أ. فؤاد يوسف قزانجي
التصوف الاسلامي
يمثل التصوف الاسلامي، طريقا جديدا خاصا لفكرة الرهبنة المسيحية التي تاثر بها الاسلام عندما استقر الحال بالمسلمين وسط المسيحيين الذين كانوا في فلسطين وسوريا والعراق ،يرجح ان التصوف الاسلامي بدآ اولا في بلدة عبادان جنوب غربي ايران، ثم في البصرة في جنوب العراق ، وقد سموا اولئك النساك بالمتصوفة .
يعتبر ابو الحسن البصري (ت 728) ، ابا للمتصوفة . ويقوم مذهبه “ على الشعور باحتقار الدنيا ، وقاعدته في الحياة لم يكن يستلهمها فقط من المجانبة الدقيقة لكل الاعمال التي تبدو موضع شبهة في نظر الشرع، وذلك ما يعرف بالورع ، بل كان يستلهمها ايضا من الزهد في كل ماهو فان وزائل.” وكان تاثير البصري على التصوف كبير،والطرق الصوفية الاسلامية تعده مؤسسها الاول .
في عهد الخليفة المتنور عبدالله المأمون ،تحولت الحركة الصوفية” الى مايسمى التصوف العقلي والمعرفة اللذين اعتمدا على
موضوعين رئيسيين هما موضوع الله نور السماوات والارض، وموضوع الانسان الكامل الذي تتجلى فيه القيم الروحية التي هي الصلة الحقيقية بين الله والانسان .” (1)
ااما المتصوف الشهير ابو المغيث، الحسين بن منصور الحلاج ، فقد ولد في بلدة طور في جنوب بلاد فارس عام 858 ومات مصلوبا ومعذبا في 26 آذار من عام 922 .
كان الحلاج كاتبا وشاعرا ومن اعلام المتصوفة المسلمين ،الذين على الارجح قد اخذوا تقاليدهم من بعض تقاليد الرهبنة والتنسك واضافوا اليها، التي تقوم على التقوى والتعفف وحب الاخرين وخدمتهم . وقد طور الحلاج تلك التقاليد فاضاف عليها الانتفاض ضد الظلم والطغيان . كانت حياته الدراماتيكية قد اثرت في العامة فاحبوه وحفظوا اشعاره التي كانت تناجي الله الى درجة العشق الالهي .
ذهب الحلاج في مقتبل عمره للعيش في مدينة واسط المدينة التي بنيت مقابل مدينة كشكر ، التي كانت من اكبر المدن المسيحية في العراق الى جانب الحيرة . كانت مدينة واسط آنذاك مركزا سياسيا وتجاريا وثقافيا مهما الى جانب مدينة الكوفة . وانجذب منذ شبابه الى حياة النساك الذين كانوا يسمون بالمتصوفة . ولم يكتف بذلك بل سعى في شعره الى التحاور بينه وبين السماء ، فوقع في اشكاليات دينية لم يقبلها رجال الدين. وكان ابرز معلميه سهل التستري الذي كان يعيش متوحدا في مكان يشبه قلاية الرهبان في مدينة تستر في خوزستان .ثم تعلم ايضا على يد عامر المكي. وخلال هذه الفترة تزوج الحلاج من ابنة الصوفي ابو يعقوب الاقطع . وبعد ذلك تعلم التقاليد الصوفية الاسلامية في بيت اشهر المتصوفة آنذاك الشيخ الجنيد البغدادي، الذي كان من المع مثقفي عصره ، وكان تأثيره كبير على حركة التصوف ايضا .
وفي المرحلة الثانية من حياته بين الاعوام (895-910 ) نضج فكره وارتقى بشعره الصوفي فاصبح موضع اهتمام مثقفي عصره ومثار غضب رجال الدين ،وكان الحلاج يذهب بعيدا في شعره النسكي الذي وصل الى معاني غامضة عن علاقة الناسك المحب بالله الى درجة لاتحد في العشق الالهي ، ولا نعرف هل كان ذلك بتاثير المتصوفة الاولى رابعة العدوية (ت 810) ام ذلك وقع صدفة .
تقوم فلسفته على ان كل ماتقع عليه العين من طبيعة جميلة اخاذة في الكون ،دليل على تجلي الحق في كل ما يشاهده الانسان ، ثم يضيف في قوله: (ما رأيت شيئا حميلا من الاشياء ،الا ورأيت الله فيه !) .
قضى الحلاج معظم سنواته هذه في رحلات ،فكان يعظ في الدين واهمية التقرب من الله ، ويلقي باشعاره الغامضة التي تتحدث عن روح الانسان وعلاقتها بالسماء ، فصارت اشعاره وكتاباته موضع تفسيرات دينية و سياسية وفكرية متضاربة ،فلما عاد الى بغداد عام 910 ، زاد اللغط على ما يتعلق بافكاره الفلسفية الدينية ،فأتهم بمخالفته للشرع ، وزاد الامر تعقيدا ان الافكار القرمطية كانت قد انتشرت في تلك السنوات، وخاصة عندما قامت ثورة الزنج التي كانت في الحقيقة ثورة العبيد ضد اسيادهم . فأطلع الخليفة العباسي المقتدر بالله من وزيره على ماذكره رجال الدين عن افكار الحلاج المخالفة للدين وانه لابد ان يكون زنديقا او قرمطيا . فتم اعتقاله وامر الخليفة بسجنه ، ثم اطلق سراحه .
ولم يلبث ان اتهم الحلاج أيضا بفكرة الحلول الغنوصية حينما قال يناجي ربه :
جبلت روحك في روحي كما يجبل العنبر بالمسك الفتق ،
فأذا مسك شيىء مسني، واذا انت انا، لانفترق!
وذكر ان الحلاج هو قتيل العشق الالهي شانه شأن رابعة العدوية، فلقد ملك عليه الوجد نفسه حتى اتلفها. ولأن البوح بالوجد معصية، قتلوه كأي عاشق لم ياخذ من ذوي الامر موافقة .
ويقول عنه الذهبي في كتابه (العبر في خبر من غبر) :” ان الحلاج كانت عقيدته الصوفية تقوم على (وحدة الوجود) اي ان الانسان مندمج في ذات الله .” وهي فكرة غنوصية ،اصلها فلسفة ذات اصول افلوطينية حديثة ،كانت قد انتشرت بين بعض المسيحيين بين القرن الثاني والقرن الرابع خاصة في الاسكندرية .
ويكتب كلا من شاخت و بوزورث في تراث الاسلام : ان الحلاج كان قد تعلم ايضا على يدي الجنيد الفارسي، الذي انكرته مدرسة بغداد الصوفية بسبب غلوه في ارائه . وخاصة افكاره عن الرسالة من انها لابد ان تنطبق في رايه على كل انسان، بالاضافة الى الكرامات التي كان يظهرها وربطته في نظر تلامذته بالاولياء .
رفع امر خروجه عن التقاليد الدينية مرة اخرى، الى الخليفة (المقتدر) ، فامر الخليفة ضامن خراج الاحواز (ابو الحسن علي الراسبي) ان يقبض عليه ويأتيه به ، فقبض عليه ، وحمل الى بلاط الخليفة ،فامر الخليفة ان يصلب علنا جهارا . فصلب حالا على شجرة لمدة ثلاثة ايام . ولما لم يمت، امر الخليفة بسجنه، وظل سجينا ثمانية سنين، واخيرا ضاق الخليفة ذرعا به .فعقد له مجلسا من رجال الدين العلماء ،فشهدوا عليه اناس بان كلامه وكتاباته وافكاره بعيدة عن التراث الاسلامي،فصار الرأي ان يتخلص من هذا الجاحد . فسلم الى صاحب الشرطة الذي كان من اشرس الخلق ،والذي يدعى (نازوك) : فصار يجلده بقسوة ووصلت جلداته الى الفي جلدة حتى لفظ انفاسه ،حينذاك استل نازوك سكينته من حزامه وحز رأس الشيخ الحلاج ، بعد ذلك قطع جسمه الى عدة اوصال، ثم امر نازوك بحرق ما تبقى من جسمه علنا ، وكان ذلك في يوم 26 آذار من سنة 922 .
كان الحجاج قد قال قبل موته متشبها باقوال الشهداء من القديسين الى حدما :” تهدى الاضاحي ،واهدي مهجتي ودمي من اجل الاخرين، واخيرا قال ،”فأعف عن الخلق يارب،ولاتعفو عني! ” . وكان على قناعة ذاتية في ان صلبه وعذابه هي من مشيئة الله ، وكان يسوع المسيح قد قال قبل موته على الصليب: يا رب اغفر لهم لانهم لايعرفوا ما يفعلون .
قال عنه العلامة الشهير ابن تيمية: ان من يعتقد ما يعتقده الحلاج من مقالات التي قتل من اجلها ، فهو كافر مرتد ، فان المسلمين انما قتلوه على الحلول والاتحاد ونحو ذلك من مقالات اهل الزندقة والالحاد “ .
على ان هذا الحكم القاسي ،لم يوقف مع ذلك الحركة الصوفية عند اولئك اللذين وهبوا انفسهم لها . كما شهدت هذه الفترة ازدهار المؤلفات العربية في التصوف مثل مؤلفات ابو نصر السراج وابي طالب المكي واخيرا القشيري . اذ كان الصوفيون يسعون الى الكمال في مجاهدة النفس والتي تعتمد على المحبة للناس وللطبيعة وكذلك التواضع والصوم وخدمة الاخر كما يفعل الرهبان حتى الان .
كتب المستشرقان الفرنسييان ماسينيون وكراوس ،عام 1936 في باريس ، كتابا عن حياة الحلاج واتجاهاته الفكرية الغنوصية ، يعد من اهم الكتب عن شيخ المتصوفة المسلمين : الحلاج، لكنه لم يترجم الى العربية مع الاسف .
اهم المصادر
1-شاخت و بوزورث .تراث الاسلام .القسم الثاني ،ترجمة حسين مؤنس واحسان العمد الكويت ، المجلس الوطني للثقافة .الصفحات242-247 .
2- كتاب مجموع الفتاوي لأبن تيمية .ج3 ،ص 480-483 .
3- Wikepedia الحلاج .
531 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع