه هي كل ما كان عنده، أنت شاهدة.
حدّقت، ساعة رجالية فاخرة بسير فضي، خاتم ذهبي، وثيقة تأمين صادرة من شركة باكستانية على سيارة نيسان Sunny ، خفق قلبها بعنف، صورة لأحمد، تذكرت أنها كانت تتوق لرؤية ملامحه، هذه صورة له، لم تره في الحياة، لترَ صورته بعد موته. آه كم هو وسيم! أوسم من أخيها، جبهة عريضة وشعر أسود فاحم على شكل قوس فوقها، بدر أسود، قربه عروس جميلة جداً، لم تتجاوز الثامنة عشرة، في حلة الزفاف البيضاء الرائعة المكيفة بزينة باكستانيّة، رخصة سوق باكستانية عليها صورة ملونة، لم تستطع التحديق بالصورة، أدارت رأسها، ربما تعود الحياة إليه فيعاتبها مرة أخرى، وصدى كلماته يخترق الكون: آالعراقية، اشحال من درّي معاك؟ ثم صورة أخرى لطفلة تشبه أمها، في شهرها السادس، ذات عينين حادتين واسعتين ترسلان نظرة معبّرة ذكيّة، حدّق الجنرال بالجندي الأشقر المرافق.
-تعال وقّع.
وقّع الجندي وخرج، همّتْ زينب بالتوقيع حين رنّ جرس التلفون، التفتَ الجنرال ليردّ عليه، فمدتْ يدها وتناولتْ صورة الطفلة الجميلة، يا لعينيها الرائعتين! لابد أنها أصبحتْ الآن في عمر السنتين، بعمر ابنتها نيران، ترى ألهذا كان يسألها: آللّا، اشحال من درّي معاك؟ لماذا كان يصرّ على وضع كلمة العراقية قبل السؤال؟ لماذا يكرر سؤاله؟
عندما أنهى الجنرال مكالمته كانتْ هي قد أنهتْ التوقيع بينما استأنف الجنرال وضع ما يخص أحمد في كيس من النايلون، ثم كتب على ورقة: أحمد الطويل المغربي، تسلّم محتويات هذا الكيس إلى أي من تقرر السلطات القضائية صلة به.
وقّع إلى جانب الشاهدين، وكتب اسمه، وتاريخ اليوم: الرابع من أيار. 2003
وضع الجنرال الكيس في جرار خزانة حديد رمادية إلى يمينه، ثم نظر إلى زينب، قال بصوت هادئ: سأرسل إليك بعد الغداء لنستجوب سجيناً آخر. خرجتْ ونظرات الطفلة ترسل سهاماً نارية تحرقها، في محيط غرفة يتلاطم فيها صدى صوت أبيها وهو يغني: آالعراقية، اشحال من درّي معاك؟
710 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع