طبيب من بلادي - الدكتور شاكر محمود الجنابي
بقلم :الكاتب والمعلم المتقاعد عبد العزيز محمد المعموري
الدكتور شاكر محمود الجنابي من مواليد 1928 من اهالي ناحية الاسكندرية. أرتاد الكلية الطبية في بغداد عام 1949وتخرج من الكلية الطبية في عام 1956 وتم تعينه طبيباً عسكرياً برتبة رئيس طبيب (نقيب) في الجيش العراقي. عمل في مختلف الوحدات العسكرية وكان اخر منصب له هو " أمر مستشفى بعقوبة العسكري". مختص في الأمراض الصدرية. عمل في عدة مناصب في مختلف المستشفيات البرطانية 1968- 1975 تدرب في مختلف المستشفيات في نيويورك وأكمل تخصصه العلمي في الطب الباطني والأمراض الصدرية. عين في كلية طب نيويورك استاذاً ومساعداً ورئيس قسم مختبر وظائف الرئه1975 . عين طبيباً اخصائياً ورئيس قسم الامراض الباطنية في مستشفى اليرموك التعليمي. شارك في بتدريس طلاب كلية طب المستنصرية والمعلمين في مستشفى اليرموك. شارك في العديد من المؤتمرات الطبية. درّس في مستشفى اليرموك التعليمي.
عرفته فتى طويلاً نحيفاً .. ابيض السحنة ، يلبس عوينات طبية ، حين يكلمك فان عينيه لا يرفعهما عن الارض حياءً ، والبسمة الخجولة لاتفارق شفتيه . وحين تعرفت عليه كان في الصف المنتهي أي الخامس العلمي قبل ان يستحدث الصف السادس في الدراسة ، كان من طلاب الاعدادية المركزية في بغداد ، رغم انه من سكنة احدى بلدات الفرات الاوسط ، اما الهندية او الاسكندرية . وكان انحداره من عائلة فلاحية كريمة ، ولم يكن الوحيد من ابنائها الاذكياء ، فله اخ اخر يعمل طبيباً ايضاً ، وكان ( شاكر محمود الجنابي ) ، وهو اسم صاحبي ، كان يفكر بعائلته واهله اكثر مما يفكر بنفسه ، ولهذا لك يكن ينعم نفسه بتـرف العيش كما يفعل زملائه من طلاب بغداد .
لقد استأجر مع المرحوم ( محمود الريفي ) وكان طالباً فقيراً مثله ينحدر من محافظة ديالى ( قرية خرنابات ) ، استأجر غرفة في جامع ( المصلوب ) في ( الدهانة ) يدفع كل واحد منهما نصف دينار شهرياً ، اما ( محمود الريفي ) فقدر له ان يكون اروع مدرس للغة العربية وصار شاعراً بشار له بالبنان كما يقال وخلف طبيباً يدعى ناصر وطبيبة تدعى (فدوى).
كنت آنذاك عام 1948 طالباً في دار المعلمين الابتدائية في الاعظمية وكنت منظماً الى حزب الشعب الذي تحول من حزب علني اجيز سنة 1946 ضمن خمسة احزاب وطنية من قبل وزارة ( توفيق السويدي) ووزير داخليته ( سعد صالح جربو) وحين اعقبتها وزارة ( ارشد العمري ) كان اول انجاز لها الغاء حزبي الاتحاد الوطني والشعب باعتبارهما حزبيين شيوعيين بواجهة وطنية ، كما الغيت عصبة مكافحة الصهيونية
لقد ترك حزب الاتحاد الوطني النضال وتفرق مؤسسوه على الاحزاب الاخرى، وكان برئاسة المناضل ( عبد الفتاح ابراهيم ) رحمه الله ، اما حزب الشعب فقد تحول الى حزب ثوري يعمل بصورة سرية برئاسة المناضل الوطني ( عزيز شريف) الذي اصبح فيما بعد السكرتير العام لمجلس السلم في العراق ، ووزير العدل في عهد ما سمي ( الجبهة الوطنية والقومية ) مع حزب العفالقة بعد انقلاب 1968 . وكان في لجنته المركزية المحامون (توفيق منير) و( عامر عبدالله ) و( عبد الرحيم شريف) وكانوا جميعاً من اهالي مدينة (عنة )، وحين تعرفت على هذا الطالب المختار قلت في نفسي هذا مكسب ثمين عليَ ان لا أضيعه !
وظللت اتردد على غرفة صاحبي ( شاكر الجنابي ) و ( محمود الريفي) الذي كان في يوم ما زميلي في دار المعلمين الريفية في بعقوبة وفصل منها لاسباب سياسية وهو من قرية خرنابات التي اكملت فيها دراستي الابتدائية لانني من اهالي قرية ( العبارة ) التي لم تفتح فيها مدرسة ابتدائية الا بعد ثورة تموز 1958 ، اما الطالب ( شاكر الجنابي) فكنت متلهفاً لكسبه في تنظيمي فهو كسب ثمين ، وكنت احرك زميله محمود الريفي ليحبب له النضال والعمل لتحرير الوطن من العملاء والاذناب ، فيجيبه شاكر : وهل تراني اذهب الى معسكر الاقطاع والرأسمالية ، ان طريقي هو طريقكم ولكني اريد ان أكون طبيباً اخدم الفقراء وانقذ اهلي من واقع البؤس والفاقة.
ومرت الاعوام واذا بشاكر الجنابي من ابرز طلاب كلية الطب والذي قبل على نفقة وزارة الدفاع ، وكان يبعث بمخصصاته البسيطة الى العائلة الكريمة وفاءً لتضحيتها وبراً بالوالدين. ودارت عجلة الزمن واذا بشاكر الجنابي آمر مستشفى سعد العسكري في بعقوبة ، وعادت علاقتي به تتجدد وتقوى ، وكنت ابعث بمعارفي المرضى الى عيادته تشجيعاً واملاً بتقديم افضل الخدمات لهم وكانت المفاجأة : ان كل من يقدم نفسه له قائلاً : ارسلني صاحبك فلان يمتنع عن استلام اجور الفحص. وهنا شعرت بالذنب وذهبت لاستفسر عن هذا الوضع الغريب ، فما كان منه الا ان استقبلني باتسامته الملائكية الحلوة قائلاً : ما قيمة ربع الدينار فانا اتقاضى من الدولة راتباً ولست مدخناً ولا اعرف المسكرات ولاحاجة لي بالمال فقد وسعت على الوالدين واحمد الله على كل حال ولا يهمني غير خدمة المواطنين.
وقد علمت ان كثيراً من مرضاه ممن كانوا يبدو عليهم الفقر يحلفهم ان كانوا يستطيعون شراء الدواء ام لا ؟ وقد فتح صفحة بأسمه في صيدلية قرب عيادته لدفع اثمان الادوية التي يعجز مرضاه عن شراءها . لقد كانت عيادته بجانب مقر الحزب الشيوعي حالياً قرب نهر خريسان وقد اصبح خلال مدة قصيرة مشهوراً في بعقوبة وقرى المركز للطفه ووداعته وزهده بالمادة .
اذكر قصة جرت له مع مريض من سكنة قرية ( الهويدر ) كان المريض بحاجة الى تناول حقنة وريدية ، وقد اوصاه صاحبنا بان يأتي عصر كل يوم الى العيادة ليقوم الدكتور بنفسه بزرقها خوفاً عليه من جهل المضمدين ، قائلاً له : انا لا اتناول اجراً على ذلك فقط لحمايتك من الخطر ، وفي احد الايام وكان الجو عاصفا وممطرا" فكر المريض بصعوبة الوصول الى العيادة في بعقوبة وماذا لو تأخر زرق احدى الابر . لكن الدكتور كان يفكر بشكل آخر ، كان يفكر بمنطق العلم ويعرف بان الجرعة لاتعطي مفعولها الا يومياً ، وظل الدكتور في عيادته بانتظار مريضه ولكن مريضه لم يأت فاستأجر الدكتور عربة ( ربل ) يجرها الحصان لان الشارع لم يكن مبلطاً وتوجه الى قرية الهويدر دون ان يبالي بالعاصفة والمطر ، ولم يكن يعرف ان يقع مسكن مريضه ، فلجأ الى مركز شرطة القرية يسأل : هل تعرفون مريضاً بهذا الاسم ؟ ولم يكن في المخفر شرطي من اهالي ( الهويدر) بل كانوا جميعاً من الغرباء ! وهنا استنجد احد رجال الشرطة بحارس ليلي من اهالي القرية ليدلهم على كوخ مريضنا.
وحين رأى المريض طبيبه لم يصدق عينيه ، فهذا امر لم يحدث سابقاً في العراق وربما في كل دنيا العرب ، طبيب يسعى وراء مريضه في جو عاصف وظروف صعب دون مطمع او كسب . نظر صاحبنا الدكتور الى مريضه بحنو وابتسامة مشعة وسأله : كيف تريدني ان انام دون زرق ابرتك ؟ هيا مد لي ذراعك فصاحب العربة مستعجل ، وبعد زرق الابر نظر الدكتور الى الحارس الاهلي والمريض وجيران المريض معتذراً : لقد ازعجتكم فاعذروني يا أخوان ، انه الواجب الانساني. وظل الجميع ينظرون اليه غير مصدقين ، وقال بعضهم : ( لو خليت قلبت ) اللهم كثر من امثال هذا الطبيب الرائع .
وفي صبيحة الثامن من شباط 1963 وهو اليوم الاول لعروس الثورات تكرموا باحالته على التقاعد وايداعه موقف شرطة بعقوبة وكنت قد سبقته اليه وحين وقعت عيناي على محياه وجدت الابتسامة الحلوة لا زالت تضيء وجهه ، وحين اردت ان اقدم له خدمة ولو بكلمات المجاملة اجابني : لاشيء يهزني انهم هم الخاسرون .
وبعد اطلاق سراحه غادر الى لندن وعمل هناك في مستشفى البحرية البريطانية ، واكمل دراسته العليا في الباطنية والقلبية ، وبعد انقلاب 1968 وما سموه بالثورة البيضاء ، قام احد رؤوسهم مكلفا من حزب البعث بمحاولة تحسين سمعته التي تمرغت في الوحل بعد عروس الثورات. قام احدهم زيارة اصحاب العقول المهاجرة في أوربا لتحبيب العودة لاوطانهم مغرياً اياهم باراضي سكنية في العاصمة وبوظائف مناسبة لاختصاصهم .. الخ واقتنع صاحبنا بالعرض لاسيما ان الحنين الى الوطن كان يؤرقه . له بنتان كادتا تنسيا لغتهما ومن المهم ان تعودا الى الوطن وتفكر ببناء وكر يغمره الحنان العراقي ، وارسل زوجته وابنته الى بغداد
وفي اليوم التالي كان في المطار بانتظار الطائرة التي ستقلع الى العراق بعد ساعة او ما يزيد، واذا برجل مهيب يحمل بيده حقيبة دبلوماسية ويتوجه نحو صاحبنا مسلماً : كيف حال الدكتور شاكر الجنابي ؟. اهلاً وسهلاً ولكني لم اتشرف بمعرفتك سابقاً ؟ ولكني اعرفك من تاريخ ولادتك وحتى اليوم وعلمت بان مبعوث حكومتك قد اقنعك بالسفر الى العراق. ولكني احذرك بان الذين فصلوك سنة 1963 واودعوك السجن هم انفسهم عادوا الى السلطة، ولكنهم فقط غيروا من مظاهرهم وازيائهم وانا اعرض عليك ان تعمل معنا في المستشفى الذي امثله في نيويورك وبخاصة في كلية الطب هناك وبالراتب الذي تريده وتعينه انت لانحن؟. ولكن عائلتي وصلت الى بغداد فكيف اتدارك الامر ؟. بكل سهولة فالطائرة التي أوصلتهم الى بغداد ستعيدهم الى لندن وعلى نفقة مستشفانا فما رأيك ؟ على بركة الله ووقع العقد وذهب الى امريكا وظل يعمل هناك مع أكابر أطباء القلب في العالم وبأحدث الأجهزة العلمية .
ولكن الحنين الى الوطن ينتصر في النهاية ويعود شاكر الجنابي الى بغداد والى مستشفى اليرموك وأستاذا في كلية الطب في الجامعة المستنصرية واذهب للسلام عليه ويخرج من عيادته ملهوفاً لمعانقتي وكأني أخوه المفقود وقد عثر عليه وسألته عن أحواله وكيف كان كان في بلاد الكفار ؟ قال : والله كنت ملكاً بلا تاج ، فقد كنت اتمتع بأرقى سكن وبسيارة من احدث الموديلات وسائقها كما استفيد من كل نعم التكنولوجيا وثمار الحضارة ولا أحد يسأل عن افكاري الهدامة ولا ديانتي ، انهم هناك لايفكرون بغير الاخلاص مع العمل ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب ،
ولم يستطع هذا الرجل المعتز برجولته وكرامته ان ينسجم مع الجو الملوث في الثمانينات جو الشعارات الوطنية الكاذبة والهتاف باسم القائد الضرورة فرجع من حيث اتى. فتحية لك يا أخي الطبيب الانسان اينما كنت من ديار الكفر كما يسميهم ضعاف العقول هنا. لقد كنت شاباً رالئعا منذ دراستك الاعدادية وحتى اصبحت استاذا عالماً في الطب وامراض القلب ومع ذلك لايذكر زميل لك الا قلت : هذا رجل علم واخلاق ونادراً تجتمع هاتان الخصلتان ، لم نسمعك تذكر أي زميل من زملائك الا بالخير والذكر الجميل ، وهذه سمات الادب الرفيع . لقد كنت محباً للناس ، محباً لمهنتك ، ولقد احبك كل من عرفك ، فتحية لك يا أخي وكثر الله من أمثالك من أبناء العراق والعاقبة أولا وأخيرا للطيبين .
797 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع