ولاية الموصل والحقوق الكردية بعد الحرب العالمية الأولى/ح17
* الوعود (البريطانية) بإنشاء دولة كردية مستقلة واحدة أو أكثر كان في مبدأ الأمر جدياً والتقارير جدياً والتقارير كلها تقريباً مع المحادثات والمشاورات التي كانت تستبقها - تنبئ بأنهم عقدوا النية على هذا وبدأت المحاولات فعلاً (بمعاهدة سيفر) عام 1921م المجهضة. وبالاهتمام الفجائي البريطاني بوجوب التمسك بولاية الموصل والتشبث بعدم خروجها من يدهم.
إلا أن الوعد للأكراد لم ينجز. وإرهاصات بريطانيا وسياستهم القلقة المتحولة في ميسوبوتاميا دفعت البريطانيين خطوة إثر خطوة إلى التنكر للأماني الكردية في التحرر أي إلى التملص من التبعة والنكث بالوعد. وخلفاؤها العرب بعد استلامهم السلطة في الإدارة لم يكونوا أكثر منها استجابة لتلك الوعود للأكراد. سياسياً - وهو ما وجوب قوله. لم يكن الكرد كأمة مهيئين للإفادة واستغلال الموقف الدولي لما بعد الحرب أو التجاوب معه. كانت هناك صعوبة المواصلات والاتصالات بين أرجاء كردستان المؤدية إلى تفرق المجتمع الكردي، وطبيعة العلاقات بين القبائل الكردية جعلت اتخاذ موقع سياسي موحد مستحيلاً فيما بينها. وعلى العموم كان معظم الشيوخ والأغوات الأكراد في مبدأ الأمر مستعدين للسير مع المحتل البريطاني الجديد طالما إتبع أسلوب الإدارة القديم (العثمانية) الذي تعودوه وصار تقليداً ومستفيدين منها إلا أن الخضوع الكرد للحكم العربي كان لقمة لم تستطع معدة هضمها. كان العرب في العهد العثماني مثل الأكراد أمة مضطهدة تقف على الدرجة الثانية من المواطنة، وهؤلاء الكرد أشقاؤهم الخاضعون الآن لحكومة استنبول يتحدث رجالهم بجرأة حول حكم ذاتي كردي مع رجال الحكم هنا ويناقشون معهم حول مطالبهم المشروعة والقومية.
فرض على الكرد الحكم العربي المباشر في الوقت الذي برزت طبقة جديدة في المجتمع الكردي الطبقة المتعلمة غير القبلية في مدن كردستان وتنامي الشعور القومي الكردي وهبوب رياح التحرر الوطني من الخارج. تلك الطبقة المثقفة التي وقع عليها تاريخياً ونضالياً عبء تعبئة الكرد سياسياً وفكرياً كشعب موحدٍ لا كقبائل وعشائر متفرقة، شاء سوء حظ الأكراد أن بريطانيا، تخلت عن فكرة الاستقلال الكردي وحالت دون استخدام حق المصير في عين الوقت الذي كانت تلك الطبقة المثقفة مستعدة للتعبئة القومية العامة. وفي عين الوقت الذي ثبت البريطانيون والعرب في بغداد طبقة رؤساء العشائر والأغوات وشخصيات كردية (مستفيدة من الوضع) وجعلوها بمثابة وسيط ضماناً لإمرار سياستيهما وتأكيداً لخضوع الكرد لها.
والشعب الكردي إذ ذاك الظروف والواقع الموجود - وحظه دون حظوظ الشعوب الأخرى مثل العرب والأرمن في الجامعة العثمانية - من ضغط للرأي العام تمثله صحافة ووسائل إعلام وأحزاب سياسية جماهيرية. شعب حرم العلم لأن أقل من نصف بالمائة من سكانه فقط نعموا ببركة القراءة والكتابة. بسبب ظروفهم وعزلهم في المناطق الجبلية لعدم وجود الطرق والاتصالات بالعالم الخارجي. ولأن تلك الجمعيات والأحزاب التي لهج بذكرها مؤرخو الكرد ومتحمسوهم. لم تكن في الحقيقة غير مجموعات لا تتجاوز أصابع اليدين عدداً من شخصيات بارزة متنفذة لا تجد لصوتها سمعاً لو شاءت الصراخ في الشارع أو لو أتيح لأفرادها اعتلاء المنابر بسبب عدم توحيدهم وهذا يعود لعزلتهم في المناطق الجبلية الوعرة.
الكتاب الكرد كثيراً يتم تضخيم أدوار هذه التشكيلات التي لم تكن في الواقع إلا منظومات ضيقة جداً لا تمتاز بقاعدة شعبية. لكن تستمد حياتها وتأثيرها من شخصيات مؤسيسها في ظرف ومكان معينين. وفي مطلع العام 1920 ميز المؤرخون في كردستان إلى جانب (النادي الكردي) وخمسة أحزاب أو جمعيات قومية كردية تعمل لتحرير كردستان. وأهمها (العصبة الكردية المركزية) التي أسسها (أمين عالي بيك). والحزب الديمقراطي الكردي وأبرز من فيه (ممدوح سليم بكير). وجمعية (هيفي ـ الأمل) الكردية الطلابية. وجميعة نشر المعارف الشعبية.وحزب الاستقلال الكردي أخيراً وهناك جمعيات وأحزاب لم تعش طويلاً، وقصرت تلك الجمعيات جل اهتمامها على ترجمة الآمال السياسية الكردية بمذكرات وبيانات ولقاءات وانحصر نشاطها في المجتمعات الحضرية وترك المناطق الآهلة بالكرد في الجبال الوعرة وكان نشاطها بل تأثيرها يكاد يكون محدوداً في المجتمعات القبائلية والعشائرية الكردية على مستوى القواعد. إلا أنها نجحت إلى حد ما في تجنيد بعض رؤساء العشائر والأغوات للقضية الكردية وبقية القضية الكردية الكرة التي تتقاذفها أرجل اللاعبين في ملاعب السياسة الدولية لاسيما في مؤتمر (فرساي).
والتحول المتدرج وعدم الثبوت في السياسة البريطانية إزاء قضية التحرر الشعب الكردي ينعكس في التعامل مع حكم الشيخ محمود الحفيد وثانيهما معالجتهم قضية ولاية الموصل (ذات الأكثرية الكردية).
كان هناك غموض وتذبذب دام أكثر من ست سنوات قبل تسوية قضية ولاية الموصل التي حكمت بدورها على مصير الشيخ محمود الحفيد. تزايد هذا الغموض واستفحل بعدة عوامل، منها محاولة الأتراك الإخلال باستقرار جنوب كردستان وقد بدأ فور جلاء القوات التركية عنها واعتماد (خط بروكسل) ـ حدود مؤقتة، ومنها عدم استقرار (الوايت هول) على رأي في استحداث دولة عازلة كردية أو ضم جنوب كردستان إلى الدولة الجديدة واللوم كله يقع على البريطانيين وليس على أحد. رأينا في ما سلف أنهم تسلموا الولاية الموصل من فرنسا وفقاً للصفقة بينهما، إلا أن (الوايت هول) بقي زهاء سنتين حائراً في ما يصنع بها حتى استقر لهم الرأي النهائي في أيلول عام 1920. وسنجق السليمانية الذي بدأ بؤرة الإشعاع القومي الكردي فوراً كان جزء من الولاية الموصل.
وفي نيسان عام 1920 قررت الحكومة البريطانية فجأة - وعندما لم يعد في وسعها التأخير أن تكون ولاية الموصل ضمن الدولة العراقية، بل حتى ذلك التاريخ لم يكن الأمر مؤكداً في أن تكون ضمن النفوذ البريطاني بكيان كردي كما أكد فيه البريطانيين للكرد بأن فكرة حق تقرير المصير ستسير في سبليها دون اعتراض. إلا أنه لم يبدُ من البريطانيين ما يشير إلى كيفية تطبيق هذا المبدأ (حق تقرير المصير الكردي). أفي ظل انتداب بإنفصال كردي عن بقية العراق. أم بضم الكرد إلى العراق مشروطٍ بضمانات للكرد( ).
إلا أن الأمر الجوهري الذي كان يشغل بال السلطة المحتلة (بريطانيا) بعد (هدنة موندرس 30 تشرين الأول عام 1918) هو إستتباب الأمن والنظام وإزالة آثار المجاعة التي إكتسحت كردستان خلال السنتين الأخيرتين من الحرب وإحلال نوع من الثقة الاقتصادية في المنطقة التي شملها القحط، وتحقيقاً لهذه الغاية انتدب (الميجر نوئيل) ليقوم بزيارة تفقد للمنطقة الواقعة بين الزاب الأسفل ونهر ديالى في تشرين الثاني عام 1918 وحددت مهمته بالشكل الآتي:
"... سيكون مهماتك، الاتفاق مع الرؤساء المحليين الأكراد على تدابير لحفظ الأمن في المناطق التي لم يبلغها بعد احتلالها العسكري (البريطاني) ... يجب أن توضح لهؤلاء الزعماء الأكراد بأن التدابير التي ستتخذها إنما هي بداعي الضرورة الحالية وهي معرضة دائماً لإعادة النظر ... إنك كذلك مخول بتعيين الشيخ محمود الحفيد ممثلاً لنا في السليمانية إن وجدت ذلك مناسباً. ولك أن تقوم بتعيينات مماثلة أخرى في جمجمال وحلبجه (مناطق عائدة إلى السليمانية) وغيرها كلما وجدت ذلك مناسباً ... عليك أن تبين لأولئك الرؤساء القبائليين الكرد الذين سترتبط معهم بعلاقات أنه ليس في النية أبداً أن تفرض عليهم إدارة أجنبية غريبة لا تتفق وتقاليدهم أو رغباتهم الكردية. ويجب أن يشجع زعماء القبائل الكردية على تأليف اتحادات (كونفدراليات) لإدارة شؤونهم المحلية تحت نظارة الضباط السياسيين البريطانيين"( ).
على ضوء هذه التعليمات باشر (ميجر نوئيل) عمله بهمة ونشاط غير عاديين، واثبت تعيين (الشيخ محمود الحفيد) في مركز السليمانية حاكمداراً، علماً كان يباشره قبل وصوله. وكان الشيخ قبل وقت قد طلب ببرقية بعث بها إلى بغداد أن تستثنى كردستان من قائمة الشعوب التي تحكم مباشرة من قبل البريطانيين أي استقلال كردستان. ولا ندري أكان طلبه هذا مدفوعاً بنية ترك يده حرة في معالجة الأمور دون تدخل من سلطات الاحتلال البريطاني( ).
كان (ميجر نوئيل) أحب الممثلين البريطانيين وأقربهم إلى قلوب الكرد نظراً لما أتصف به من وعي وإدراك لعدالة قضيتهم القومية الكردية وبقدر ما عمل مخلصاً لأجلها إلا أن التناقض الواضح بين ما أراده هو وما أرادته حكومته (بريطانيا) وما يصبو إليه الكرد جعل مهمته عسيرة بل مستحيلة.
في الشهر التالي قام (آرنولد ولسن) الحاكم المدني العام البريطاني في بغداد بالوكالة بزيارة السليمانية وإلتقى الشيخ محمود الحفيد مع حوالي ستين من زعماء الأكراد جنوب كردستان من بينهم رؤساء كبار من كرد إيران من سنه وسقز وهورامان الإيرانية. واجتمع ملياً بالشيخ محمود الحفيد على إنفراد وبحث معه الأوضاع السياسية وتأكيد من إصراره على مقاومة الأكراد للأتراك. وبعد حديث طويل وجد إجماعاً فعلياً من الزعماء الأكراد بعد قبول عودة الأتراك إلى كردستان والاتفاق العام على الحاجة إلى الحماية البريطانية على أن عدداً منهم كانوا يشكون في حكمة ترك البريطانيين يديرون شؤون كردستان في حين أصر آخرون على وجوب فصل كردستان عن العراق وإدارتها من لندن مباشرة لا من بغداد. واضح أن هؤلاء كانون يمنون أنفسهم باستمرار استمتاعهم بتلك الحرية التي مارسوها خلال الحكم العثماني السابق مستفيدين من المسافة البعيدة بينهم وبين مركز الحكومة في استنبول. واكتشف (آرنولد ولسن) وكيل الحاكم المدني البريطاني في بغداد خلال الزيارة إلى السليمانية وكان ينوي تقليد الشيخ محمود الحفيد الحاكمية العامة على المنطقة. كان الشيخ محمود الحفيد لا يحظى بولاء رؤساء كفري وكركوك، فقد قالوا له إن أهالي مدينتيهم لا يرغبون في أن يمتد حكم الشيخ محمود الحفيد إليهم وأن يتركوا وشأنهم ليتدبروا أمرهم وحدهم مع سلطة الاحتلال البريطاني. إلا أن (آرنولد ولسن) خرج باتفاق مع الزعماء الكرد بخطوط عريضة موقع من أربعين رئيساً كردياً وسلم جوابه للشيخ محمود الحفيد مؤيداً النقاط الرئيسة فيها ومثبتاً سلطة الشيخ محمود الحفيد. ليس بين الوثائق نص لهذه الرسالة الجوابية إلا أن ما ذكره (آرنولد ولسن) عنها وما ورد في تقارير كَيرترود بل (مس بيل) تؤيد أنها البناء الذي رست عليه سلطة الشيخ محمود. وبالمقابل سلم الشيخ محمود تصريحاً بريطانياً جاء فيه:
"أي قبيلة كردية تستوطن الأراضي الممتدة من الزاب الكبير حتى نهر ديالى (باستثناء القبائل الإيرانية) تقبل بإرادتها الحرة حكم الشيخ محمود الحفيد، لا مانع هناك من أن تفعل ذلك. أن الشيخ يحظى بمساندتنا الأدبية في بسط نفوذه على المناطق المذكورة المنضمة نيابة عن الحكومة البريطانية التي تعهد الشيخ محمود الحفيد بإطاعة أوامرها".
وإليك نص الوثيقة التي حملت توقيع الزعماء الأربعين من الأكراد:
"من حيث أن حكومة صاحب الجلالة البريطانية قد أعلنت بأن هدفها من الحرب هو تحرير شعوب الشرق من الحكم التركي الظالم ومد يد المساعدة لهم لبناء استقلالهم فإن رؤساء وممثلي كردستان طلبوا من حكومة صاحب الجلالة البريطانية قبولهم تحت الحماية البريطانية أيضاً. وأن تنشئ صلتهم بالعراق بحيث لا يحرمون من فوائد هذه الشراكة وهم يرجون من الحاكم المدني البريطاني العام لمسوبوتاميا (آرنولد ولسن) أن يرسل إليهم ممثلاً يحمل معه المساعدات الضرورية لإعانة الشعب الكردي تحت الرعاية البريطانية - على إرتقاء سلك التقدم في مضمار المدنية بسلام. فإذا ما عرضت حكومة صاحب الجلالة البريطانية مساندتها وحمايتها فإنهم مقابل ذلك يتعهدون بإطاعة أوامرها والعمل بنصائحها"( ).
يقول (آرنولد ولسن) وكيل الحاكم البريطاني أن الشيخ محمود الحفيد سلم له بنفسه هذه الوثيقة.
ليس في محتوى هاتين الوثيقتين ما يشير إلى مشروع لإقامة حكومة كردية. ولا ما ينم عن أن البريطانيين يملكون فكرة حول إقامة نوع من حكومة أو إدارة كردية خالصة. والوثيقتان معاً في الواقع لا تقوما مقام اتفاق رسمي بين طرفين متساويين في السيادة والسلطة ومهما اعتبرهما الشيخ أو أي مواطن كردي آخر فما من شك في أن البريطانيين كانوا يعتبرونهما مجرد ورقتي عمل عموميتي الطابع ليس فيها أي التزام بل هما عرضة للتأويل وذات طابع مؤقت مجرد اتفاق أبرم مع زعيم محلي عظيم الحول بهدف معين مرهون بفترة قصيرة. يلاحظ أيضاً أن الوثيقتين خاليتان من تحديد معين مانع للجهالة - للسلطة التي تمتد إليها يد الشيخ أو تحتويها. كما يلاحظ في الوثيقة التي ذيلت بأربعين توقيعاً لرؤساء عشائر كردية وبضمنهم توقيع الشيخ محمود الحفيد، أن أصحابها أضافوا على أنفسهم صفة تمثيل الشعب الكردي في كردستان وأنهم إنما يتكلمون باسمه مما يستنتج بأن سلطة الشيخ محمود الحفيد مستمدة من الشعب الكردي لا من بريطانيا وأنه في الواقع يرى نفسه كذلك. ولهذا وجب أن تمتد سلطته هذه إلى كل كرد ولاية الموصل فلا تكون قاصرة على الحدود التي رسمها له البريطانيون. إلا أن البريطانيين كانوا يرون عكس ذلك وأبوا بإصرار أن يقرروا للشيخ محمود الحفيد بهذا الإدعاء، بل لم يكتف الحاكم المدني البريطاني (آرنولد ولسن) بتجاهل الإدعاء، وإنما تقصد فعلاً الإشارة بأن سلطة الشيخ محمود الحفيد مستمدة من الحكومة البريطانية ليس إلا وبصراحة مؤلمة: أن الشيخ لا يتمتع بمساندة البريطانيين إلا بمواصلته تنفيذ أوامرهم بوصفه وكيلاً لهم.
بحثت أمور أخرى أثناء اللقاء وذكر أن الشيخ طلب أن تُناط مسؤوليات الدوائر كلها بضباط بريطانيين على أن يعاونهم موظفون أكراد في الإدارات الثانوية، وليس عرباً وأن تُناط بهم أيضاً مسؤولية قيادة القوات المجندة الكردية محلياً.
والظاهر من كل هذا أن البريطانيين وقبل هذا اللقاء كانوا قد توصلوا إلى صعوبة إقامة "كردستان جنوبية موحدة" ربما بسبب الحالة البدائية التي يعيشها مواطنوها الكرد، النزاعات القبلية بين الأكراد وفقدان وسائل المواصلات والاتصالات وشحة في المتعلمين المثقفين لإشغال الوظائف. وتكشف التقارير أن الإدارة البريطانية راحت لفترة من الزمن تداعب فكرة خلق شبكة من دويلات (إمارات؟) أو مناطق إدارية بحسب الانتساب العشائري ووفق الحاجات الاقتصادية للمناطق كلاً على حدة تمهيداً لضم بعضها إلى بعض بعد حين من الزمن ليعمل منها وحدة سياسية في وقت تالٍ (دولة كردية أو حكم ذاتي كردي).
وفي السليمانية التي باتت فجأة بؤرة الإشعاع القومي الوطني الكردية بالصحافة الناشئة بعد هدنة (موندروس) عام 1918م وبقدوم عدد كبير من الموظفين العثمانيين الكرد المسرحين ومثلهم من الضباط الذين التفوا حول الشيخ محمود وسلموا بقيادته ـ بدت الإجراءات البريطانية بعيدة كل البعد عن التصريحات الدولية بشأن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها ومنها الشعب الكردي. وإزالة العقبات أمام نضالها في سبيل الاستقلال. واهتزت الثقة عموماً بقيمة هذه التدابير التمهيدية التي نمت على إصرارٍ بريطاني في القبض على ناحية الأمور في كردستان. كما كانت هناك التجربة الأليمة في صدق الوعود البريطانية أثناء الحرب عندما أقدم الجيش البريطاني على الانسحاب من كردستان مؤقتاً وعرضوا المتعاونين الكرد معهم إلى الانتقام التركي( ). بدا لهم إخلاء الجنود البريطانيين في عام 1919 من ميسوبوتاميا شيئاً شبيهاً بما حصل في أيام عام 1918.
في بريطانيا كانت هناك ضجة كبرى حول تواجد الفرق العديدة من الجنود في العراق. وواجهت حكومة (لويد جورج) البريطانية حملة عنيفة تساندها الصحافة الإنكليزية حول النفقات. والأموال الطائلة التي تصرف على جيش الاحتلال اللجب لتقع كلها على عاتق دافع الضريبة البريطاني. فضلاً عن الضرورة التي تقضي بتسريح الجيوش بعد ختام الحرب وكان من أثر ذلك أن أخذت القوات تجلو تباعاً ورتب بدل ذلك أن يكون للقوة الجوية البريطانية الحضور العسكري الرئيس في العراق بدلاً من القوات الأرضية. وتوهم القوم بأن الحكومة البريطانية ستخلي الجو للحكام العرب إن لم يكن لإعادة ولاية الموصل إلى الأتراك.
يقول (آرنولد ولسن) الحاكم المدني العام البريطاني في بغداد بالوكالة:
"ما من شك أن الكرد يحفظون علينا. فقد وضعناهم مرة أخرى في حيرة وأسلمناهم فريسة للشكوك والظنون، فقد بدأ لهم أن التأكيدات التي أعطيت بسخاء من قبل ضباط البريطانيين لا يشعرون بالمسؤولية ليست أهلاً للاعتماد. شجعناهم على أعدائهم الترك ثم تركناهم في العراء ... زعماء (الهماوند) بنوع خاص لم يغفروا لنا وظلوا يناصبوننا العداء سنوات طويلة بعدها. قالوا ها هم بعد أن فتحوا ميسوبوتاميا بادروا إلى إعادة جنودهم إلى بلادهم في عام 1919 ... تجار ومسافرون عائدون إلى السليمانية من البصرة وبغداد، كانوا يتحدثون عن أفواج من الجنود البريطانيون يرحلون يومياً بالسفن والقطارات ويخامر رؤوس الكثيرين منهم الشك في أننا سننسحب من كردستان ونترك سكانها إلى مصيرهم أو إلى دسائس الأدعياء بالسلطة وقد رسخت هذه الفكرة في النفوس وأصبحت حقيقة لأمراء فيها.
هناك سبب آخر للشك والتوتر. تلك مسالة اللاجئين الآثوريين الذي جاؤا من (حكاري وأورمية) والذين طردهم كرد برادوست من منطقة العمادية أثناء الحرب. ففي ربيع العام 1919 ألفت السلطات البريطانية من هؤلاء الذين ضمهم (معسكر بعقوبة) فوجين من (الليفي) صارت تستخدمهما في إجراء عمليات تأديبية وتمشيط بعض المناطق بغية توطين اللاجئين اللاثوريين فيها. وأثار مخاوف الكرد حديث الحلفاء بحماسة وجدية حول منح المسحيين (الآثوريين) حق تقرير المصير. والحديث حول إنزال العقاب بأولئك الذين أقدموا على جرائم حرب من القبائل الكردية التي تعاونت مع الترك في مذابح الأرمن. لم تحاول الإدارة البريطانية حتى أيار عام 1919 تبديد تلك الشائعات إلا عندما تبين لها أن الوضع يهدد بانفجار وربما بثورة خطيرة ضدهم. وعندها أصدرت الإدارة البريطانية بياناً تنفي تلك الشائعات مؤكدة بأنها لن تحاسب الكرد المتهمين بذلك.
(الميجر نوئيل) E. W. C. Noel ضابط ذو خبرة نادرة وإرادة حديدية وحيوية لا تضارع. لم يضيع وقتاً بل قام بجولة واسعة حملته إلى (راوندوز وحلبجه ورانيه وكويسنجق)، ونصب ضباطاً سياسيين في تلك القصبات وأودع زعماء القبائل الكردية فيها مهمة حكم قبائلهم على أن يكونوا مسئولين أمام السلطات البريطانية عن طريق الشيخ محمود الحفيد. بعضهم بوصفهم موظفين (مدراء نواحي) و(قائمقامين) وبعضهم بمنحهم مخصصات مقطوعة بحكم رئاستهم العشائرية. وبعضهم بشراء سكينتهم (ذممهم) ومحافظتهم على الأمن ضمن مناطقهم الكردية العشائرية بمنح وهبات نقدية جرياً على سياسة تم إتباعها مع قبائل (البلوج والبشتون) في أفغانستان هذا الأسلوب في الحكم يمت بصلة كبيرة إلى تجارب الحكم البريطاني في (الهند) و(شراء الذمم)، وفي بلاد أخرى تخضع للنفوذ البريطاني. فقد بدت طبيعة الواجبات والتعهدات التي ربطت كونفدرالية جنوب كردستان، سواء تلك التي كانت ضمن نفوذ الشيخ محمود أو خارجها. أشبه بعلاقة "السيادة والاعتماد" التي وجدت بين (الإمارات الهندية) شبه المستقلة محلياً المعروفة "بدويلات المعاهدة: Treaty Sttates" أي مبدأ الحكم غير المباشر المنسوب إلى (لوكارد Lugard) الذي طبق في نيجيريا بعد تطبيقه في الهند وقد خرج منه ذلك النظام الذي عُرف في تاريخ الاستعمار البريطاني بنظام (ساندمان بروس Sandemon – Bruce ) أو (النظام الماليكي Maliki).
سمي نظام (ساندمان) نسبة إلى واضعه (السير روبرت ساندمان) أحد رجال الاستعمار البريطاني في (الهند) ومنفذي سياسة "إلى الأمام The Forward Policy" التي كانت تعمل على إدخال المنطقة الجبلية الموحشة شمال الهند المعروفة بـ (بلوجستان) ضمن الإمبراطورية الهندية. والغرض المزدوج من هذه السياسة هو من جهة الحماية سكان الحدود في السند من غارات الجبليين العتاة الذين يجدون الحصانة دائماً في معاقلهم الجبلية الوعرة. ومن جهة أخرى لتقوية أسباب الدفاع عن الهند من غزو محتمل. ويقضي (نظام ساندمان) الذي كان يهدف إلى مد السيادة البريطانية وبسطها على (بلوجستان) بإسداء العون المالي للنظام العشائري (الأفغاني) هناك بشخص رئيسه الأعلى، فهو والحالة هذه يعتمد على شخصٍ واحدٍ كما أنه غير مضمون الولاء بغير دفع مخصصات أو مساعدات مالية وكان أشبه بعقد مفاوضة يمكن أن يستغله المستفيد بالانتقال من جانب إلى آخر والعصيان والتمرد والامتناع عن القيام بخدمة ما. كحراسة قافلة أو طريق تجاري. أو تأمين شعب أو خانق جبلي أو تطبيق قرارٍ لمجلس القبيلة (جركه Jirca) حالف الفشل هذا النظام عندما أقدم (بروس) صديق ساندمان وشريكه على تجربته في قبائل (المحسود) وهي أكثر (ديمقراطية) من غيرها، ويُطلق عليه اسم (مليك) لا يملكون من السلطة التي يملكها مثلاً زعماء آخرون في (بلوجستان) لقبائل (البروهوي) (والبلوجي) وكان (بروس) يأمل أن ينجح (المليك) منهم في السيطرة على قبيلته نظير المخصصات المدفوعة ففشل. وهناك سبب آخر هو أنه طبق نظام هذا قبل أن يتسنى له السيطرة على مواقع (المحسود) عسكرياً طبق ما فعله رفيقه (ساندمان) في (بلوجستان). ثم إن قبائل (المحسود) بعكس (البلوجي) كانوا دوماً يخضعون لسلطة الزعماء الدينيين المرهوبي الجانب، وهم الذين يأمرونهم بحمل السلاح ضد البريطانيين تعاطفاً مع الأفغان إخوانهم في المذهب.
هناك مشابهة بين هذه القبائل وبين القبائل الكردية فالكرد كـ(المحسود) تعشقوا حريتهم وتمسكوا بها ونازعوا من حاول إخضاعهم لإرادته. وهم مثلهم كذلك يحترمون رؤساءهم الروحانيين، حتى قبل احتلالهم مقام زعماء القبائل التقليديين والأغوات في القرن التاسع عشر( ).
وفي كردستان العراق التي سيطر عليها البريطانيون كذلك وقتذاك دعاية تركية دينية قوية وذكية وحاذقة حولت قطاعات من الشعب الكردي إلى الخندق المعادي للبريطانيين وهذه دولة إسلامية تستعديهم على البريطانيين بتحريض من رجال دين يجلون قدرهم ويحترمون رأيهم.
ومن المفارقات الطريفة أن نذكر هنا أن (بروس) الذي نشر كتابه قبل عشرين عاماً من الاحتلال البريطاني لجنوب كردستان،كان قد قرأ ما دونه (اللورد كرزون) (وزير خارجية بريطانيا الأسبق) من دفاعي عن الكرد وشجبه تهمة القسوة وطبيعة التمرد فيهم وعدم أهليتهم للثقة تلك التي يلصقها بهم أعداؤهم (أعداء الكرد) ومبغضوهم الشوفينيون في كتاب (فارس والقضية الفارسية Persia and the Persian Question) فبعد أن إقتبس (بروس) دفاع (اللورد كرزون) علق: "لو أننا أبدلنا اسم (المحسود وزيري) باسم الكرد فإن شرحنا سيكون منطبقاً عليهم تماماً"( ).
إلا أنه كان مخطئاً هنا. فإن الانحلال السريع لهذا النظام القبلي والعشائري في كردستان الذي طبق في إدارة جنوب كردستان وانهياره في النهاية كان دليلاً على استحالة تطبيقه في كردستان. قد يجادل في إمكانية نجاحه لو وجد للبريطانيين قوة عسكرية مرابطة لغرض فرضه أو لو استمر الشيخ محمود الحفيد في التعاون معهم. والبريطانيون إنما حاولوا تطبيق هذا النظام بديلاً عن اضطرارهم إلى وضع قوات عسكرية بريطانية دائمية، بإقامتهم حكماً محلياً على رأسه زعيم ذو صفة دينية كانوا يريدون بهذا التدبير اقتصاداً في النفقات وتقليلاً في عدد الحاميات البريطانية وقد بدأوا يسرحون جنودهم، بل أن تعاونهم مع الشيخ محمود الحفيد كان يعني بحد ذاته فشل النظام. فمجرد الاعتماد على شخص واحد معناه أن النظام الذي أرادوا تطبيقه ومتابعة له من النجاح. ترى كم كان هذا يتعارض مع النية في إقامة حكم مدني عصري في كردستان المستقلة أو الأتونومية؟ وهو ما كان (ميجر نوئيل) يعمل له بنية خالصة ودأب دون أن يرى بعد الشقة بين هذا الهدف وبين النظام الذي طلب منه تطبيقه على كردستان من قبل القيادة البريطانية.
في 18 من تشرين الثاني عام 1918. وصل الرائد (ميجر نوئيل) إلى مدينة السليمانية ولم يكن معه غير فراشه. وفي اليوم التالي كان له اجتماع حافل أمام سراي الحكومة في السليمانية ضم آلافاً من سكان المدينة وجماعات من عشائر البرزنجية والجاف والهماوند والبشدر والسادات البير خضرية والمنكور وآكو وبلباس وجباري وزنكنه والطالباني وداوده وغيرها.
إرتقى كرسياً وقال بالفارسية:
"باسم الحكومة البريطانية والحاكم المدني البريطاني العام في العراق أتحدث إليكم أنتم الآن أحرار تحررتم من الأسر العثماني والشيخ محمود الحفيد هو حكمدار كردستان. وأنا أزف إليكم هذه البشارة باسم الحاكم المدني العام البريطاني( )".
قام (ميجر نوئيل) بجولة في أربيل ورواندوز بقصد إقناع قبائل كردية في تلك الأنحاء بالانضمام إلى كونفدرالية جنوب كردستان بزعامة الشيخ محمود الحفيد. وكان النجاح حليفه مبدئياً فقد تبين له أن أهالي تلك المناطق وقبائلها كانوا على استعداد للقبول بحكم الشيخ محمود الحفيد طالما يبشر بالهدوء والرخاء ويحكم الدعم المالي البريطاني له.
واتخذ (ميجر نوئيل) خطوات فورية في عمليات الإغاثة لتلك الأنحاء التي دمرتها الحرب العالمية الأولى خلال الهجوم الروسي والهجوم التركي المعاكس في منطقة كردستان، فنقلت كميات كبيرة من الحبوب والمواد التموينية الأخرى من أربيل ومنحت سلفٌ زراعية للفلاحيين.
لم يكن الشيخ محمود الحفيد محبوباً من الجميع فله خصوم وحاسدون ومنافسون أقوياء ليس في كردستان عموماً بل في مدينة السليمانية نفسها. قبائل الجاف والباجلان مثلاً كانت تناصبه العداء بسبب التنافس والأنانية وحب الذات والاستفادة الشخصية بعيداً عن الشعور القومي الكردي. ومن بين شيوخ الطرائق ورجال الدين البارزانيين كان ثم شيوخ الطالبانية في كركوك وهم قادريون (الطريقة القادرية) مثله. وشيوخ النقشبندية في بيارة وتويلة. وما من شك في أن الشيخ محمود الحفيد لم يكن ملاكاً أو نبياً. وليس من المتوقع منه أن تكون نظرته إلى الأمور بالعين التي ينظر بها مشاوروه البريطانيون لاسيما تلك التي تتعلق بشخصه وبامتيازات سلطته. فهو ابن بيئته وربيب مجتمعه الذي خضع قروناً عديدة لنمط من الحكومات والحكام والإدارات التي كانت أشبه شيء بما ساد بلاد الغرب قبل أربعة قرون. واتسمت محاولات الإدارة البريطانية في قيادة الشيخ محمود الحفيد إلى واقعية القرن العشرين بطابع العجلة الشديدة القريبة من التهور. افتقرت إلى الصبر والأناة. هو يريد بل يرى من حقه وحق المنصب الذي يشغله أن يمارس سلطة (هنري الثامن) و(لويس الرابع عشر) كاملة غير منقوصة ولا يجد باساً بل يرى من الحكمة أن يفيد من المخصصات والأرصدة المالية التي وضعت تحت تصرفه لشراء ولاء زعماء العشائر الكردية وإغراقهم بالامتيازات، كما كان من حقه بل ومن حسن السياسة. أن يملأ مختلف الوظائف والمراكز الإدارية بأقربائه وأشياعه وأتباعه وأن يبعد بدقة كل من لا يعده من أتباعه المخلصين أو الموالين له. وذكر أنه - جرياً على عادة السلاطين والأمراء العثمانيين - فرض على أفراد القوات المجندة الكردية تأدية يمين الولاء له. وعين مجلس وزراء وهو تناقض لم يغب عن فكر (ميجر سون) الحاد.
يذكر (ميجر سون) الذي خلف (ميجر نوئيل) - متذمراً:
"كذلك الولاء للشيخ محمود بوصفه (حكمداراً) لدولة. كان من عقابيله وتنصيبهُ والفضل لأموال حكومة صاحب الجلالة البريطانية - أنها زادت من شعبيته في الوقت الذي صارت سبيلاً للرفاء والرخاء ... وجاءت على أثر الولاء المخصصات ... بشكل مبالغ مالية. مشهد نادر في تلك الأيام ... بذلك النظام الذي يمكن رئيس العشيرة من تقدير ممتلكاته وممتلكات عشيرته بغياب عين موظف الحكومة النافذة"( ).
إلا أن كير ترود بل (مس بيل) لا ترى وجهاً لانتقاد ذلك "النظام" الذي نوه به (ميجر سون) وعندها لم يكن مصدر قلقٍ أو تذمر لأنها كانت ترى الشيخ محمود الحفيد شخصية لا يمكن الاستغناء عنها في تلك المرحلة من الزمن على الأقل:
"وبدون قدرٍ كامل من التعاون والتعاضد، وهو ما أمنه (تقصد الشيخ محمود الحفيد) لنا. كان من الضروري أن نأتي بحامية بريطانية كبيرة، وهو من قبيل المستحيل في ذلك الحين. ومن وجهة النظر السياسية (البريطانية) بدأ من الأهمية بمكان أن نعمل على استتباب الأمن والنظام في المنطقة الكردية وأن نتجنب في ذلك الحين مظهر استخدام القوة لهذا الغرض( ).
والواقع هو أن الشيخ محمود الحفيد كان يدرك أهميته للبريطانيين.
وكردستان بعد الأهوال التي مرت بها خلال سنوات الحرب (العالمية الأولى) كانت تتوق إلى الاستقرار ... فرضيت بحكم الشيخ وتم قمع المعارضة بالأساليب التي خبرها هو نفسه.
كان نظام الولاء القبلي على (الأسلوب الساندماني) الذي طبقه ميجر نوئيل في جنوب كردستان. موضع انتقاد خلفه (ميجر سون) الشديد. وعمل جاهداً لإزالة آثاره خلال فترة وجود ليصطدم بالشيخ محمود الحفيد.
كتب (ميجر سون) في فصل عنوانه (ملاحظات حول النظام القبائلي الكردي في الإدارة) مركزاً على الجانب الضار السيء العقبى من النظام الجديد شارحاً شروره نقطة فنقطة. وعرض بالأول النية والتوقعات للجهتين الرئيستين فيه ولم يترك مجالاً للشك في أن كلاً من البريطانيين الذين فرضوه ودعموه. والشيخ محمود الأداة التي اختاروها لتطبيقه، كانت لديها أهداف متناقضة. فقال:
"نظام الإدارة، يمكن أن يقال عنه أنه نظام قبائلي تم تبنيه. وأن الضابط السياسي المسؤول السابق (ميجر نوئيل) اعتبره أفضل ما يمكن استخدامه لتحقيق الطموحات القومية والمحافظة في عين الوقت على الطابع الأصيل لخصائص كردستان واعتبره الشيخ محمود من جانبه شيئاً جيداً، بتثبيت نظام قبائلي أصيل يمكن بفضله وعن سبيله إرشاء أو تهديد الزعماء بسهولة. كما يمكنه بأسرع من هذا من البلوغ إلى السلطة المطلقة وتركيزها في ذاته وهو الهدف الذي يسعى إليه. إن نظام الحكم المباشر بموظفين بريطانيين يميل بطبيعة الحال إلى تفكيك القبائل الكردية وخلق مجتمع ديمقراطي فعال متجانس. وهو لا يتفق قط وذوقه. وبما أنه كان (يقصد الشيخ محمود الحفيد) المشاور الرئيس للضابط السياسي البريطاني (ميجر سون) فهو بهذه الحال يشجع عملية بعث في النظام القبائلي ... المحتضر"( ).
فإحياء هذا النظام في نظر (ميجر سون) هو حركة رجعية في كردستان الجنوبية وبمجتمعاتها الحضرية التي راح أكثرها يتلمس خطأه الثابتة خارج الإطار القبائلي بما سادها من ازدهار وسلام وطمأنينة نسبة إلى ما كانت عليه قبل الحرب (العالمية الأولى). والآن هو ذا الضابط السياسي (البريطاني ميجر سون) الذي قبل بوجهة نظر الشيخ محمود يكرس مجهوداته لإعادة تلك المجتمعات إلى إطارها القبائلي. بمعنى أن كل من يمكن أن يطلق عليه صفة (عشائري) يجب أن يوضع تحت سيطرة رئيس عشيرة. أفتكون الفكرة العامة المبطنة هي تجزئة كردستان الجنوب إلى مناطق عشائرية يحكمها زعماء قبائليون؟
يذكر (ميجر سون) عن أفراد قبائل كردية إنحلت وإنفرط عقدها منذ زمن وأقامت في منطقة كفري ذات المناخ القائظ . طلب منهم أن يعودوا ليوحدوا أنفسهم قبائلياً وبأن يتذكروا بأنهم كانوا فيما مضي قبائليين. ثم وجد لهم زعماء. ووجب أن يدفع لهم مخصصات بحسب تقدير هذا الزعيم المستجد.
زعيم القبيلة الذي أنيط به تطبيق القانون يجب أن يتعرف بالشيخ محمود الحفيد حكمداراً (طاغية رحيم) لكردستان وعلى الحكمدار أن يدفع له بمقابل ذلك الاعتراف. إنه نموذج قبائلي للتعامل لا أبدع منه. لكنه قتال للمدنية، والتجارة، والاقتصاد والتقدم. بل وكل مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية العصرية. بل قد يكون في أحيان كثيرة عاملاً من عوامل الإخلال بالسكينة والراحة العامة.
وتكشف الوقائع التي سجلها (ميجر سون) في السليمانية عن نضال عنيد ضد النتائج الطبيعية لهذا النظام الكردي بقيادة الشيخ محمود الحفيد (العشائري) ما عليه إلا أن يرمي بنفسه تحت أقدام زعيمه المحلي فينجد مجرم رفيع المكانة يقبل على يدّ الشيخ مسترحماً عفواً فيخرج بتكريم أي جرم بالغ ما بلغت خطورته هو قابل للغفران بفضل الخضوع المطلق للشيخ محمود الذي يبادر بترتيب الأمر فوراً مع شيخ العشيرة المسؤول رسمياً عن المجرم.
النظام القبائلي نظام مثالي نظرياً. وكمثل العديد من الأنظمة المثالية تجده يتحكم ويهوي ركاماً عندما لا تقيم طبيعة بشرية دنيوية وزناً كبيراً للنزاهة. ومن تأثيراته أنه يمنح الفوضوية والتحكم الفوضوي حرية أوسع ومجالاً أرحب، ويمنح الشعب والجماهير فرصة أقل للتغلب على استقلالية الطغاة الصغار. بمختصر القول إن النظام يربي طغاة ومستكبرين ويوهن عزائم العناصر الديمقراطية الخيرة.
هناك ضابط سياسي لامع آخر يتفق نظره ووجهة نظر (ميجر سون) هو النقيب( ) ثم العميد (ستيفن لونكريك) الذي كان يشغل وظيفة معاون الضابط السياسي في كركوك. ذكر في تقرير له مؤرخ في 29 تشرين الثاني عام 1919 قوله:
"مع قبول عدد كبير من عشائر الكرد بهذا النظام. إلا أنه تعرض لنقمة وسخط أولئك الذين لم يجدوا فيه ما يخدم مصالحهم الشخصية والاستفادة الذاتية وقد بلغت النقمة أحياناً أن بعضهم صار يتمنى عودة عهد الأفندية (الموظفين والأتراك)".
وأعرب عن خشيته من انحسار القناع عنه فإذا به مساوٍ لحكم الترك في مجال القسوة والاضطهاد، ويختم تقريره بالقول إن النظام يضحي بالديمقراطية على مذبح القومية. وقد يكون:
"سهلاً في مختلف الظروف والأحوال - إن لم يكن مستحباً - أن تصم أذنيك عن سماع صرخات صغيرة قد تكون مشروعة - ضد أولئك الذي وضعناهم في مركز المسؤولية من الأكراد".
على أنه عاد في تقرير ثانٍ ليذكر بعض منافع النظام العشائري فقال إنه يُنمي المشاعر القومية عند الكرد وينقذ القبائليين من تحكم الموظفين الفاسدين الأشِرار ويقلص عدد المجرمين ومطلوبي العدالة والحرية إلى واحد فقط! (يقصد رئيس العشيرة)!.
هناك رأي آخر يدعو إلى الاهتمام - لضابطٍ سياسي بريطاني آخر كان أول عهده بالنظام أيام مزاولته منصبه معاوناً للضابط السياسي في كفري هـو (الكابتن جاردين) R. S. Jardine الذي قدر له أن يكون الممثل البريطاني في أثناء النزاع على ولاية الموصل. قال:
"النظام القبائلي في القضاء (كفري) هو في حالة تحلل. وهي عملية عجلت بها سياسة الترك الاتحادية (في الحرية والمساواة) مختار القرية لا يعترف بمسؤول آخر غير الضابط السياسي رئيساً ويبدو هذا سهلاً مستطاباً في حالة جباية الضرائب. إلا أنه يجعل من سيادة القانون وبسط العدالة أصعب بكثير مما في الأماكن التي ما زالت تطبق النظام القبائلي بشكله البدائي في أجزاء عدة من القضاء آلت إلى النظام القبائلي مسؤولية المحافظة على القانون والنظام والأمن. إلا أن كل المحاولات لاستخدامه في جباية الضرائب كانت تؤول إلى تأخير فظيع أو إلى إساءة معاملة للفلاح لا تحتمل مع هذا فالنظام (جدير) بالتجربة".
فعلاً كان لجوء البريطانيين إليه مؤقتاً. وبسبب اقتصادهم في القوات العسكرية بالدرجة الأولى( ).
الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة
http://www.algardenia.com/maqalat/15436-2015-03-11-19-14-45.html
418 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع