عدنان حسين
حكى لنا زميلنا المخضرم الأستاذ خالد القشطيني (له العمر الطويل والصحة الموفورة) ذات مرة انه عندما كان يعمل مترجماً بالمركز الثقافي العراقي في لندن في عهد نظام صدام دخل ذات يوم على مدير المركز في غرفته فوجده حاملاً مسدساً في وضع التأهب والتصويب نحو هدف معين. يقول انه دُهش للمشهد، فالمفترض ان الصحفي والمثقف أبعد ما يكون عن السلاح ولغته.
ويضيف انه سأل المدير عن معنى ما رآه، فأجابه بانه يتمرن على ما تدرّب عليه لدى جهاز المخابرات من رمي بالمسدس للردّ على أي هجوم محتمل عليه من المعارضين.
في تلك الحقبة كان نظام صدام قد اختلق شعار "للقلم والبندقية فوهة واحدة"، وقد كسر صدام القلم الحر وأبقى على فوهة البندقية مفتوحة الى أبعد مدى، فسقط برصاصها وقذائفها وصواريخها مئات الآلاف من العراقيين وغيرهم في سلسلة متصلة من الحروب الداخلية والخارجية المدمّرة التي تتواصل حتى اليوم عواقبها الكارثية.
الفلول المتبقية من ذلك النظام تتحين الفرص دائماً لإعادة إنتاج سلوكيات نظامهم المقبور.. الآن يُطلّون علينا ببدعة سقيمة تنتمي إلى تقاليد نظامهم البائد بطلب تسليح الصحفيين!
عشرات الدول في شرق العالم وغربه مرّت بظروف تشبه ظروفنا، بيد ان أحداً فيها لم يختلق مثل هذه الفكرة التي تُشم منها رائحة فساد إداري ومالي وحتى أخلاقي.
الفكرة السقيمة تقول بمنح الصحفيين تراخيص بحمل السلاح، والذريعة انهم معرضون للقتل والتهديد بالقتل والابتزاز (أصحاب الفكرة السقيمة أوردوا اسم داعش بعد القتل والتهديد والابتزاز ليعطوا فكرتهم السقيمة بعداً وطنياً!).
الصحفيون ليسوا الفئة الوحيدة التي تتعرض للقتل والتهديد بالقتل والابتزاز والخطف، فالأطباء مثلاً أكثر عرضة لهذه الجرائم من الصحفيين، وكذا الأكاديميون والمهندسون وسواهم من نخبة المجتمع.. هل يتعيّن تسليح هؤلاء جميعاً؟
الدعوة لتسليح أية فئة اجتماعية يعني تمييزاً وتفضيلاً لها على غيرها، وهذا يتناقض مع مبدأ المساواة بين المواطنين الذي يكرّسه الدستور. والدعوة لتسليح فئات بعينها تعني إعفاءً للدولة من مسؤوليتها في توفير الأمن لجميع مواطنيها، وتعني التشجيع على وضع السلاح في يد كل من هبّ ودبّ، فيما المطلوب حصر الأسلحة في يد الدولة. نحن نعاني من انفلات أمني يُمكّن المنظمات الإرهابية وعصابات الجريمة من الحصول على السلاح والذخيرة واستخدامهما ضد المجتمع، ونحن نعاني الآن من ظاهرة الميليشيات التي ترتفع الأصوات بضبطها وحلها وعدم السماح بحمل السلاح لغير الأجهزة العسكرية والأمنية الحكومية، وهذا ما نبّهت إليه وطالبت به حتى المرجعية الدينية العليا في النجف.
ثمة رائحة فساد إداري ومالي وأخلاقي تتطاير من خلف المطالبة بتسليح الصحفيين، فهذا التسليح سيكون في الواقع العملي حكراً على الخواص وعلى دافعي السحت الحرام مقابل التصاريح بحمل السلاح، مثلما هو حاصل بخصوص منح الهويات الصحفية للآلاف من الأشخاص الذين لا صلة لهم بالصحافة من قريب أو بعيد. ثم ما الذي يضمن عدم السوء في استخدام السلاح؟
حماية الصحفيين واجب على الدولة، كما هي حماية كل المواطنين أفراداً وجماعات. لا يمكن حماية الصحفيين أو أية فئة أخرى من دون حماية المجتمع برمته.
الصحيح والسليم أن يجري العمل على توفير مستلزمات الحماية للصحفيين العاملين في الميدان كالملابس المضادة للرصاص، والصحيح والسليم أن يجري صرف الراتب التقاعدي المخصص لعائلات شهداء الصحافة، وان تُضمن للصحفيين حقوقهم المهنية والتقاعدية في مؤسساتهم وخارجها ، وأن تُحفظ كرامتهم الإنسانية والمهنية.
832 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع