ولاية الموصل والحقوق الكردية بعد الحرب العالمية الأولى/ح13
* موقف عصبة الأمم من الحقوق القومية الكردية
حينما رشح العراق بعد توقيع المعاهدة العراقية الانجليزية سنة 1930 لقبوله عضوا في عصبة الأمم سنة 1932 خالج مجلس العصبة بعض الشك في إمكان ضمان استمرار تمتع الأقليات في العراق بحقوقهم القومية. ولذلك دعا مجلس العصبة لجنة الانتدابات إلى وضع الشروط التي يمكن بها الاعتراف بانتهاء الانتداب ( ). وفي سنة 1932 تقدم إلى منضدة مجلس العصبة (المركيز نيود ولى) رئيس اللجنة الدائمة للانتدابات بتقرير بشأن الشروط العامة التي تقتضي استيفاؤها قبل إلغاء الانتداب ( ). والضمانات التي ينبغي أن يتكفل بها وهذه الضمانات تتلخص في:
صيانة الأقليات العرقية واللغوية والدينية بجملة نصوص تدمج في تصريح يفضي به العراق أمام مجلس العصبة ويتقبل الأصول التي وضعها المجلس فيما يتعلق بالضمانات التي تخص الأقليات ( ).
وما يتعلق بالعلاقات الخارجية كحفظ المصالح الأجنبية والامتيازات والاتفاقيات والعهود الدولية العامة والخاصة ( ) وقد كانت أهم الشروط المطلوبة من العراق طبقا لقرار العصبة في 28/1/1932 كما جاء في:
المادة الرابعة: يتضمن نظام الانتخاب تمثيلاً عادلاً للأقليات العنصرية والدينية واللغوية في العراق.
الاختلاف في العنصر أو اللغة أو الدين لا يخل بحق أي من الرعايا العراقيين لا في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية كالقبول في الوظائف العامة والمناصب ورتب الشرف أو ممارسة المهن والصناعات المختلفة ( ). لا يوضع قيد على حرية استعمال أي من الرعايا العراقيين لأية لغة في العلاقات الخصوصية أو في التجارة أو في الدين أو في الصحافة أو النشريات من جميع الأنواع أو في الاجتماعات العامة ( ).
ورغما من جعل الحكومة العراقية اللغة العربية لغة رسمية ورغما عن التدابير الخاصة التي ستخططها الحكومة العراقية بشأن استعمال اللغتين الكردية والتركية، تلك التدابير المنصوص عليها في المادة التاسعة من هذا التصريح يعطي الرعايا العراقيون الذين لغتهم غير اللغة الرسمية تسهيلات مناسبة لاستعمال لغتهم شفهياً أو كتابة أمام المحاكم( ).
المادة الخامسة: الرعايا العراقيون الذين ينتمون إلى أقليات عنصرية أو دينية أو لغوية يتمتعون قانونا وفعلا بنفس المعاملة والأمان الذين يتمتع بها سائر الرعايا العراقيين ويكون لهم بوجه خاص نفس الحق في أن يحفظوا ويديروا ويراقبوا على نفقتهم أو أن يؤسسوا في المستقبل معاهد خيرية أو دينية أو اجتماعية أو مدارس وغير ذلك من المؤسسات التهذيبية مع حق استعمال لغتهم الخاصة وممارسة دينهم فيها بحرية ( ).
المادة التاسعة: توافق الحكومة العراقية على أن تكون اللغة الرسمية في الأقضية التي يسود فيها العنصر الكردي من ألوية الموصل وأربيل وكركوك والسليمانية اللغة الكردية بجانب اللغة العربية. أما قضائي كفرى وكركوك حيث قسم من السكان هم من العنصر التركماني فتكون اللغة الرسمية بجانب اللغة العربية والكردية واللغة التركية ( ).
توافق الحكومة العراقية على أن الموظفين في الأقضية المذكورة يجب أن يكونوا ما لم تكن هناك أسباب وجيهة – ملمين باللغة الكردية أو التركية حسبما تقتضي الحال ( ).
إن مقياس انتقاء الموظفين للأقضية المذكورة وإن كان الكفاءة ومعرفة اللغة قبل العنصر كما هو الحال في سائر أنحاء العراق فإن الحكومة توافق على أن ينتقي الموظفين كما هي الحالة إلى الآن وعلى قدر الإمكان من بين الرعايا العراقيين الذين أصلهم من تلك الأقضية( ).
كما نصت المادة الأولى والعاشرة من التصريح المذكور كذلك بأن الحقوق المثبتة للأكراد تعتبر تعهدات ذات شأن دولي ( ) حيث اعترفت بها الحكومة العراقية في تصريحها المؤرخ في 25 مايو سنة 1925.
1- التهديد التركي لولاية الموصل
لم تورد اوائل ربيع سنة 1922 في الواقع، أية أنباء مريحة عن المناطق الكردية والحدود التركية. ففي (السليمانية) طالبت بعض الفئات بعودة الشيخ محمود الحفيد، وفي (بشدر) كان العنصر الكردي المستقل تحت زعامة شخصية شهيرة هو (بابكراغا)( ) يلاقي مقاومة من القسم المؤيد للاتراك. وفي منتصف شهر آذار من تلك السنة 1922م وصل قائممام تركي جديد إلى راوندوز وفي أثره (أتت معه) قوات تركية يقودها القائد الشهير "علي شفيق المصري" الملقب "يوز دمير" أي "الكتف الحديدية" ليعلن افتتاح الاتراك للولاية (ولاية الموصل) مجدداً.
وفي شهر أيار عام 1922 انتشرت القلاقل التي وقعت في مناطق عشائر "زنكنه الكردية" وإلى مناطق عشائر "الهماوند الكردية" التي ما تزال متمردة ولم يلبث رئيسها "كريم فتاح الهماوندي" أن رتب عملية اغتيال اثنين من الضباط البريطانيين هما النقيب "ماكانت" والنقيب "بوند"( ) وبذلك وطد مركز الأتراك مركزهم في راوندوز، غير أن محاولة هؤلاء توسيع الحركة ضد البريطانيين أو ضد حكومة بغداد، قد أوقفت في ذات اللحظة، وذلك على أثر إرسال رتل من قوات المرتزقة (الآثوريين)، وطائرات من القوة الجوية البريطانية، في ذات الوقت الذي كان فيه "سمكو آغا" رئيس "شكاك" و"طه النيري" قد تخليا، لأغراض خاصة عن إشعال نيران الثورة على الحدود مع (إيران).
ولكن ما انسحبت القوات البريطانية حتى تقدم الأتراك مرة أخرى فاحتلوا مدينة "رانية" وأصبحوا على اتصال بمنطقة بشدر المتحررة، حيث أجبرت الأحوال الأمنية البريطانيين على أن يخلو رعاياهم من السليمانية بواسطة الطائرات، وأن يتركوا الأمر فيها إلى مجلس إداري في السليمانية الذي يرأسه الشيخ عبد القادر شقيق الشيخ محمود الحفيد. وكان في قدرة الأتراك أن يحتلوا كويسنجق وأن يهددوا مدينة (عقرة) في ذات الوقت الذي لم تكن فيه القوات البريطانية والعراقية، تمسك بشيء سوى الطريق الداخلي لمدن اربيل - كركوك كفري.
أن الاندفاع التركي المماثل الذي وقع خلال شهر أيلول 1922 باتجاه العمادية في أقصى الشمال، حيث كانت تجري هناك إسكان الأثوريين. قد لقي مقاومة من العشائر الكردية في المنطقة، حيث انضم الأثوريين إلى صفوف الأكراد بسرعة. وتحت وطأة هذه الظروف وجد المندوب السامي البريطاني نفسه، ولربما وقع في الخطأ نتيجة القرار الذي اتخذه، أن من الواجب عليه أن يرتب مسألة عودة الشيخ محمود الحفيد إلى السليمانية، وذلك لملء الفراغ الذي كانت الحكومة العراقية والبريطانية تشعر به هناك. ولقد أيد الملك فيصل هذا الإجراء، واستعار من جيشهُ بعض الضباط الأكراد لمعاونته في الوقت الذي قام فيه ميجر "نوئيل" بمصاحبة الشيخ محمود في عودته إلى السليمانية.
ولكن الشيخ محمود الحفيد، وعلى النقيض من كل الوعود التي ألزم نفسه بها، ما لبث أن أخذ يراسل مع القائد التركي على شفيق المصري (يوز دمير)، الذي كان يصفه بالرجل المتوحش، ويتآمر مع لجنة تركية نشطة في كركوك، الفتها عائلة (النفطجي) ذات الأصول الكردية "وبعض التركمان المتمردين، والمطالبة بأن يحمل الشيخ محمود الحفيد لقب الحاكم الأول، وأن يعين فيما بعد ملكاً على كردستان. وفي هذه اللحظة، أي خلال شهر تشرين الثاني عام 1922، تدنى اعتبار الحكومة العراقية وضعفت سيطرتها على الأجزاء الجنوبية من كردستان حتى بلغت الحضيض إلى درجة أن السيد "طه النهري" بعد عودته من اللجوء لوطنه، لم يستطع مساعدة الحكومة من جمع بضع من القوات العشائرية، في الوقت الذي أخفقت فيه الطائرات البريطانية في تشتيت شمل الأتراك الذي احتلوا مدينة رانية( ) وفي السليمانية كان الشيخ محمود الحفيد هو الحاكم يرأس ما عرف باسم "الحكومة الكردية" حيث أرسلت هذه الحكومة بعثة منها إلى بغداد وهي تحمل مطاليب واقعية للشعب الكردي وهي على أعلى المستويات.
تمت مجابهة الحركة الأولى للعدوان التركي على الحدود الشمالية، بتعزيز القوات البريطانية والعراقية في منطقة الموصل، وبإقامة الأمير زيد في مدينة الموصل بصفة مؤقتة( ) ذلك أن شعبيته التي كان يتمتع بها وزيارته من قبل الملك فيصل شخصياً، قد أدتا إلى توحيد الأحاسيس العراقية المناهضة للاتراك. وقد بقي استفزاز الأعصاب متواصلاً بعد أن كشف الأتراك عن مطاليبهم الحقيقية الواسعة.
وفي أوربا، كانت (هدنة مودانيا) التي أنهت الحرب التركية اليونانية في شهر تشرين الثاني 1922م، وكذلك المرحلة الدقيقة الحرجة في العلاقات البريطانية التركية، قد أعقبها انعقاد (مؤتمر لوزان الأول). ففي المؤتمر جوبه (اللورد كيرزون) وزير خارجية بريطانيا بشخصية (عصمت باشا أينونو) وهو (من أصل كردي) المتحدث باسم تركيا الثائرة والواثقة من نفسها والمنتصرة على الاضطراب وجميع أعدائها( ).
طالب الأتراك بولاية الموصل اعتماداً على أساس العنصر، والإدعاء بأن العرب في ولاية الموصل قليلون، وأن الأكراد كثيرون، وأن من النادر تمييز الأكراد عن الأتراك، وأنه لا توجد أسس اقتصادية لأن معظم تجارة ولاية الموصل تتم مع الأناضول. ولأن البريطانيين قد احتلوا ولاية الموصل بعد أن أعلنت الهدنة (موندرس) في شهر تشرين الثاني 1918، وأن لولاية الموصل حق تقرير المصير، وذلك لأن سكان ولاية الموصل أنفسهم قد طالبوا بعودة الأتراك إليهم.
كان من الضروري لتركيا أن تمنع انفصال أكبر قسم من الشعب الكردي، وتدعه يخضع لهيمنة حكومة أخرى ربما تكون أكثر تحرراً، سيما وأن الأتراك كانوا قد خططوا سياسة (إذابة العنصر والشعب الكردي)، ومن ثم نفذوا هذه السياسة بشدة وفرضوا الاضطهاد على الأكراد. واستطاع (اللورد كرزون) وزير خارجية بريطانيا أن يفند مسألة عدد السكان التي طرحت في المؤتمر، والتي كانت في الواقع تبعث على السخرية والضحك لأن أكثرية ولاية الموصل هم من الأكراد ونسبة الأتراك قليل جداً فيها. فلقد أوضح بصفة إيجابية وضع الجماعات العرقية وعلاقاتها، وصحح الاتصالات الاقتصادية المزعومة، وذلك لأن تجارة ولاية الموصل كانت تقوم في الواقع مع سوريا وبغداد بصفة غالبة ودائمية، كما أن دحض الإدعاء القائم على أساس (حق تقرير المصير)، وراح يؤكد مطالبة مملكة العراق برمتها بكل حق لها وفي ولاية الموصل، وأخذ يذكر (عصمت باشا أينونو) بموضوع الانتداب على العراق والذي سبق أن شمل ولاية الموصل ذاتها أيضاً. وبالنظر إلى ما يخض التضاريس الأرضية الحادة، والحياة البدائية التي يحياها السكان لولاية الموصل، فإن (اللورد كرزون) لم يستطع أن يوافق على احتمال إجراء الاستفتاء العام في الولاية (ولاية الموصل) بصفة أيسر.
انفض المؤتمر في اليوم الثاني من شهر شباط سنة 1923، ومن دون أن يتم حل المشكلة، ورفض الأتراك بصفة مطلقة العرض الذي تقدم به (اللورد كرزون)، أو التهديد بالإشارة إلى قضية تحكيم عصبة الأمم في الموضوع. سارت الجمعية الوطنية التركية في أوائل شهر نيسان 1923 قدماً في منح المغامر الأمريكي (الأميرال جستر)( ) الباحث عن الامتيازات، امتيازاً بمد خط حديد، والتنقيب عن المعادن حتى داخل حدود العراق. غير أنه في (مؤتمر لوزان الثاني) الذي انعقد في اليوم الثالث والعشرين من شهر نيسان 1923 قد ظهرت مجالس أكثر حكمة. فالضغط البريطاني لا حالة قضية ولاية الموصل إلى عصبة الأمم لإصدار قرار عنها، كان يمثل خطوة متجاوبة تماماً مع الرأي العام العالمي برمته آنذاك، بحيث لم يعد مستطاعاً مقاومة مثل هذه الخطوة.
تمسك (عصمت باشا اينونو) بكل إدعاءاته، لكنه وافق على القول بأنه إذا ما أخفق (الاتفاق الإنكليزي التركي) خلال أثني عشر شهراً (انقضت هذه المدة إلى تسعة أشهر فيما بعد) فإنه يطلب حينذاك تحكيم مجلس العصبة في النزاع (على ولاية الموصل).
ظل البحث عن اتفاق من هذه الشاكلة والذي جرى تعقبه في مؤتمرات حضرها (السير برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني في العراق في اسطنبول خلال شهري أيار وحزيران سنة 1924، أمراً عديم الجدوى. ذلك لأن أياً من الجانبين لم يظهر أي تساهل، وإزاء التردد الواسع الذي أظهرته تركيا، أقدمت بريطانيا على إحالة المشكلة إلى مجلس عصبة الأمم مرة أخرى، وكان المقرر أن ينعقد مجلس العصبة في اليوم العشرين من شهر أيلول سنة 1924.
لم ينتج كل هذه التحركات الدبلوماسية في أوربا شيئاً ما، لكنها في الوقت الذي أدت إلى توحيد الحركة والعنف في كردستان. فقد أخذ الشيخ محمود الحفيد يساند رفاقه،واخذ يعلن ترحيبه بالضباط الأتراك في السليمانية، وبعث بمندوبيه إلى كركوك للتشاور مع التركمان المحليين، وأكثر من هذا أنه أرسل مندوبين من لدنه حتى إلى الشيعة في كربلاء والنجف لينال مساعدتهم إياه.
وإذ رفض الشيخ محمود أوامر المندوب السامي البريطاني بأن يؤكد وجوده في بغداد، فقد هرب من السليمانية بفعل قنابل القوة الجوية البريطانية، والتجأ إلى منطقة (سردشت) بكل ما استطاع أن يجمعه من الأموال والأنصار ولكن القصف الشديد الذي أظهرته طائرات القوة الجوية البريطانية قد حالت دون دخول الشيخ محمود الحفيد إلى السليمانية لإعادة احتلالها. كذلك أجريت الاتصالات مرة أخرى مع أخيه الشيخ عبد القادر.
وهنا وجدت عشائر الجاف وغيرها منتهى المسرة في الانفصال عن نفوذ "حكومة السليمانية" بقيادة الشيخ محمود الحفيد وعلى الحدود الشمالية كانت معاملة الأتراك للأكراد الساكنين هناك في أراضيهم تؤكد في داخل الحدود العراقية - وجود المقاومة التي أبداها الأكراد بوجه عودة الأتراك لقد كانت معسكرات الأتراك في (نصيبين وجزيرة أبن عمر)، تثير الفزع، وظل استمرار احتلال القوات التركية (لرواندوز) يؤلف مصدر مؤامرات عدوانية داخل العراق.
أما في الأراضي المتنازع عليها خارج الحدود التركية، فقد أخذ توطين (الاثوريين) يسير فيها قدماً، إذ بنيت مئات المنازل لهم في مناطق (دهوك والعمادية وزاخو)، بينما استقر آخرون منهم في مواطنهم الأصيل منطقة (تياري)( ) والبلاد المجاورة لها. وأكثر من هذا أن الاثوريين ما أن أخذوا يحاولون التوطن في أوائل سنة 1923 حتى جوبهوا بهجمات من قبل اغوات الأكراد "الأورمار" في العمادية، مع أن الأثوريين ساعدوا في صد الهجمات التركية وهجمات الزيباريين على العمادية ذاتها.
تمت استعادة مدينة (رواندوز) من أيدي الأتراك بعملية عسكرية أحسن أداؤها، وشارك فيها الجيش العراقي مع القوات البريطانية، وقوات المرتزقة وقوات الشرطة، وذلك في شهر نيسان سنة 1923، حيث شهدت المنطقة هبوطاً في النفوذ التركي فيها. فلقد تم تعيين (سيد طه النهري) قائمقاماً لرواندوز، وعزز بحامية من قوات المرتزقة تمركزت فيها.أما الرتل الذي كان قد استعاد رواندوز فإنه قد تقدم مرة أخرى نحو السليمانية. وبعد أن قلصت مدة المعاهدة البريطانية – العراقية بأربع سنوات طبقاً للبروتوكول الذي ألحق بها، أصبح من اللازم الآن وضع الترتيبات المسبقة للمستقبل الذي تحتله هذه المنطقة في الدولة العراقية.
دخلت قوات الجيش العراقي، توازرها قوات المرتزقة وبإسناد الطائرات البريطانية، مدينة السليمانية في منتصف شهر أيار 1923م، وتم بحث المستقبل فيها مع الأغوات الأكراد وأبناء المدينة المتشوقين إلى توطيد السلام، وضمان عمل الحكومة. ونظراً لأنه لا يمكن الاحتفاظ بقوات هناك فأن سلطة المجلس المحلي في السليمانية التي أودعت إلى الرتل العراقي الذي دخلها، كانت قصيرة وانتهت بانسحاب ذلك الرتل من مدينة السليمانية.
كان مستطاعاً نقل المناطق البعيدة عن عهدة محافظة السليمانية من أمثال (جمجمال، وحلبجة، وسنكاو)، ووضعها تحت إشراف المباشر لمحافظة كركوك، على أن تترك المنطقة الضيقة المعرضة للأعمال التي كان الشيخ محمود الحفيد يمارسها هناك. غير أن الشيخ محمود ما أن أنذر بأنه قد يتعرض لهجوم تقوم به قبائل الهماوند ضده خلال أيام قلائل قادمة، حتى عاد إلى السليمانية في شهر تموز 1923م وحين تجاهل للمرة الثانية أمر المندوب السامي البريطاني بالقدوم إلى بغداد، استنفرت القوات البريطانية للعمل ضده. وفي فصل الخريف، وحين كان الشيخ محمود الحفيد ما يزال يأبى الخضوع أو الولاء للحكومة البريطانية، دخل مجدداً في مراسلات مشجعة مع الاتراك، ووضع الخطط لمهاجمة كركوك، وأقدم على جباية الضرائب من قرى حلبجة، جمجمال، وعلى مثل هذه الشاكلة انقضى شتاء سنة 1923 – 1924( ).
2- تسوية قضية ولاية الموصل
في محافظة السليمانية البعيدة عن ضغوط حكومة بغداد وبريطانيا أخذ حلم أنشاء دولة كردية، أي نظام حكومة كردية تحت زعامة الشيخ محمود الحفيد، سنة 1924. ذلك أن قضائي جمجمال وحلبجة، اللذين لم يعد مستطاعاً الآن إدارتهما من كركوك، قد انتخبا للمجلس التأسيس نوابا، كان من بينهم شقيق الشيخ محمود الحفيد كان الشيخ محمود قد تجاهل مرة أخرى الإنذار الذي وجه إليه من قبل قوات بريطانيا، وحذر القوات البريطانية بإنزال العقاب فيه، وهو الإنذار الذي وجه بشكل مغاير وعلى أسس إنسانية، إلى سكان القرى، والقاضي بأنه سيتم قصفها في آخر مرحلة. وطبقاً لذلك توجهت أحدى طائرات القوة الجوية في أواخر شهر أيار 1924 بزيارة المدينة وإسقاط المناشير حيث أرغم الشيخ محمود الحفيد في النهاية على مغادرتها، وعلى هذا الأساس دخلت قوات المشاة والخيالة من القوات البريطانية والجيش العراقي، إلى جانب قوات المرتزقة، مدينة السليمانية في شهر تموز 1924، وأخيراً تم استئناف الإدارة فيها من قبل الحكومة العراقية، التي استطاعت أن توفر الأموال اللازمة لمعالجة الأوضاع السيئة القائمة هناك.
أصبح في مستطاع سكان معظم الأجزاء غير المأهولة من مدينة السليمانية أن يعودوا إلى بيوتهم بمعونة مجددة. وفي نهاية تلك السنة 1924 زاد عدد السكان في المدينة إلى عشرين ألف شخص. إن الشيخ محمود الذي أخذ يختبئ في القرى الجبلية، ويجتاز الحدود إلى الأراضي الفارسية ويعود منها فقد ظل يحتفظ بقوة من الأكراد معه.
وعلى الحدود الشمالية، أدت إعادة توطني بضعة آلاف من الأثوريين العائدين إلى مواطنهم الجبلية القديمة، إلى حدوث الاضطراب وذلك بعد مرور سنتين على إعادة توطينهم بصفة سليمة، ذلك لأن المنطقة المعينة لهم كانت تقع تماماً شمالي الحدود القديمة لولاية الموصل، ولكنها داخل منطقة طالبت الحكومة البريطانية بضمها إلى العراق كي تصبح ضماناً لإعادة توطين الآثوريين فيها.
أدى أقدام الآثوريين على اعتقال الوالي التركي في (جلمرك) حين كان يقوم بزيارة قرية (جل) في شهر تموز 1924م، ومن ثم إخلاء سبيله، إلى توتر المشاعر بشكل قاطع عبر الحدود، حيث أعقب ذلك تقدم القوات التركية بعدد كبير ودخلت إلى داخل الأراضي العراقية عبر نهر "الهيزل". غير أن هذه القوات التركية ما أن تم أخراجها بفعل القوة الجوية البريطانية ومساعدة الأثوريين، لكن القوات التركية ما لبثت في طريق انسحابها أن هاجمت القرى التي يسكنها الاثوريون وأحرقتها، إضافة إلى عدد من مراكز الشرطة العراقية، لم تجد الاحتجاجات الاعتيادية المتبادلة، ولا المناقشات التي جرت في "جنيف" نفعاً" في الحيلولة دون وقوع أعمال الانتقام الفظيعة، وتدمير القرى الكردية والاثورية عند الحدود وعلى أثر ذلك بدأت أعمال الإغاثة، وإسكان المشردين بمساعدة من الحكومة العراقية.
عقدت (الجلسة الثلاثيون لمجلس عصبة الأمم) في جنيف، وبعد اليوم العشرين من شهر أيلول 1924م، استمع المجلس (عصبة الأمم) إلى المجادلات الاعتيادية التي تحدث بها الناطقان باسمي الحكومتين التركية والبريطانية، (فتحي بك) و(اللورد بارمور)، وتم تقديم ذات الإدعاءات التاريخية، والعرقية، والاقتصادية، والإستراتيجية، فجوبهت تلك الإدعاءات، بذات التفنيدات والإدعاءات المضادة.
ولما لم يظهر أي أثر للاتفاق أو التفاهم بين تركيا وبريطانيا، كان القرار الذي قبل به الطرفان في النهاية، يشترط إرسال بعثة إلى ولاية الموصل تقوم بها لجنة من عصبة الأمم. لغرض تقصي الحقائق، ويكون حكم هذه اللجنة، إذا ما صادق عليه مجلس العصبة، مقبولاً من كلا الفريقين. وفي الوقت ذاته كانت البرقيات التي وصلت إلى جنيف وتضمنت اتهامات متبادلة حول اختراق منطقة الحدود، قد أجبرت مجلس عصبة الأمم على إنشاء خط حدود مؤقت وتم تثبيت هذا الأمر في اجتماع عقد في (بروكسل) في اليوم التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول 1924، وقد عرف هذا الخط فيما بعد (باسم خط بروكسل)، ويمتد هذا الخط نوعاً ما إلى الجنوب من الخط الذي كانت تطالب به الحكومة البريطانية، ومن ثم فإن هذا الخط يستثني بعض المناطق التي يقطنها الآثوريون والأكراد، ومع كل ذلك فقد تقرر أن يحدد خط الحدود القومي الدائم والذي لم يطرأ عليه شيء من التعديل إلا بصفة نادرة.
تألفت (لجنة تقصي الحقائق) التحقيق في عائدية ولاية الموصل من كل السيد (دي فرسن) وهو دبلوماسي سويدي، أختير رئساً لها، وعضوية الكونت (تالكي) وهو رئيس وزراء سابق من هنغاريا، ومن القانونيين والجغرافيين الممتازين، والعقيد باولس وهو ضابط متقاعد من الجيش البلجيكي.
بعد أن زارت اللجنة اسطنبول ولندن، ووصلت إلى بغداد في النصف من شهر كانون الثاني سنة 1925، ومن ثم انضمت إليها سكرتيرتها، ومساعديها من كلا الجانبين. وكان فزع البريطانيين، والعراقيين بارزاً، حين وجدوا في الوفد التركي أثنين من المرتدين العراقيين الذي تنكروا في صفة خبراء أتراك، كان أحدهما من أسرة "النفطجي" والتي هي من أصول كردية في كركوك، بينما كان الآخر صهراً للشيخ محمود الحفيد( ).
أمضت اللجنة مع مساعديها وموظفيها بضعة أيام في بغداد، أجرّت خلالها عدداً من اللقاءات مع بعض البارزين من المواطنين، وقد أذهلت اللجنة التظاهرات المثيرة المخبولة. أما في الموصل، وهي نقطة التوقف التالية، فقد كانت الأحاسيس الشعبية، مرتفعة وقدمت الشرطة حماية إلى أعضاء اللجنة، حيث كانت صيانة الأمن العام عسيرة، نظراً إلى عواطف السكان الهائجين والمتظاهرين، ووجود الكثير من العناصر المختلفة في أصولها، ومحاباتها، وميولها، ولذلك عقدت معظم تحريات اللجنة بصفة سرية. أما الشهود، وغالباً ما كانوا مناقضين بصفة ذاتية في أجابتهم على الأسئلة التي تطرح عليهم، فأنهم كانوا يترددون، في بعض الحالات، في التحدث، أو أنهم - بدافع الخوف من الانتقام منهم، ولم يكونوا ليتحدثوا إلى اللجنة إلا في عزلة شديدة. وفي حالات أخرى كان هؤلاء الشهود جداً متأثرين بمطامعهم الشخصية وعداواتهم الشخصية أيضاً، في حين لم تبرز هذه الإجابات، في حالات أخرى، سوى القليل من الاتجاهات التي لها قيمتها.
لقد تأثر بعض الأشخاص بالقضايا العنصرية، بينما تأثر آخرون بالأمور العشائرية، وغيرهم بالاعتبارات الاقتصادية. في حين تأثر الكثيرون منهم وبكل جلاء، بالمخاوف أو الأماني الشخصية، التي لم تكن تتطلع إلى قيام حكومة أفضل، بل على العكس من ذلك كانت تريد قيام حكومة ضعيفة غير فعالة لغاياتهم الشخصية والاستفادة والمنفعة.
أمضت اللجنة شهرين كاملين في ولاية الموصل المتنازع عليها، وتصرفت بكل حرية في الاستفسارات المجدة والحصيفة، من كل مصدر ومن كل طبقة. تم تسليم التقرير الذي وضعته اللجنة، وهو من الوثائق المعتمدة والموضحة، إلى مجلس عصبة الأمم في شهر تموز 1925 حيث جرت مناقشته في الأيام الأولى من شهر أيلول 1925. ولقد أبعد أعضاء لجنة تقصي الحقائق كل فكرة عن احتمال تقسم ولاية الموصل. ذلك لأنهم استعرضوا المحتوى العنصري للمنطقة المتنازع عليها، وتقبلوا بصفة عامة ـ وأن لم يحصل ذلك من دون تحفظ ـ كل الحقائق والأرقام التي أدلت بها الجهة البريطانية. ولقد وجد أعضاء اللجنة أن الاعتبارات الاقتصادية بصفة عامة، تربط ولاية الموصل بالعراق. كما صادقوا على (خط بروكسل للحدود)، واعتبروه خطأ منيعاً من الناحية الإستراتيجية وفي الوقت ذاته لم يقبلوا بالطلب الذي قدم إليهم لإلحاق قسم من منطقة (حكاري) بولاية الموصل( ) وكان هذا الرفض من الأمور التي أثارت الخوف لدى الآثوريين المتحمسين لهذا الطلب.
وصف أعضاء اللجنة (لجنة تقصي الحقائق)، الأحوال السائدة آنذاك في العراق، بأنها ما تزال غير مستقرة على الرغم من التقدم الذي تم إنجازه في ظل حكومة الانتداب، كما أنهم رفضوا فكرة الإدعاء بالتملك القائم على أساس الفتح، أو القانون الدولي، لكنهم اعترفوا في الأخير بأن أغلبية السكان في ولاية الموصل (الذين هم من الأكراد) قد أظهرت في النهاية بأنها تريد ضم ولاية الموصل إلى العراق الذي يحكم الآن حكماً دستورياً، بدلاً من أعادتها إلى تركيا.
وعلى هذا الأساس كانت توصية اللجنة تقضي بأن توحد ولاية الموصل مع العراق، وكل الأراضي التي تقع جنوبي (خط بروكسل) خط الحدود بين العراق وتركيا لقاء شرطين: أولهما، أن يظل العراق تحت الانتداب لمدة خمس وعشرين سنة. وثانيهما هو ضرورة الاعتراف بالمميزات العرقية والوعي الذاتي للأكراد، واستعمال لغتهم القومية الكردية بصفة رسمية وتعيين الموظفين الأكراد، في الاقضية الكردية، إداريين وقضاة، ومعلمين.
لم يلبث الممثل التركي في جنيف، وهو رجل شديد التعصب القومي، والثقة بالنفس، وعدم التأثر بالحقائق أو البراهين التي عرضتها اللجنة، أن رفض تقرير اللجنة بصفة مطلقة، وسحب وعده بالالتزام بقبوله، إذا ما صادق مجلس عصبة الأمم عليه، وأخذ يتساءل عن وضع اللجنة ذاتها. وإذ ذاك قدم طلب عاجل إلى محكمة العدل الدولية الدائمة في (لاهاي) في اليوم التاسع عشر من شهر أيلول عام 1925م، بأن تعلن رأيها فيما إذا كان تقرير اللجنة بعد المصادقة عليه، يجب أن يعتبر مجرد عمل للوساطة، أو توصية، أو قراراً قطعياً.
رفض الأتراك أن يحضروا جلسات المحكمة التي عقدت بعد شهر أي في (تشرين الأول عام 1925م) من ذلك التاريخ، ومع ذلك فقد أصدرت المحكمة المذكورة في اليوم الحادي والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 1925، حكماً يعلن بأن القرار الذي سيتخذه مجلس العصبة في القضية سيكون قراراً قطعياً وملزماً، وأن ذلك القرار سوف يقرر بصفة محددة حدود ولاية الموصل على شرط أن يكون ذلك بإجماع الآراء، ما عدا أصوات الفريقين المتهمين بالنزاع (بريطانيا وتركيا).
في الوقت الذي انعقدت فيه المحكمة الدولية، وصلت إلى أوربا شكاوي عن حدوث خرق شديد للأوضاع القائمة في المنطقة التي فصلها خط بروكسل، وإذا ذاك عين مجلس عصبة الأمم أحد الضباط الاستونيين هو الفريق "ف ليدونر" وطلب إليه أن يتوجه إلى المنطقة المذكورة يرافقه موظفان أحدهما جيكوسلوفاكي والآخر أسباني( ) وأن يوافي مجلس العصبة من هناك بتقرير مستعجل عن الوضع. أمضى الضابط الاستوني شهر تشرين الثاني عام 1925م في التحري جنوبي (خط بروكسل) على الدوام، وذلك لأن الأتراك رفضوا السماح بأي اتصال شمالي (خط بروكسل).
لقد ظهر أن معظم حوادث خرق الحدود التي وقعت هناك، كانت من الحوادث العرضية أو الاعتيادية. أما في شمالي (خط بروكسل) فقد تحقق حدوث المخالفات الواسعة التي اقترفها الجنود الأتراك، في المنطقة، والتي صاحبها أو أعقبها، طرد القرويين من المسيحيين الذين دفع بالألوف منهم إلى داخل حدود العراق. (جنوب خط بروكسل).
عرض التقرير الذي أعده الفريق ليدونر ووصف بالتفصيل الاعتداءات التركية في المنطقة، أمام مجلس عصبة الأمم في اليوم العاشر من شهر كانون الأول عام 1925م. وأحدث بين أعضاء المجلس تأثراً بالغاً. وفي الوقت ذاته استمر مندوب تركيا "منير بك" في نظره إلى قرار المجلس، والذي لم يصدر بعد، بأنه ليس سوى مجرد توصية قد تأخذه الحكومة التركية بنظر الاعتبار. وفي الوقت ذاته أدعى هذا المندوب (التركي منير بك) بأن ولاية الموصل، ما تزال حسب القانون تخضع للسيادة التركية، وأنها يجب أن تظل على هذه الشاكلة إلى ان يتم نقض مثل هذه السيادة.
وفي ذات الوقت تواصلت اجتماعات مجلس العصبة، ولجنته التي ألفت لهذا الغرض، بتغيب الناطق باسم الحكومة التركية عنها. وفي اليوم السادس عشر من شهر كانون الأول عام 1925م عرض على المجلس قرار محدد تمت المصادقة عليه بالإجماع. لقد اشترط القرار بأنه لغرض تثبيت خط حدود بروكسل، وإذعان بريطانيا له في غضون ستة أشهر فيجب، أولاً: أن يتم عقد معاهدة عراقية إنكليزية جديدة تكون مدتها خمساً وعشرين سنة (إلا إذا أصبح العراق قبل انتهاء تلك المدة عضواً في عصبة الأمم) وثانياً طرح مقترحات بشأن تنفيذ التوصيات التي وضعتها اللجنة بشأن الصيغ التي تم اختيارها بصفة خاصة عن الإدارة الكردية في المنطقة. وهكذا أنهى هذا القرار مهمة عصبة الأمم بالنسبة إلى النزاع القائم حول ولاية الموصل، وثبت قراره النهائي ضمن المادة الثالثة من معاهدة "لوزان".
قبل العراق برضا تام وعميق ما أقرته لجنة عصبة الأمم بقولها، لقد كان ذلك الحكم قراراً ينطوي على الحكمة والعدل إلى أبعد الحدود، ومثالاً بناءاً من أمثلة التعاون الدولي لتسوية المنازعات.
لقد تأكد لدى جميع المطلعين على الانقسام، وميزات العروق، والأقليات ومصالحها داخل ولاية الموصل، وكذلك بالنسبة إلى التقدم الذي تحقق في الإدارة وفي الاقتصاد ومصالحها داخل ولاية الموصل، وإلى التقدم الذي تحقق في الإدارة وفي الاقتصاد خلال السنوات الست الماضية. أن اقتطاع أرض من حكومة عراقية متحررة نسبياً، أو دائرة في فلك بريطاني - عراقي لحكومة قائمة، وإعادة تلك الأرض إلى حكومة مركزية تركية مستبدة وجائرة في ذلك الوقت، يعتبر أمراً لا يمكن احتماله، وقد يؤدي إذا ما تم تطبيقه، إلى تمزيق دولة العراق.
بدأ العمل في العراق بمنتهى السرعة لتنفيذ قرار عصبة الأمم، فقد صدرت التعليمات إلى جميع الوزراء، من خلال رئيس الوزراء وهو نفسه كردي (جعفر باشا العسكري) بأن يسارع في تنفيذ سياسة تمييز المناطق الكردية عن المناطق العربية تنفيذاً تاما، وذلك بتعيين الموظفين الكرد في كل الدوائر هناك( ). وأن يقدم شكوى على الجرائم.
* تركيا تصادق على قرار عصبة الأمم
كانت المعاهدة الجديدة البريطانية - العراقية والتي صادق البرلمان عليها في اليوم التاسع عشر من شهر كانون الثاني في سنة 1926، قد لقيت تذمراً حاداً من قبل ياسين الهاشمي وحزبه (حزب الشعب) بسبب فترة الوصاية الطويلة خمسة وعشرين سنة، قد اشترطت إعادة النظر بشكل فعال من قبل الدولة المنتدبة بريطانيا في سنة 1928 وما بعدها، خلال فترات تمتد كل فترة منها أربع سنوات إلى انتهاء مدة الخمس والعشرين سنة، كما اشترطت المعاهدة المذكورة بين بريطانيا والعراق إمكانية تقديم توصية بقبول العراق في عصبة الأمم، وأن هذا القبول سوف ينهي الانتداب المفروض على العراق. كذلك اشترطت المعاهدة أن يتم، في ضوء التقدم الذي تحرزه مملكة العراق، أو لأي سبب آخر، تعديل أحكام الاتفاقات المالية التي وجهت الانتقادات إليها كثيراً.
بقي على بريطانيا أن تحقق ما أخفقت عصبة الأمم فيه، إلا وهو الاتفاق والتعاون مع الجمهورية التركية. فقد قوبل القرار الذي اتخذته عصبة الأمم بشأن ولاية الموصل، بهجمات قاسية وفظيعة في الصحافة التركية، على درجة أن مصطفى كمال لم يتردد من أن يشخص ذلك بنفسه. بل أن حتى مجلسه العسكري لم يتجاهل فكرة نشوب الحرب بين بريطانيا وتركياً، عندما اجتمع غداة عيد الميلاد في سنة 1925 في أنقرة. ولكن كانت تقوم في ذات الوقت في تركيا مجالس أخرى أقل خطراً وقد حملت تلك المجالس على الإذعان لقرار العصبة بالنفوذ المسالم الذي بذله كل من توفيق رشيد بك (وزير خارجية حكومة مصطفى كمال)( ) والسفير البريطاني، بل في الواقع بالأوضاع التي كانت سائدة في تركيا آنذاك.
وفي اليوم الثامن عشر من شهر تموز عام 1926 صادقت الجمهورية التركية على معاهدة تركية بريطانية عراقية، تم وفقا لها القبول بخط بروكسل خطا للحدود بين العراق وتركيا، كذلك تم تأليف لجنة حدود دائمة لتطبيق سياسة حسن العلاقات تحل محل خط الحدود المحايد. وفي ذات الوقت تعهد العراق بأن يدفع إلى جارته، ولمدة خمس وعشرين سنة، العشر من مجموع ما يحصل عليه من عوائد النفط، إذا ما تم العثور على منابع للنفط في ولاية الموصل، وبذلك وصلت قضية الموصل مرحلتها النهائية.
تعد ولاية الموصل في غاية الأهمية من الناحية الإستراتيجية. إذ أنها مفترق الطرق بين العراق وسوريا وتركيا وإيران وجنوب الاتحاد السوفيتي. ولعل ما زاد من أهميتها اكتشاف النفط فيها عام 1909.
دخلت ولاية الموصل في حوزة السيطرة البريطانية في العراق رغم أنها كانت عند توقيع هدنة (مودروس) في 30 تشرين الأول عام 1918 خارج نفوذها. ولاعتبارات سياسية واقتصادية ودينية عملت بريطانيا بقوة أن يكون كرد العراق خارج نفوذ تركيا لكي لا تعيد أمجاد الدولة العثمانية المسلمة. ولعل النفط المكتشف فيها كان هو العامل المهم الذي جعل بريطانيا تعدل اتفاقية سايكس – بيكو مع فرنسا بعد أن كانت ولاية الموصل ضمن النفوذ الفرنسي. فيما شكلت ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا عام 1917 عاملاً مضافاً، واعتبرته بريطانيا خطاً أحمر يهدد نفوذها وأملاكها ومستعمراتها وخاصة النفط في منطقة الخليج العربي، وإيران جارة روسيا الجنوبية.
في بغداد، كان المجلس التأسيسي العراقي( ) -وهو أول مجلس شورى في العراق في 27 آذار 1924م قد وافق بعد تردد على مشروع الانتداب في اليوم العاشر من شهر حزيران 1924م( )، وختم المجلس التأسيسي قراره بشرط أن كل شيء سيكون لاغياً وباطلاً إذا ما أخفقت الحكومة البريطانية في ضمان حقوق العراق في ولاية الموصل بكاملها( ).
الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة
http://www.algardenia.com/maqalat/14929-2015-02-11-10-54-42.html
1588 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع