أ.د. محمد الدعمي
لا يشعر المرء بتراجع الثقافة والمعرفة بين شبيبتنا ونشأنا في العالم العربي بالقدر الكافي إلا عندما “يتصفح” شبكات التواصل الاجتماعي، على أنواعها.
وإذا كنا، معلمين، نشخص زاوية الانحدار في خط تراجع الثقافة والرشد السلوكي بين أفراد هذه الفئة الاجتماعية عبر نافذة الصفوف الدراسية في ثانوياتنا وجامعاتنا على نحو مباشر وبشكل له تأثير صادم، فإن شبكات التواصل أعلاه تقدم للمرء “رجة وعي” عنيفة تكفي لأن يطلق صفارة الإنذار والضوء الأحمر للتنبيه من خطر الانحدار إلى قاع الوادي، تراجعًا ثقافيًّا.
قد لا يحتاج المرء لأكثر من دقائق متصفحًا وسائحًا بين صفحات هذه الشبكات لقياس التدهور، “تصحرًا” ثقافيًّا و”تعرية” ثقافية، (كما أطلقت عليهما في مقالتين سابقتين) بل وحتى “هبوطًا” سلوكيًّا، أحاق بهذه الفئة الاجتماعية، الأكثر أهمية في حياة الشعوب وفي مستقبلها. أما إذا ما كان “المراقب” معلمًا ومن المجايلين لي، فإن آثار الصدمة في دخيلته تكون بدرجة من القوة والتردد أنها تطلق في ذهنه تيار وعي قوامه المقارنات والمقاربات بين ما كان وما يكون، وما يمكن أن يكون.
وإذا كانت الثقافة والمعرفة واتساعهما من الميزات التي تقدم شبان ستينيات وسبعينيات القرن الزائل على أقرانهم، فإنها قد تكون اليوم من أسباب صرف النظر عنهم بسبب تطلعاتهم. بل إن الأدهى اليوم يتبلور في تباهي البعض من أفراد هذه الفئة بالجهل وبعدم المعرفة. وهو التباهي الذي يأتي مصداقًا لقول الشاعر الإنجليزي “الكساندر بوب” Pope، المفيد بأن “الجهل نعمة” Ignorance is a Bliss. واعتمادًا على المقارنات والمقاربات المذكورة في أعلاه يستذكر المجايلون لنا كيف كان القلم يوضع بارزًا على صدر القميص الذي يرتديه الشاب، كناية عن انهماكه بالثقافة، وكيف كان مجرد حمل صحيفة أو مجلة أو كتاب يكفي لإطلاق رسالة ضمنية تقول إن صاحبنا “يتشبث بالثقافة”، إن لم يكن مثقفًا بحق. والأولى والثانية حالتان تستحقان الإطراء.
و”المثقف” هو لفظ راحت عوامل التعرية تعمل عليه، فأخذ يستحيل من لفظ مجرد إلى مفهوم. و”المفهوم” أخذ يكتسب دلالات إضافية على نحو تراكمي مع مرور الزمن، الأمر الذي أحال اللفظ المجرد إلى كتلة معانٍ محاطة بهالة من الإشارات والأبعاد الأخرى.
لم أزل أذكر كتب الأدب العربي المدرسية التي حاولت تقديم تعريف مفهوم للـ”ثقافة” لنا وما زلنا شبانًا، إذ تشبثنا بالتعريف وحاولنا “هضمه” و”تمثيله”، ومن ثم “ابتناؤه” في كينوناتنا الغضة بكل جد واعتزاز. وصار أمر الثقافة من سجايا الشبان الجيدين الواعدين على عكس ما يحدث اليوم: إذ يكون استخدام العربية الفصحى “سُبّة” للأسف، بل ومدعاة للتهكم بمن يستعملها، بديلًا عن الدارجة التي لا يمكن لمن يستعملها إلا أن يستدرج إلى بذيء الألفاظ وأكثرها سوقية.
في سابق العقود، كان عدم المعرفة بأسماء كتاب مثل “جان بول سارتر” و”ألبير كامو” و”كولن ويلسن” و”جاك لندن”؛ أو كتّاب مثل “عباس العقاد” و”طه حسين” أو حتى القدماء كــ”الحسن البصري” أو “الغزالي”، من بين سواهم، تعد مثالبًا تستحق الملاحظة في سياق نقد شخصية الشاب وضعف تطلعاته. أما الآن فلا تدق الأسماء أعلاه جرسًا قط في وادي النسيان اللامنتهي.
للمرء أن يمسح تضاريس “الخلاء” و”التجريف” الثقافي اليوم في سياق احترام وتقدير مبادرات بعض وزارات الثقافة والهيئات المتخصصة بها على سبيل تشجيع ودعم الشبيبة والنشء لسلوك طريق المعارف والإنتاج الثقافي، ليس عبر التعيير المادي للمثقف الذي كان يعتني بهندامه، متأكدًا من أن يكون قلمه منظورًا على “أعلى صدره” من قبل من يقابله، ولكن كذلك عبر المكافأة الاعتبارية لهذا التشبث بالثقافة والمعارف!
1001 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع