د. سيّار الجميل
مقدمة :
أرسل لي الصديق عادل بقال قبل أيام من ديترويت استفسار الأستاذ كمال يلدو الذي سألني بصدد " المشكلة " التي حدثت بين الإخوة الصابئة المندائيين وبين المؤرخ عبد الرزاق الحسني الذي تقوّل عليهم ما ليس بحقيقة ، واتهمهم في كتابه عنهم ،
بما ليس له أي اصل أو ثوابت عندما اصدر كتابه عام 1931 ، وكان الكنزبرا الشيخ دخيل بن الشيخ عيدان بن الشيخ داموك الرئيس الروحاني لطائفة المندائيين في العراق وإيران1881 – 1964 .. ولقد طلب مني احد الأصدقاء المندائيين نشر مقالتي هذه للإفادة ، ولكي لا يأخذ البعض بما كتبه الحسني .
إن مشكلة بعض المؤرخين العراقيين ، كتاباتهم عن أطياف عراقية بلا حيادية ولا أمانة .. بل يبالغون في المدح أو الذم .. أو يسقطون معتقداتهم وأفكارهم ضد الآخرين بلا وجه حق ، أو يلصقون التهم بمن يخالفوهم في الرأي أو المعتقد.. وهذا كله نتيجة عوامل معقدة يحملها البعض من العراقيين ضد عراقيين آخرين ، أو ان البعض يقتحم ميدان كتابة التاريخ بلا أي منهج ولا أي مبادئ ولا أي حدود وضوابط .. ويطلق أحكاما قاسية لا يراعي فيها الحقائق ولا يتحرى فيها عن الصواب ! وأتمنى على المثقفين العراقيين جميعا ان لا يأخذوا ما كتبه البعض من معلومات وأحكام إلا بعد تدقيقها وفحص صوابها من خطئها .
لقد انتفض الشيخ دخيل وصحبه من المندائيين ، عندما قرأوا ادعاءات السيد الحسني عنهم وعن ديانتهم ، وأصابهم الحزن ، واعتبروا ذلك طعنا في ديانتهم العريقة .
والحقيقة ، ان الحسني قد اضطلع بجمع الأحداث وتسجيل الوقائع ، وسرد المعلومات التي وقعت في يديه عندما كان يعمل كاتبا في مجلس الوزراء ، فاستفاد من وظيفته ليجمع معلوماته عن الوزارات وجمع كتابا عن تاريخ العراق السياسي الحديث ، وجمع سردا للصحف والمجلات وكتب عن اليزيدية والمندائية وغيرهم .
تحليل طبيعة " المشكلة "
دعوني أحلل طبيعة " المشكلة " التي وقعت بينه وبين المندائيين وعلى رأسهم الشيخ دخيل ، إذ صرخ بوجه الحسني باسم المندائيين معارضا الحسني وأضرابه في ما يخص الشأن الديني، إذ تقدم لمقاضاة الحسني بسبب الادعاءات التي وردت في كتابه "الصابئون في ماضيهم وحاضرهم". في يوم (11 كانون الثاني/ يناير 1931)، وقف الشيخ دخيل أمام هيئة المحكمة في بغداد ليقرأ في كتاب "الكنزا ربا" باللغة المندائية القديمة (الآرامية الشرقية ) ووقف الأب العلامة أنستاس ماري الكرملي مترجما النصوص إلى العربية، فاقتنع القضاة العراقيون بأن المندائيين ليسوا عبدة أجرام وكواكب ونجوم وشهب .. بل انهم من الموحدين الذين يعبدون الحي الأزلي ، ولقد قرأ الشيخ دخيل مجموعة من " بوثات " (= آيات) من الكتاب الأول، وهي سلسلة تسابيح في التوحيد الإلهي . لقد تمّ ذلك بإشادة من القضاة ، وخصوصا من حاكم محكمة الجزاء الأولى شهاب الدين الكيلاني ، وبتعاطف كبير من قبل متصرف بغداد أمين خالص مع قضية المندائيين . وجاء في النص : " لقد تأكد لدى اللجنة القضائية ان الصابئة المندائيين دين موحد وليسوا عبدة كواكب ونجوم كما ذكر الحسني في كتابه ، وان الأب الكرملي ذكر بأن المؤرخ الحسني بنى نظريات واستنتاجات شخصية غير مدروسة .. لذا كسبت الطائفة القضية ، والمحكمة دانت الحسني لعدم رجوعه إلى أصحاب الشأن واستشارة رجال الدين الصابئة في ما ذهب إليه من معلومات غير صحيحة وغير دقيقة " .
ولما ووجه الحسني بالحقائق ، قام بالاعتذار العلني من الشيخ دخيل عن الخطأ الذي ارتكبه ، إذ بعث برسالة اعتذار بتاريخ 16/3/1932 وطلب من الشيخ دخيل ان يتوقف عن تهويل الأمور وان يتوقف عن الضجة التي ساقته للمحاكم وتكون العاقبة غير حسنة ، ووعده بأنه لن يعيد نشر الكتاب إلا بعد الركون إلى تصويبات الشيخ دخيل والعمل بها ، لكنه لم يفِ بعهده الذي قطعه أمام الناس وأمام القضاة ، إذ نكث بذلك ، وقام بطبع كتابه عدة طبعات، خافيا الحقيقة عما جرى ، وبعد أربعين سنة على تلك " المشكلة " التي أدين فيها ، نشر إبان السبعينيات في مجلة "التراث الشعبي" مقالاً بعنوان "إذا مات الصبي"، ناشرا بأن ما سمعه لما يدور شعبيا بين العامة حول الصابئة المندائيين، أنهم يخنقون المحتضر ( كذا ) ، فأساء ثانية للمندائيين ، والصحيح انهم يُلبسون المحتضر منهم " الرستة " وهي الثياب الدينية ، لتطهير بدنه قبل الوفاة. وكان على السيد الحسني ان يسأل عن صدقية الرواية ويكذبها ، وكان عليه ألا يخوض في معتقدات المواطنين المندائيين.. اذ تعتقد أية ملة بأن ما يشاع ضدها هو القتل بعينه!
ويتساءل البعض : إذا كان المندائيون يقتلون أو يخنقون المحتضر ، فكيف لا يتعرضون للعقوبة الجنائية؟ وكيف أشاع السيد الحسني هذا الادعاء الباطل؟
وعندما اعتذر الحسني في الظاهر للمندائيين ، فإنه راح يكتب في الباطن ويعمل ضدهم بعد انفضاض المحكمة ، إذ نشر في مجلة "الهلال" المصرية (أيار / مايو 1932) يقول : "فتلقينا من ضجيج الصابئة وإنكارهم ما جرَّنا إلى المرافعات ومحاكمات طال أمدها، ولكنها انتهت بفشل المدعين لعدم وجود مأخذ على ما كتبنا ونشرنا". وهذا تدليس والتفاف على الحقيقة ، وتنصّل عن الاعتذار الذي قدّمه وإيغال في العداء ضد المندائيين من عراقي اعترف بخطئه أمام الناس ، ثم تراجع ليدعي غير الحقيقة !
لم يكتف الحسني بذلك ، بل بقي يغالي في خصامه ضد المندائيين ، إذ قام بعد أكثر من عشرين عاماً من تاريخ تلك " المقاضاة " ، فكتب رسالته إلى الشيخ دخيل مداهنا ، يقول فيها : "إكراما لخاطركم وحباً بدوام حسن العلاقة بيني وبينكم لاسيما بعد أن اتضح بأني لا أريد إلا خدمة التاريخ وتحري الحقيقة " (20 تشرين الأول/ أكتوبر 1957). وكانت وزارة المعارف، في عهد الوزير خليل كنة قد ردت طلب الحسني، الذي عرض فيه شراء (205) نسخ من كتابه عن المندائيين ، وجاء الرد رافضا ذلك : "ذلك لعدم الإفادة منه في مؤسساتنا الثقافية"، لكن بقي الحسني يلح في طلبه ويتوسل ويتوسط لدى الآخرين حتى نفذته الوزارة على عهد الوزير الأستاذ منير القاضي .
وينكر السيد عبد الرزاق الحسني بأن تكون الطائفة قد كسبت القضية المرفوعة ضده ، ويشير ذلك في كتابه المصحح ( الصابئون قديما وحاضرا ) طبعة عام 1957 صفحة 6 في ( كلمة المؤلف ) ، يقول : كنا قد طبعنا رسالتنا ( الصابئة قديما وحديثا ) في القاهرة عام 1931 ، أعقبناها برسالة مطولة نشرناها في الهلال أيار 1932 ، فتلقينا من ضجيج الصابئة وإنكارهم ما جرنا إلى مرافعات ومحاكمات طال أمدها . ولكنها انتهت بفشل المدعين ، لعدم وجود مأخذ على ما كتبنا ونشرنا ... لكنه يعترف بنفس الوقت بأنه لم يحصل على المعلومات من الطائفة . لذا يتأكد لنا بأن كتابه ( الصابئة قديما وحديثا ) ظهر بحقائق غير دقيقة وافتراءات ، مما أثار حفيظة طائفة الصابئة ... فيقول في صفحة 5 من نفس الكتاب ؛" قوم من أصحاب الديانات القديمة غلب عليهم الحياء والكتمان فكان ذلك مدعاة لاختلاف العلماء والمؤرخين في حقيقة أمرهم .ويقول أيضا ؛ وقد أتى على هذا السر عهود لم يهتك له فيها ستر ، ولم يستشف احد ما وراءه ، والناس واقفون فيه عند حد التكهن والظن ، يتطلعون إلى مكنون أمرهم بلهفة شديدة ، ويحاولون استكشاف حقيقة ديانتهم برغبة ملحة ، فإن القوم يوشكوا ان ينقرضوا من سفر الوجود ، ولا يبقى لهم إلا الذكر الخالد ، وهم يكتمون ديانتهم كل الكتمان ويضنون بأسرارها حتى عن أهلها واتباعها . ومما يزيد الأمر إشكالا والبحث تعقيدا .. ان الصابئيين منزوون عن غيرهم من الطوائف كل الانزواء ، سواء كان ذلك من ناحية شعائرهم الدينية التي يقيمونها ، أم من ناحية اللغة التي يتخاطبون بها".(انتهى النص ).
هنا أسأل : بأي وجه حق يتدخل الحسني في الشأن المندائي ؟ لكل طائفة صغرى في مجتمع صعب تقاليدها في حفظ اسرارها واتباع تقاليدها .. ولا شأن للاخرين في امورها ، ما دامت تلك الاقليات الصغيرة لا تؤذي احدا ، ولا تخالف الاغلبيات ولم تقف حجر عثرة امام القانون ، بل ولا تعترض على سلوك الاخرين وطقوسهم ومعتقداتهم !!
وأخيراً
إن السيد عبد الرزاق الحسني قد أساء ليس للمندائيين وحدهم ، بل أساء إلى جماعات مجتمعية عراقية أخرى ، وإلى تواريخ وسير شخصيات عراقية نظيفة ، واتهمهم اتهامات باطلة لا أساس لها من الصحة .. وكان مواليا لكل الأنظمة السياسية ، وبعد رحيل أي نظام سياسي ، كان يبدأ التنكيل برجاله .. والكل يذكرون عندما كرّمه لطيف نصيّف جاسم وزير الإعلام على عهد النظام السابق ، خرج الحسني قائلا بنفسه على شاشات التلفزيون: من قلة الخيل ، شدّوا على الكلاب سروج !
426 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع