قراءة في استراتيجية الأمن القومي الأميركية

                                     

                        د. منار الشوربجي

كان لافتاً في استراتيجية الأمن القومي الأميركية لعام 2015 أن تختفي إسرائيل تماماً من مقدمة الوثيقة الموقعة من الرئيس أوباما.

فبينما أكدت الوثيقة على الموقف التقليدي الأميركي الداعم لأمن إسرائيل وتفوقها الكيفي على الدول العربية، إلا أن مقدمة الرئيس التي ذكر بها دولاً عدة كحلفاء أو كخصوم لم تذكر إسرائيل، بل إن الوثيقة كلها لم تذكرها إلا في الجزء الخاص بالشرق الأوسط الذي تراجعت أهميته بوضوح في أولويات الأمن القومي الأميركي.

ولا جديد، في الحقيقة، في تراجع الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأميركية. فهو ملحوظ منذ فترة، والوثيقة لم تكن منشئة له وانما كاشفة عنه لا أكثر. ولعل الأكثر دلالة هو أن الجزء الخاص بالشرق الأوسط في الوثيقة هو بالحقيقة الأكثر تقليدية من حيث لغته ومضمونه بالمقارنة بباقي أجزائها التي حملت أفكارا ومشروعات جديدة.

ولا يمكن فهم ذلك التراجع إلا من خلال القراءة المتأنية للوثيقة باعتبارها كاشفة عن رؤية إدارة أوباما للعالم وأولويات الأمن القومي الأميركي. فالوثيقة، كالعادة، تعتبر قيادة أميركا للعالم «لا غنى عنها»..

وليست محل نقاش وإنما المطروح للنقاش هو «الكيفية» التي تمارس بها أميركا دور الزعامة. وفي هذا الصدد، تقول الوثيقة صراحة إن الولايات المتحدة ستتحرك «بشكل أحادي ضد ما يهدد مصالحنا الحيوية»، ولكن أميركا تكون «أقوى حين نقوم بالتعبئة من أجل العمل الجماعي».

ولعل أهم ما جاء في الوثيقة هو اعتراف الولايات المتحدة صراحة بأن قدراتها ومواردها «ليست بلاحدود»، الأمر الذي يستتبعه «خيارات صعبة» بشأن الأولويات التي تتعلق بالأمن القومى الأميركي، «وتجنب المبالغة» في رد الفعل، بناء على الخوف. فتلك ربما المرة الأولى التي تنص فيها وثيقة رسمية أميركية على ما هو معروف للمتخصصين في الشأن الأميركي من أن الولايات المتحدة في تراجع.

والتراجع المقصود هنا ليس معناه أن أميركا لن تكون القوة العظمى في المستقبل المنظور، ولا معناه أنها بصدد التفكك كما يزعم بعض الجهال، وانما المقصود ببساطة أن الولايات المتحدة رغم أنها ستظل القوة العظمى في المستقبل المنظور..

إلا أن قدراتها على الإبقاء على دورها «الامبراطوري» ستتأثر سلبا والسبب بالأساس هو أزماتها الداخلية المتعلقة بالاستقطاب السياسي الذي يمنع التوصل لاتفاق بشأن إصلاحات داخلية حيوية ستلتهم جزءا كبيرا من ميزانيتها، الأمر الذي يعني أن يكون على الولايات المتحدة، خلال العقود القادمة، اتخاذ قرارات صعبة تختار فيها بين أولوياتها الداخلية المتراكمة وبين دورها «الامبراطوري» في الخارج.

فلأن الإنفاق الدفاعي يمثل الحصة الأكبر في الميزانية، بعد تسديد التزامات الحكومة الأميركية تجاه برامج الأحقيات، فإنها الأكثر عرضة للانحسار.

ولم يفت أوباما في مقدمته أن يشير صراحة لخطورة ذلك الاستقطاب، عبر التأكيد على أهمية استعادة «الوسط عبر الحزبي الذي ظل عبر عقود مضت مصدر قوة السياسة الخارجية الأميركية». ومن هنا، تبدو وثيقة الأمن القومي للعام الحالي بمثابة نوع من التكيف مع تلك الحقيقة التي يدركها جيدا صناع القرار الأميركيون.

فالوثيقة على سبيل المثال تؤكد على أن تلك الاستراتيجية لا ينبغي أن تعتمد على القوة العسكرية وحدها، وانما على ما أسماه أوباما «المثابرة والصبر الاستراتيجيين»، بمعنى أن تكون الولايات المتحدة «جادة في تحمل مسؤولياتها» في إطار استراتيجية تقوم على «أجندة شاملة تستثمر في كل جوانب القوة الأميركية» ..

وتعي المخاطر مثلما تدرك الفرص وتوازن بين الأولويات والمبادئ، وهي في ذلك ترفض أن تكون تلك الاستراتيجية موجهة «ضد تهديد واحد أو منطقة واحدة من العالم». وتشرح الوثيقة التحول الذي حدث في عهد أوباما من «نموذج خوض حروب مكلفة بقوات برية... إلى منهج جديد يقوم على عمليات موجهة في محاربة الإرهاب وفق الأولويات، والعمل الجماعي مع شركاء يمكن الوثوق بهم وجهود متزايدة لمنع نمو التطرف...» ..

ولعل هذا هو التحول الأهم فعلا في عهد أوباما. فبهدوء ودون إعلان، لم تعد أميركا تقوم بعمليات برية واسعة ولا حتى تسعى للقبض على «المشتبه بهم» ووضعهم في السجون الأميركية وانما صارت تعتمد بالأساس على الضربات الجوية، خصوصا من خلال الطائرات بدون طيار الموجهة إلكترونيا لقتل المشتبه بهم أينما كانوا بدلا من سجنهم.

ورغم أن الوثيقة تتحدث عن سعي أميركا لاعتقال الإرهابيين «ومحاكمتهم»، إلا أنها تلمح بوضوح إلى ما تقوم به أميركا فعليا وهو قتلهم، إذ تشير إلى أنه حين لا يكون القبض على هؤلاء متيسرا «فإننا لن نتردد في اتخاذ قرارات حاسمة».

وفي هذا السياق الأكثر شمولية، ترى أميركا الشرق الأوسط. فأمن إسرائيل وتفوقها النوعي قضية أمن قومي أميركي، ولكن دون مبالغات. والتعاون مع الشركاء ف المنطقة يهدف لحماية المصالح الأميركية التقليدية دون أن يؤثر ذلك على أولويات أميركا في مناطق أخرى. فالولايات المتحدة صارت المنتج الأول للنفط ولكن من مصلحتها تدفقه لحلفائها بشكل مستقر.

وهي في خصومة مع روسيا وتبحث عن حل سياسي لقضية البرنامج النووي الإيراني. واهتمامها بمصالحها في الشرق الأوسط لا يأتي على حساب اهتمامها بما أسمته «إعادة التوازن لصالح آسيا»، وبناء علاقات قوية مع الهند وعلاقات متوازنة مع الصين.

باختصار، تعيد أميركا بناء أولوياتها بناء على إدراكها لحدود قدراتها ولمحدودية تأثير القوة العسكرية مقابل ما عداها من أدوات تسعى لتفعيلها.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

788 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع