د. محمد عياش الكبيسي
يستند (الإسلام السياسي) إلى مقولات ينبغي أن لا تكون محل خلاف في كل الأوساط الإسلامية مثل مقولة (الشمولية الإسلامية) بمعنى أن الإسلام دين ودولة، عقيدة وشريعة وأخلاق، وكذا مقولة (الحاكمية) التي تعني خضوع المسلمين لشريعة الله فيما أحل أو حرّم، وفي هذا يرى الندوي (أن لا خلاف بين علماء الإسلام) لكنه يرفض الغلوّ السياسي الذي يجعل الإسلام كله يدور في فلك الأهداف السياسية، وهو ما يسمّيه (التفسير السياسي للإسلام).
وأساس المجادلة عنده تدور حول (الغاية والوسيلة) فهو يرى أن هناك من جعل الدين كله وسيلة للسياسة، ويستشهد بعبارات للمودودي وغيره مثل: (فغاية مهمة الأنبياء -عليهم السلام- في الدنيا هي الحكومة الإلهية، وتنفيذ نظام الحياة بجميع أجزائه... هذه الغاية التي من أجلها فرض الإسلام عبادات الصلاة والصوم والحج).
هذا التصور -عنده- قد قلب المعادلة فجعل الغاية وسيلة والوسيلة غاية، وهو يتساءل: (إذا كانت العبادات حتى الصلوات الخمس مجرد وسائل فما معنى طول قيامه -صلى الله عليه وسلم- حتى تورمت قدماه؟. وما معنى قوله تعالى {والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما} و {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}؟).
وهذه المجادلة ليست مجادلة نظرية فلسفية، بل هي ذات أبعاد تربوية وسلوكية خطيرة تبدأ عنده بضعف الشعور القلبي والروحي تجاه هذه العبادات مقارنة بالشغف في الأعمال الجماعية ذات الطابع السياسي، وتنتهي بالانتكاسة الحادّة التي قد تصيب المرء إذا شعر ببُعد الشقّة بينه وبين تحقيق تلك الغايات.
في الواقع الملموس هناك ملاحظات ميدانية تؤكّد تلك المخاوف، فرغم تركيز الدعاة الأوائل على النهج الربّاني والرقابة الذاتية، نرى هنالك ممارسات تجعل معيار التفاضل ليس العلم ولا التقوى ولا ما يقدّمه الإنسان من أعمال الخير، بل هو الارتباط التنظيمي، وقد وصل الحال ببعضهم إلى التجوّز في غيبة الآخرين والانتقاص منهم، وتحوّل معنى (الاستعلاء الإيماني) إلى (الاستعلاء التنظيمي)، فترى أصغر منتظم يرى في نفسه ما لا يراه في علماء الإسلام ودعاته والعاملين له، وهذا السلوك مبرر عنده بقاعدة مبسّطة: أن كل أعمال الخير إن لم تكن جزءا من (المشروع
الإسلامي) فهي لاغية ولا قيمة لها. قلت لأحدهم مرّة: انظر يا أخي إلى هذه الجموع الصائمة القائمة الداعية الباكية في رمضان والحج والعمرة، انظر إلى آلاف المساجد التي بناها متبرّعون رجال ونساء، انظر إلى المتصدّقين وكافلي الأيتام من عامة الأمة، تؤثّر فيهم الموعظة والكلمة الطيبة من أين ما جاءت، ويحبّون أهل العلم وأهل الصلاح والخير بلا عناوين ولا لافتات، فقال: ليس المهم كثرة هذه الأعمال، وإنما المهم ارتباطها بالمشروع الإسلامي! تذكرت حينها شعارا كنا نراه في كل مكان (كل شيء من أجل المعركة)!
والحقيقة أن هناك من روّاد الإخوان الأوائل من تنبّه إلى مثل ما تنبّه له الندوي وحذّر مما حذّر منه، فكتاب (دعاة لا قضاة) للأستاذ الهضيبي كأنه جاء مكرّسا لهذه القضية، فناقش الحاكمية والألوهية والربوبية والمفاهيم المؤسسة لمعاني (الحكومة الإلهية) وقد كان جريئا في تشخيصه وتحليله، فتناول مقولات المودودي تلك بعنوان بارز (اعتراض على بعض ما قرّره الأستاذ المودودي) وبلغ في نقده حتى قال: (مجرد قول لا حجّة له ولا يجوز اتباعه ولا يصح أن تبنى عليه الأحكام) وقال في الحاكمية ولوازمها: (والأحكام الشرعية تؤخذ من كلام الله وحديث الرسول -عليه الصلاة
والسلام- لا من أقوال ومصطلحات يضعها الناس أياً كان هؤلاء الناس) وقال أيضا: (وفي هذا كفاية لإبطال قول من زعم أن التشريع صفة من صفات الله.. وأن من وضع تشريعا فقد انتزع لنفسه إحدى صفات الله عز وجل وجعل نفسه ندّا لله).
من الواضح هنا أن الندوي والهضيبي كانا يحاولان بجدّ تفكيك المقولات التي ستسهم من وجهة نظرهم بتنامي ظاهرة الغلوّ والشعور بالعزلة عن المجتمع مع الوصاية الفوقية عليه، وربما جاء مصطلح (الإسلاميين) تكريسا لهذا الشعور في مقابل (المسلمين)، والحق أن هذا التصنيف لا يستند إلى دليل ولا يمكن أن ينبني عليه حكم عملي، فمرجعية المسلمين واحدة، وهم أمام الدين سواء، والتفاضل إنما يكون بالعلم والتقوى، وهذا التصنيف أضرّ برسالة الإسلاميين أنفسهم، فمناداتهم بتحكيم الإسلام وقيام الدولة الإسلامية أصبحت كأنها بصمة لهم لا تعني بقيّة المسلمين! وقد
تركوا هنا ثغرة واسعة دخل منها خصومهم ليفرّقوا بين إسلام الإسلاميين وإسلام المسلمين، فكل شيء أرادوا رفضه والتنصّل عنه قالوا: هذا من أفكار الإسلاميين، حتى لو كان هذا الشيء من ضروريّات الإسلام.
إن السعي إلى الحكومة -بحسب تعبير الندوي- بلافتة الإسلاميين وليس بلافتة المسلمين جعل عامّة المسلمين يرون أنهم في حلّ من ذلك، وهذا هو الذي يفسّر خسارة الإسلاميين المتكررة في بلد مثل باكستان مع أن الشعب الباكستاني معروف بشدّة تديّنه وغيرته على الدين، والحمد لله أن (الإخوة) هناك لم يناقشوا حكم المجتمع الذي يختار اللافتة العلمانية على اللافتة الإسلامية.
إن بناء المجتمع بالإسلام شيء، والدخول في منافسات سياسيّة وانتخابيّة بلافتة إسلاميّة شيء آخر، هناك يكون الإسلام هو الدافع والموجّه لحراك المجتمع، وهنا يكون الإسلام طرفا من الأطراف، خاصّة عند من يشعر أن هذه المشاركة أو المنافسة هي لبّ المشروع الإسلامي فيوالي فيها ويعادي عليها.
إن دفع الخيّرين والكفاءات المخلصة إلى الحكومة أو البرلمان على قاعدة (التقريب والتغليب) أولى بكثير من الدخول بالعناوين الصارخة التي تقسّم الداخل وتستعدي الخارج، ولكن شرط هذا الخيار هو وجود قناعة ذاتيّة أن في المجتمع خيرين وكفاءات صادقة ومؤتمنة وإن لم تكن قد بايعت أو انتظمت.
كما أن العمل على جعل المجتمع يحبّ الإسلام ويعظّم القرآن ويعشق الأخلاق والشمائل المحمّدية، المجتمع الذي تسوده الرحمة والثقة والمحبة وقيم التسامح والتواصل، المجتمع الواعي الذي يميّز بين الصادق والكاذب والصالح والطالح، لهو أولى بكثير من حكمه بالشريعة دون وعيه، أو زجّه في صراعات ومتاهات لا يدري أولها من آخرها ولا خيرها من شرها.
988 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع