الدكتور/ محمد عياش الكبيسي
في سنة 1980 كُلّفت من قبل جمعية التربية الإسلامية بالخطابة في جامع (خانضاري) منتصف المسافة بين بغداد والفلوجة، وكان عمري في ذلك الوقت لم يتجاوز الثامنة عشرة، وبعد أول خطبة إذا بالشيخ حارث ينتظرني مرحبا ومشجعا كعادته مع طلبة العلم، خرجنا من المسجد وكان بالباب والده الشيخ سليمان وعمه الشيخ خميس -عليهم رحمة الله- ذهبنا سويّة إلى مجلسهم العامر وبقينا حتى صلاة العصر، ثم صارت هذه عادتنا في كل جمعة، نصلي سويا ونتغدى سويا، وبعض الأحيان يصرّ الشيخ على أن يوصلني بسيارته القديمة (فولكس فاجن) إلى بيتي في الفلوجة، تلك كانت بداية العلاقة وبداية الطريق الطويل المليء بالتجارب والمواقف والآلام والآمال.
في تلك السنة أيضا كان دخولي في الجامعة، وقد كانت فرصة كبيرة للاستفادة من الشيخ في علوم الحديث مرحلة البكالوريوس ثم الماجستير ثم الدكتوراه، ومما أذكره في الدكتوراه أن أحد الطلاب قدّم أطروحته للمناقشة بعنوان (الوحدان في صحيح البخاري) وقد حاول النيل فيها من البخاري -بحسب ما سمعته حينها من الشيخ- وكان يوم المناقشة يوما مشهودا، حيث ذاع الخبر عند شباب بغداد أن هناك رسالة جامعية تطعن في البخاري! حضرت المناقشة مبكّرا وفوجئت بحضور نائب رئيس الجمهورية عزة الدوري ببزته العسكرية! بدأ الطالب بمقدّمة مستفزّة؛ حيث ذكر صراحة أن الذي قبله في هذه الدراسة هو رئيس الجمهورية صدام حسين! وأنه قبِله لكي يحصل على الشهادة! كانت أجواء من التحدّي والقلق والخوف، استمرت المناقشة من الساعة العاشرة صباحا حتى بعد صلاة المغرب! والقاعة والممرات الخارجية تغص بالشباب، وقد أجمع المناقشون على أن الطالب تعمّد الإساءة للسنّة النبوية، ثم جاء قرار اللجنة والذي تلاه الشيخ حارث؛ إذ كان رئيس اللجنة برفض الرسالة، فكادت القاعة تنفجر بالتكبير! وعلى خلاف ما أوحى به الطالب فقد جاء موقف صدام متفهما لقرار اللجنة.
في سنة 1994 قامت القوات الأمنية باعتقال مئات الشباب السنّة من أبناء المساجد بتهمة (الوهابية) وفي مقدمتهم الشيخ مكي الكبيسي وهو أبرز تلاميذ الشيخ حارث، فذهبنا إلى الشيخ نستشيره في الأمر، فكان الاتفاق على عقد اجتماع موسّع لعلماء العراق، وقد تكفّل الشيخ غازي السامرّائي باستضافة هذا الاجتماع في بيته وسط بغداد، وكان الاجتماع برئاسة عالم العراق المهاب الشيخ أيوب الخطيب وبحضور شيخنا الشيخ عبدالملك السعدي وشيخنا الشيخ أحمد حسن الطه وجمهرة من العلماء -رحم الله من مضى وحفظ من بقي- وقد كنت ثالث ثلاثة في اللجنة المكلفة بإعداد مسودّة البيان المقترح توجيهه إلى رئيس الجمهورية، وقد جاء فيه (لقد آثرنا أن نتوجّه إليكم بهذا البيان قبل أن نعلن ذلك على المنابر)!! قرأ مشايخنا المسودّة فوافقوا عليها، لكنهم طلبوا منا شيئا واحدا، قالوا: نحن كبار السن نوقع على البيان، أنتم الشباب تخلفوننا إذا حصل لنا شيء! وقد وصل البيان بالفعل إلى صدام، وكانت ردة الفعل المباشرة أقل مما توقّع الجميع.
بعد ذلك البيان بمدة -لا أذكرها بالضبط- جاءني صديق عزيز فقال وهو خائف ومضطرب: يا شيخ اليوم أوصل لي أحد المعارف الثقاة أن اجتماعا عقد في مبنى المجلس الوطني بحضور علي حسن المجيد وأنه توعّد بتصفية خمسة من العلماء (الواقفين بوجه الحزب والثورة)، من بينهم أنت والشيخ حارث، لماذا؟ قال: لا أدري، ذهبت إلى الشيخ فوجدته قد سمع من طرف آخر، تحيّرنا حقيقة فنحن لم نرتكب ما يستوجب ذلك، وقد غلب على ظننا أنها تسريبات كاذبة من بعض الجهات الطائفية لإخراجنا من البلاد، نصحني الشيخ بالابتعاد عن الأنظار حتى نستجلي الأمر، بعدها بأيام تم بالفعل تصفية واحد من الخمسة -إلى رحمة الله- فرجح عندنا الخروج تجنبا للفتنة، فخرجت أولا ثم خرج الشيخ بطريقة رسمية دون أن يعترضه أحد، ولحد الآن ليس عندنا تفسير لما حصل.
التقينا في الأردن وهناك كنا نتواصل باستمرار، ومما أذكره في تلك الأيام رسالة جاءتنا من الرمادي من الشيخ خليل إبراهيم الكبيسي يستغيثنا بضرورة الردّ على شبهات التيجاني السمّاوي التي انتشرت في العراق والتي تنال من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن أمهات المؤمنين، فبادر الشيخ بكتابة رسالة علمية موجزة، ثم أتبعته بتوجيه منه برسالتي (وقد خاب من افترى).
في 2003 بعد القرار الأميركي بغزو العراق، أصدر العلماء المقيمون في الخارج بيانا بوجوب ردّ المعتدي ودفع الغزاة بكل الوسائل المشروعة، وكان البيان بتوقيع الدكتور عبدالكريم زيدان وعدد من العلماء من بينهم الشيخ حارث، وقد كُلّفت حينها بإيصال البيان إلى قناة الجزيرة والتعليق عليه. وكان هذا البيان أحد الدوافع الرئيسة لانطلاق المقاومة العراقية، لكن الشيخ تقدّم على أقرانه وزملائه بذهابه إلى بغداد ومكوثه فيها حتى اضطر أخيرا للخروج، وقد تعرّض آنذاك لهجوم مسلح ليس بالقليل فحمل السلاح بنفسه مع إخوانه وأهله حتى كفّ الله عنهم المعتدين.
حقيقة أن علماءنا الذين ذكرتهم وكثيرا ممن لم أذكرهم كانوا أصحاب مواقف شامخة، وكانوا على استعداد للتضحية، وتقدّم الصفوف، وقد كانوا بالفعل قلبا واحدا وروحا واحدة، والعراق يزخر بهذا الصنف من العلماء، لكن الذي حصل فيما بعد أن المشهد العراقي قد تعقّد بطريقة لا تسمح بتقدير موقف موحّد، وقد قلت مرة للشيخ -رحمه الله-: نحن نقاتل الأميركان، والآخرون مشغولون ببناء الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية والاقتصادية والتعليمية وغيرها، وسنجد أنفسنا في يوم ما أنه حتى لو خرج الأميركان فإننا سنخرج معهم؟ قال: يكفيني أن أساهم بطرد الأميركان، وبعدها سأعكف على تربية أولاد مثنى، كانت هذه الإجابة مع ما فيها من معاني التجرّد والبعد عن الطموح الشخصي، توحي بمرارة الواقع، والأسى على حال المكونات العراقية التي جعلت تحرير العراق هدفا ثانويا أمام حساباتها الفئوية والطائفية، لكنه الواقع الثقيل الذي هو أكبر من أمنياتنا واجتهاداتنا اتفقنا أو اختلفنا.
رحمك الله يا أبا مثنى وأعلى درجاتك في عليين.
958 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع