د. سيّار الجميل
عاش العراق خرابا وانتهاكا وانسلاخا لبعض محافظات مهمة مع حرب اهلية طائفية قذرة مع احتلال امريكي نجح في اسقاط نظام دكتاتوري سابق ، ولكنه اخفق في تأسيس نظام سياسي مدني وفشل في تنفيذ عملية سياسية وطنية .. ومر العراق في مخاض صعب جراء اشتعال المحنة الطائفية التي خلقتها احزاب دينية وطائفية وصلت الى حكم البلاد بعد ان تأججت الروح الانقسامية على اساس المحاصصة المفضوحة للمكونات الاجتماعية التي جنحت عن تعايشاتها القديمة الى حالات من التفسخ الذي قاد الى الحرب الاهلية وخلق المزيد من التداعيات المريرة .
وكان من اخطر النتائج الصعبة تدخلات دول الاقليم في الشأن العراقي وخصوصا اختراق الآخر للسيادة العراقية ، وسقوط الموصل ونصف العراق بيد داعش مع اخفاق في العملية السياسية منذ اول خطوة .. ويعد سقوط الموصل بيد داعش في حزيران / يونيو عام 2014 من اخطر ما واجهه العراق تاريخيا حتى يومنا هذا !
هناك عدم اكتراث وتشمّت وتبريرات واتهامات مضادة وهناك دعوات وشعارات من دون اي فعل على الارض .. والناس تقتل وتهجّر وتضطهد .. لقد تغلغلت الروح الانتقامية والسياسية والطائفية على النزعة الوطنية والسياسة المتسامحة التي يبدو انها قد ماتت منذ زمن بعيد ! لقد سُلبت الموصل وتوابعها الغربية من قبل داعش جراء سياسات المالكي واعوانه ، ويعاني العراق ايضا من اختراقات ايران والميليشيات الخطيرة .. واصبح العراقيون بين نارين اثنتين ، ويبدو ان الحكومة الحالية لم تستطع الخروج بالضرورات نظرا لسيطرة المحظورات عليها ، ممثلة بمراكز قوى مسلحة وهي تسيطر دينيا وطائفيا ! فهل تمّ " التغيير " الذي نادينا من اجله على امتداد الحكم الفاسد للمالكي الذي جلب اكبر كارثة في تاريخ العراق الحديث ؟؟
ان التغيير الحقيقي لا يمكن ان يحدث ، اذا لم يتم التخلص من واقع مهترئ وقف على رأسه المالكي ورهطه على مدى حكم دام ثماني سنوات عجاف ، وقد اخرج بالقوة من السلطة العليا ، بعد ان خرب البلاد وبدد ثرواتها وفقد العراقُ الموصل وغرب العراق بهروب قوات جيشه من المواجهة ، ولكنه لم يزل يمتلك قوته السياسية ونفوذه الحزبي في سدة الحكم ! وهو يتبجح باسم شرعيته الانتخابية علما بأنه اول من اغتال تلك الشرعية عندما لاحق مسؤولين كبارا جاءوا من خلال الانتخابات الى السلطة واتهمهم بأشنع التهم !
كنا نأمل في الدكتور العبادي ان يحقق انقلابا حقيقيا على سياسات سلفه ليبدأ التغيير في كل المؤسسات والاجهزة .. ولكن ذلك لم يحدث حتى الآن ، اذ مضى على تسلمه في الحكم عدة اشهر ، وهو لم يتخذ اية اجراءات بحق كل من اجرم في العراق من القتلة والسارقين ، ولم يستطع تغيير اولئك الذين زرعهم سلفه في الاجهزة الحيوية .. ويبدو انه يخاف جدا من القوى والمليشيات الخارجة على ارادته ، بل ولم يزل يعمل بمبدأ المحاصصة المقيتة .. انني احذر كل العراقيين من ان العراق يسير اليوم في الطريق نفسه الذي سلكته اليمن ، وسنجد العراق قريبا بأيدي داعش من طرف والمليشيات الايرانية من طرف آخر .. وسيجد البعض نفسه وقد حبس في قفص ستحرقه القوى الجديدة بمن فيه ! وانادي على كل المشاركين في العملية السياسية بأن لا يكونوا شهود زور على تاريخ دموي يكتبه كل من الداعشيين والجلاوزة والمتعصبين وقوى العنف البديل !
بعد مرور اشهر على تسنمه الحكم ، فان كل الاجراءات التي اخذها هي اقل مما يمكن تأمله ، والعراق يزداد انقساما وتشرذما من الناحية الطائفية ، بل وان القوى السياسية الحاكمة اقوى من العبادي ووزارته ، فكيف يمكنه ان يحقق وعوده ؟ وما قدرته على جمع العراقيين باتجاه هدف وطني والبلاد تعيش كارثة تاريخية بانقسامها على ايدي الغرباء ، وهي قوى غريبة ، منها ما سلخ العراق ومنها ما يعبث به ! وما قدرة العبادي على لجم ما تفعله تلك القوى المرتبطة بالخارج ارتباطا مباشرا ؟ انني لا انتقد العبادي بل ارثي له حاله واعتقد بأنه يدرك ما الذي عليها اوضاع البلاد !
ان هناك استراتيجية عراقية جديدة كان من المؤمل تطبيقها في الداخل ومع دول الخارج ، ولكن لم يخطط لها ، فكيف يمكن تنفيذها ؟ ان ابقاء القديم على قدمه مع اجراءات شكلية لا يفيد العراق ابدا وهو يمر بأخطر مرحلة تاريخية .. كنت آمل ان يخرج العبادي عن حزبه ليشكل حزبا جديدا ويفصل علاقته بحزبه الحاكم .. كنت اتمنى عليه ان يخضع بعض المسؤولين العابثين السابقين الى التحقيق واحالتهم الى القضاء لمعرفة الجناة سواء كانوا مدنيين ام عسكريين .. كنا نأمل ان يتغّير العراق تغييرا حقيقيا بتبديل كل العناصر . كنت أتأمل ان يسأل المالكي نفسه من اين اتى بمليارات الدولارات المهربة باسمه او باسم ابنه ؟ وهكذا مع بقية رهطه ؟ وكان السيد جواد الشهيلي عضو لجنة النزاهة البرلمانية سابقا ، قد اتهم العبادي نفسه بمساعدة المالكي على تهريب الاموال الى لندن عام 2013 ؟ فالمطلوب من العبادي تبرئة نفسه بإحالة المالكي الى التحقيق والى القضاء .
كنا نأمل من العبادي ان يكون اكثر حرصا على استعادة ما فقد من العراق ويعمل ليل نهار من اجل ارجاع الموصل الى اهلها .. فان عادت الموصل، عاد كل العراق للعراقيين .. ان بيد العراقيين انفسهم الحل التاريخي ، ذلك ان رجال الحكم في العراق اليوم لو قاموا بفتح صفحة وطنية جديدة بالانفتاح على كلّ العراقيين ، لكسبوا الجولة . ان الحالة سايكلوجية واجتماعية اساسا ، ان نزع عامل الخوف وكسر حاجز القلق المسيطر على الجانبين السني والشيعي، فكل منهما يخشى الطرف الآخر . ان أي بادرة تخضع الجميع للاطمئنان ونزع الخوف من القلوب ، فكل طرف سيستعيد ثقته بالآخر .. ولكن هذا لم يحدث حتى الآن .. مع النفخ الاعلامي الطائفي الذي يؤجج الصراع بين الطرفين ، ومع الخوف من سياسات ايران في العراق ، وخصوصا مع تصريحات خطيرة ادلى بها المسؤولون الايرانيون حول العلاقة العراقية مع ايران .. لا اعتراض ان قدمّت ايران مساعدات للعراق ، ولكن لا يمكن ابدا ان يصبح العراق جزءا من ايران !
لا نريد من السيد العبادي تحقيق المعجزات ، ولكن البلاد تتطلب سياسة جديدة .. سياسة منقطعة العلاقة بكل رموز الخراب والانقسامات والهيمنة والسرقة .. سياسة شجاعة يثق بها كل العراقيين لا سياسة تلبي مطالب الاجندة الانقسامية .. سياسة تنادي بالانسجام لا بالتفكك .. سياسة تجمع العراقيين ولا تفرقهم وهي تلبي ضرورة زرع الثقة بين كل الاطياف العراقية . سياسة توثّق العلاقة والصلة بكل العراقيين .. سياسة تثق بكل العراقيين وخصوصا كل الاطياف من اهالي نينوى الذين عزموا على تحرير الموصل وتزويدهم بالمال والسلاح ..
لقد تأمل المخلصون في ان تضع الحكومة الجديدة برامجها القوية المتضمنة خارطة طريق ليس لبناء العراق من اجل المستقبل والبدء بالخلاص من تركة اسوأ حكومة عرفها العراق بعد الاحتلال عام 2003 .. حكومة بائسة استمرت في حكم البلاد والعباد على مدى ثماني سنوات عجاف بكل ما جنته على يديها من كوارث وانتهاكات وفساد وتبديد للأموال وسرقة الثروات وافلاس الخزينة مع اشعال الاحتدام الطائفي ، وهو الانكى الذي قاد الى الانقسام والتشرذم وخلص الى ضياع البلاد ارضا وشعبا .. مع بقاء المالكي نائبا لرئيس الجمهورية وهو يتمتع بنفوذه مع كل الاشخاص الذين اعتمد عليهم بناء على مبدأ التوافقية والسكوت على كل خطاياه كونه فاز من خلال صندوق انتخابي .. وقد فضحت اساليبه فضلا عن كونه هو نفسه قد لاحق نائب رئيس جمهورية سابق جاء عن طريق الانتخابات واتهمه بأبشع التهم !
ومن المؤسف حقا ان نجد اليوم بعض قيادات حزب الدعوة يلمحون بالمسؤولية الشخصية ذلك العهد وانهم بدأوا اليوم يوجهون انتقاداتهم للدستور ، ولما حل من خراب بالعراق ، ولكن لم نسمع ابدا عن اتخاذ اية اجراءات عملية ليس بمساءلة رموز العهد السابق ، بل لإحالتهم الى المحاكم كمتهمين بالفساد ونهب اموال العراق . يقول علي الاديب وهو من قيادات التحالف الوطني بأن برنامج الحكومة الجديدة تقف امامه عوائق ، منها اختلال الامن الوطني ومنها التوافقات السياسية والخروج بما يسمى بـ " الوثيقة السياسية " ، وكأن هذه التبريرات مخرج لإنقاذ العهد السابق من دون ان يأخذ حقه في القصاص ! فهل ثمة ضرورات ملحّة لاستعادة التاريخ ؟
475 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع