د. منار الشوربجي
التصعيد الذى شهدته العلاقات الأمريكية الروسية فى الأسبوعين الأخيرين من عام 2014 هو الأكثر كثافة وخطورة منذ انهيار الاتحاد السوفيتى. وهو تصعيد يبدو مرشحا لمزيد من الاشتعال لا التهدئة.
ففى الثامن عشر من ديسمبر الماضى، وقع الرئيس الأمريكى على مشروع قانون صدر عن الكونجرس لفرض مزيد من العقوبات على روسيا. وهو القانون الذي صار يعرف باسم «قانون دعم حرية أوكرانيا لعام 2014». والقانون لا ينص فقط على تقديم دعم سخى لأوكرانيا وفرض عقوبات على روسيا وانما ينص أيضا على التدخل صراحة فى الشئون الداخلية فى روسيا.
فالقانون يقدم مساعدات عسكرية لأوكرانيا بما يصل إلى 350 مليون دولار خلال الأعوام الثلاثة القادمة، وهي مساعدات تتضمن أسلحة وذخيرة وتدريبا وخدمات عسكرية، فضلا عن المساعدات الاقتصادية التى تتضمن مساعدة الحكومة الأوكرانية على مواجهة أزمة الطاقة التي تعاني منها.
لكن القانون نص أيضا على فرض عقوبات على صادرات السلاح وواردات الطاقة الروسية، ومعاقبة المؤسسات المالية التي تقوم بتسهيل مثل تلك المعاملات. غير أن الأخطر من هذا كله هو النص على التدخل الصريح فى الداخل الروسي.
فتحت عنوان «دعم الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني فى روسيا»، ينص القانون على تقديم الدعم «المباشر من وزارة الخارجية الأمريكية أو عبر منظمات غير حكومية» إلى المجتمع المدني الروسي لدعم الديمقراطية. أكثر من ذلك، ينص القانون فى بند آخر على التوسع فى استخدام راديو «صوت أمريكا» وراديو «أوروبا الحرة» باللغة الروسية ليس فقط فى أوكرانيا ودول البلطيق وانما فى الداخل الروسي نفسه.
تلا صدور القانون الأمريكى انهيار جديد فى العملة الروسية. وفى الأسبوع نفسه كان برلمان أوكرانيا قد وافق على إلغاء وضع عدم الانحياز الذي تبنته أوكرانيا فى السابق وذلك تمهيدا للانضمام لحلف الناتو.
ولم يمر سوى أسبوع واحد على صدور القانون الأمريكي والقرار الأوكراني حتى صدرت عن موسكو وثيقة تحمل «المذهب العسكري الروسي الجديد»، والذي اعتبر حلف الناتو تهديدا رئيسيا للأمن القومي الروسي. وقد أكدت الوثيقة على التوسع فى تطوير الجيش الروسي وزيادة الميزانية العسكرية.
والواقع اللاهث للتصعيد المتبادل انطوى على أحداث كثيرة وتصريحات بالجملة فى الأسبوعين الأخيرين. فقد نجحت روسيا فى اختبار صاروخ نووى جديد ينطلق من غواصاتها ليصل إلى عمق الولايات المتحدة.
وعبر وزير الخارجية الروسي عن غضبه إزاء القانون الأمريكي قائلا فى زيارة إلى لاتفيا أن بلاده لن تسكت على العدوان على اللغة الروسية فى دول البلطيق، بينما كان أوباما، قبل ذلك بأسابيع، قد اعتبر الدفاع عن ريجا، عاصمة لاتفيا، «مسؤولية اميركية مثل الدفاع عن »باريس وبرلين«.
ورغم أن وسائل الإعلام الأمريكية نقلت أن فلاديمير بوتين أرسل تهنئة بالعام الجديد إلى باراك أوباما إلا أن الواقع الفعلي على الأرض يشى بأن تلك التهنئة باردة برودة الطقس فى موسكو فى بداية العام الجديد.
لكن لعل تلك التهنئة سببها أن بوتين مدين بشعبيته المرتفعة هذه الأيام لأوباما. فرغم الانهيار المتزايد فى العملة الروسية والأوضاع المتفاقمة فى روسيا، إلا أن شعبية بوتين فى تصاعد بسبب التصعيد الأمريكي.
فالشعب الروسي، صاحب الحضارة، جريح ويشعر أن الولايات المتحدة لم تحفظ عهدها الذي قطعته على نفسها لجورباتشوف بألا يتحرك الناتو »مترا واحدا نحو الشرق«، على حد تعبير وزير الخارجية الأمريكي وقتها جيم بيكر.
والوضع جد خطير. فأوكرانيا أعلنت زيادة ميزانيتها العسكرية إلى 3,2 مليارات دولار وإضافة 40 ألفا من المجندين الجدد لقواتها. وقوات الناتو تتمركز فى غرب أوكرانيا بينما القوات الروسية موجودة فى القرم.
لو أن الآية معكوسة، وروسيا هي التي تدخلت فى مجال النفوذ الحيوي لأمريكا لكان رد الفعل الأمريكي هو نفسه ما تفعله روسيا اليوم. فى الستينات، حين تجرأ الاتحاد السوفيتى على مثل ذلك السلوك فى أمريكا اللاتينية، المجال الحيوي للنفوذ الأمريكي، وصل الأمر للتهديد بحرب نووية إن لم تتم إزالة الصواريخ الروسية فورا من كوبا.
لذلك، ليس من المنتظر أن تؤدي العقوبات الأمريكية لتحجيم روسيا فى أوكرانيا، وانما قد تؤدي لإقدام روسيا على التدخل فى أمريكا اللاتينية. وهو ما جاء صراحة فى وثيقة المذهب العسكري الروسي، التى أعلنت عن النية فى تطوير التعاون العسكري ليس فقط مع دول البريكس، أى الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وانما مع »عدد من دول أمريكا اللاتينية«.
باختصار، مع تلاشي الأضواء الأخيرة لعام 2014، بزغت فى الأفق سحب كثيفة من التوتر بين الشرق والغرب بطعم جديد. فهي جد مختلفة هذه المرة. ففي الألفية الجديدة، لا يوجد سبب وراء التصعيد الأمريكي سوى للاحتفاظ بالهيمنة على العالم ومنع أي قوة من منافسة الامبراطورية الأمريكية، حتى لو لم تكن تنافسها أصلا!
701 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع