براءة الإسلام من «التوحّش» (2-2)

                                   

                    د. محمد عياش الكبيسي


ضمن حملات (الجهاد الإعلامي) و (الجهد المساند) لعناوين معروفة أو منكرة تعرّض العلماء المنتقدون للسلوك المتوحش إلى تشكيك ظاهر أو مبطّن في النوايا والدوافع، مما يعكس أزمة خانقة خاصة بعد أن شكلت صورة إحراق الكساسبة موقفا فقهيا موحّدا يكاد يصل إلى حدّ الإجماع، فلم يُعثر لحدّ الساعة على كلمة واحدة لفقيه معتبر تؤيّد مثل هذا السلوك.

لقد اختار هؤلاء مساحة أخرى للحوار غير مساحة العلم والفقه، واعتمدوا سياسة التشويش والتشويه، والبلاغات الكاذبة من مثل: أين أنتم يا علماء الأمة لماذا استنكرتم حرق الكساسبة ولم تستنكروا حرق المئات أو الآلاف من المسلمين؟!
هذه الطريقة في (الحوار) طريقة متخلّفة وتعبّر عن مجموعة من العُقد النفسية مع قلّة في التديّن وخلل في التكوين التربوي، فإصدارات العلماء المندّدة بجرائم بشار والمالكي وأميركا وإيران والسفّاحين في بورما وغيرها أكثر من أن تُحصى، ودعوات الجهاد ضد بشار قد انطلقت من تجمّع كبير لعلماء الأمة فيه من مختلف البلدان الإسلامية وفي مقدمتهم علماء سوريا، وانتفاضة علماء العراق على اختلاف عناوينهم بوجه المالكي لا يشكك فيها منصف، بل إن الفتاوى والبيانات والمقالات التي صدرت من علماء الأمة بإدانة الحرق نفسها جاءت متضمنة لإدانة الإرهاب العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وحليفاتها مثل إيران وإسرائيل، وهناك من صرّح أن الفعل الداعشي هو نتاج للفعل الأميركي (مقالة الأستاذ أحمد الريسوني نموذجا)، وأما علماء السعودية والخليج فيكفي الدخول على أي صفحة أو موقع لهم لترى حجم استنكارهم للإرهاب العالمي وازدواجية القرارات الدولية.
إن هذا الكذب المفضوح على علماء الأمة يكشف عن وجه آخر للمعضلة التي نعيشها خاصة أن بعض هؤلاء من المحسوبين على المساجد والذين يحضرون مع المسلمين صلاة الجماعة وخطب الجمعة، وهو الوجه الذي يستدعي إعادة النظر في طُرُق التربية الدينية وأساليب الوعظ والإرشاد، وربما يكون لهذا السلوك تفسير نفسي لا يختلف عن من يتمتّع بحرق الآدميين وهم أحياء، فالشهوة النفسية للانتقام من كل المخالفين تعبّر عن نفسها بأدوات مختلفة بحسب الظرف والبيئة، وليس هناك من حاجة عند هؤلاء لا إلى التبيّن والبيان ولا إلى الدليل والبرهان.
في الطرف المقابل يظهر سلوك آخر يساوي هذا الانحراف في جانب ويزيد عليه انتهازية واستغفالا وعدوانا على هُويّة الأمة وتاريخها، وقد مثّل هذا تسجيل مصوّر لأحد المعممين الشيعة يتهجّم فيه بصريح العبارة على الصحابة الكرام ومن بينهم أبو بكر وخالد بن الوليد -رضي الله عنهم أجمعين- موهما جمهوره أن (فقه الحرق) قد أخذته داعش عن هؤلاء الصحابة، وأنها لم تبتدع شيئا من عندها! وقال: نحن نسمّى رافضة لأننا رفضنا هذا السلوك من الأصل قبل أن تأتي داعش وتكشف المستور!
من المفارقات هنا أن كل الروايات التي وردت في هذا الشأن عن الصحابة لم يثبت منها إلا ما كان من علي -رضي الله عنه- بحق الذين غالوا فيه وادّعوا أُلوهيته فقام بحرقهم ليس بدافع الانتقام بل ليثبت للعالَم أن هؤلاء أبعد ما يكونون عنه وإن ادعوا محبته، وهو اجتهاد بشري اعترض عليه كثير من الصحابة ومن بينهم ابن عمّه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- محتجّا عليه بالحديث الصحيح (النار لا يعذّب بها إلا الله) رواه البخاري، وعلى هذا جاءت الفتوى الشيعية من مركز الأبحاث العقائدية (إن الحديث «لا يعذب بالنار إلاّ ربّ النار» موجود في كتب أهل السنة, وغير موجود عند الشيعة الإمامية، وليس صحيحاً أن يحتج بما وجد عند السنّة على ما موجود في كتب الشيعة الإمامية، خصوصاً وأن حكم الحرق ثابت لا خلاف فيه بين الإمامية).
فانظر إلى التلاعب بالدين من الفريقين، فهذا يتنكّر لمذهبه ويرمي ما فيه على غيره، وأولئك يتعمّدون مخالفة حديث صحيح لم يثبت ما يخالفه لا في كتاب ولا في سنّة، وراحوا يستشهدون بمقولة من هنا وتأويل من هناك بتعسّف وتكلّف ظاهر، مع أن منهجهم المعلن (الاحتكام إلى الكتاب والسنّة) و (كل إنسان يؤخذ منه ويردّ عليه إلا رسول الله)!
وأما الأقوال التي استندوا إليها فهي من حيث المبدأ مهما بلغت لا ترقى إلى نسخ الأحاديث الثابتة، ومع هذا فهناك تدليس واضح في هذا الاستناد، فالعلماء قطعا لا يتكلمون عن (حرق الأسير)، وإنما عن حالات أخرى مثل (القصاص بالمثل) أو تلك التي تستدعيها قواعد الاشتباك و(توازن الرعب) أثناء المعركة كتحريق الحصون ومخازن الوقود والعتاد، وهذا ما تفعله كل جيوش العالم دون نكير مع ما فيه من تعريض البشر وغير البشر للحرق، أما حرق الأسير بتبجّح وإعلان وتصوير فهذه بدعة في الدين والدنيا، ذاك لأن حرق الأسير لا يمكن أن يمثّل عنصرا من عناصر القوّة أو الرجولة، ولا معنى من معاني المروءة أو الشهامة، ولا تستدعيه حاجة ولا ضرورة، ولذلك نصّ القرآن (ويطعمون الطعام على حبّه مسكينا ويتيما وأسيرا) وهذا الأسير هو الأسير المشرك الذي جاء مع المشركين ليقاتل المسلمين! وقد رأيت من هؤلاء من ينكر أن الطيار الأردني كان أسيرا ويحتج بقوله تعالى (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)، وهو دليل آخر على ظاهرة التلاعب بالدين، فإذا لم يكن أسيرا فكيف تطلبون من الحكومة الأردنية فكاكه بساجدة الريشاوي؟ وقد طلبتم من اليابانيين فدية مالية أيضا؟ فما هو معنى الأسير عندكم؟ وبالمناسبة ما ذا كانت تفعل الريشاوي في الأردن؟ ومن هو الذي بدأ العدوان؟
إن الحاجة إلى نفي هذا الشذوذ عن الإسلام وتوجيه المسلمين إلى الصراط المستقيم الذي ليس فيه غلوّ ولا تميّع آكد وأهم من تسجيل المواقف وبيانات الاستنكار على جرائم العدو، فالجهل بالإسلام هو عدو الإسلام الأول، والأخسرون أعمالا هم أولئك (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا).

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

799 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع