أ.د. محمد الدعمي
” .. إذا ما شئنا مباشرة هذا الموضوع المثير من جذوره، فإن للمرء أن يزعم بأن الفارق بين الثقافة والبربرية، إنما يستوحى من الفارق بين الإنسان والحيوان، ذلك أن الثقافة ترتفع بالإنسان من مملكة الحيوان لتسمو به عاليا الى مملكة هي أدنى بقليل من منرتبة “الملاك”، باعتبار أن الأخير هو حلقة الوصل بين الأرض والسماء، أي بين الدنيوي والروحي.”
ـــــــــــــــــــــ
إن أهم ما حاولت تبيانه في كتابي الموسوم (الإسلام الآخر) بيروت، 2014، يتلخص في التمييز بين الأصنام المادية الملموسة التي قام المسلمون الأوائل (رض) بتحطيمها بعد فتح مكة، وبين الأصنام الروحية الإجتماعية والاقتصادية والأخلاقية التي أراد الرسول الكريم (ص) للنوع الأول (المادي) من الأصنام أن تكون رموزا لها على سبيل تحطيمها هي الأخرى، باعتبار أن الأخيرة هي اصنام إعتبارية وفكرية أخطر من الأصنام الحجرية أو الخشبية الرمزية.
وإذا كان هذا هو جوهر الإيمان الإسلامي، فإن التشبث بتكسير الآثار الملموسة لحضارات عظيمة بائدة كانت قد فاقت كثيرا حضارتنا الحالية، لا يعني قط بأن من يفعل ذلك يستجيب لإرادة الإسلام الحق. وبذلك يرتكب مخربو ما يسمى بالدولة الإسلامية، زيفا وتعسفا، خطأً قاتلا يمكن أن يقضي على جميع ما حملوه للآخرين من شعارات وأفكار حتى وإن كان بعضها يبدو مقبولا. وهكذا، وكما فعلت عبر قساوات الذبح وقضم القلوب الحية والحرق للأحياء أو للثقافة الحية، تحفر الدولة الإسلامية المزعومة قبرها بيدها، مخطئة الإدانات العالمية “علامات” صحة وتوكيد على “حسن سلوكها”، حسب معاييرها هي فقط.
وإذا ما شئنا مباشرة هذا الموضوع المثير من جذوره، فإن للمرء أن يزعم بأن الفارق بين الثقافة والبربرية، إنما يستوحى من الفارق بين الإنسان والحيوان، ذلك أن الثقافة ترتفع بالإنسان من مملكة الحيوان لتسمو به عاليا الى مملكة هي أدنى بقليل من منرتبة “الملاك”، باعتبار أن الأخير هو حلقة الوصل بين الأرض والسماء، أي بين الدنيوي والروحي. لذا، عندما يتعامى الإنسان عن حقائق التاريخ والوجود المتحضر، فإنه يرتكب إثما مؤلما بحق نفسه وبحق سواه من البشر ليدنو بنفسه نحو مملكة الحيوان، باعتبار أن الأخير يشارك الإنسان في العديد من الصفات والأنشطة البايولوجية ولكنه يفشل في الإرتقاء إلى إحتكار الإنسان للثقافة.
يحافظ الغربيون على آلهة نينوى المجنحة في متاحفهم بكل عناية، ليس لأنهم يؤمنون بها أو يتوجهون إليها في صلواتهم، ولكن لأنهم يحترمون الثقافة التي ميزت الآشوريين عن سواهم من الأقوام الأدنى تحضرا التي كانت تعبد اشكالا أخرى لتمظهرات الألوهية، ومنها الضوء والنجوم وعناصر الحياة كالماء والشمس واليخضور. البريطانيون خصصوا أول وأكبر قاعة في “المتحف البريطاني” للآشوريات، ليس لأنهم لا يذهبون للكنيسة كل يوم أحد، ولكن لأنهم، كما يحترمون أنفسهم، يحترمون الثقافات الأخرى البائدة والحالية بنفس الدرجة، وهم يذكروننا، زوارا للمتحف ومترددين على مكتبته العملاقة، بأن آلهة نينوى المجنحة التي فتنت وابهرت عمالقة الفكر والفن مثل “جون رسكن” Ruskin أو “جبرائيل روزتي” Rossetti لا تختلف كثيرا في غموض تعابير وجوهها (بين الإبتسام والغضب) عن أعظم لوحة فنية في التاريخ، الموناليزا.
لم تكن الثيران المجنحة آلهة أمم لم تحظ بالإسلام أو بسواه من الأديان التوحيدية فقط، لأن هذه المنجزات الفنية العملاقة كانت كذلك رموزا لجبروت نمرود وآشور وسواهما من عواصم الإمبراطورية الآشورية التي إمتدت هيمنتها من شمال فارس إلى دلتا النيل، لأول مرة في تاريخ الشرق. إن عضلات الثور المجنح البارزة ترمز للقوة، كما ترمز أعضاؤه التناسلية البارزة للقدرة على التخصيب والتكاثر، ناهيك عن أن اجنحته هي رموز السرعة والتحليق في الأجواء، أشبه بترميزات “القوة الجوية” في عالم اليوم.
أما ارتكاب الخطأ المخزي بإرسال جهلة استقر القمل على رؤوسهم وأجسادهم، بانيا ممالك، كي يفعلوا المعاول والفؤوس على أجمل ما قدم الإنسان من أعمال فنية في التاريخ، بلا مبالغة، إنما يعكس غباءً من نوع متفرد في “قواميس الغباء والأغبياء”.
وضع الآشوريون ثيرانهم الرمزية المجنحة على أبواب مدنهم وعواصمهم الإمبراطورية لبث الرعب فيمن تسول له نفسه التحرش بهذه الإمبراطورية وبمدنها العظمى. هم لم يخطر ببالهم أن يأتي يوما يحطم فيه “ثيران آدميون” ثيرانهم الصخرية التي بثوا بها الحياة بتوظيف عبقرية الأصابع والعقل الرافديني المثقف. وهم بذلك قدموا دليلا على البون الشاسع بين الثقافة والبربرية أو بينها وبين “الحيونة”
599 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع