نواف شاذل طاقة
كان استاذ مادة تاريخ العلاقات اليابانية المقررة علينا في برنامج الماجستير في الجامعة التي درست فيها في طوكيو قد طلب منّا، نحن الطلبة، أن نشارك في نقاش زميل لنا كُلف بتقديم عرض عن حقبة الاحتلال اليابانية لشبه الجزيرة الكورية في مطلع القرن العشرين.
كان الطالب المذكور نقيبا في الجيش الكوري الجنوبي قد تفرغ لدراسة العلاقات الدولية وشارك معنا في إطار برنامج تبادل ثقافي بين الجامعات اليابانية والكورية الجنوبية. أما استاذنا فقد كان أكاديميا أمريكيا يدعى البروفسور كندي. جرت العادة أن يقدم طالب الماجستير المكلف بعرض الموضوع ايجازه خلال المحاضرة ومن ثم يتعين على الطلبة أن يستمعوا إليه ثم يقوموا بعد ذلك باختيار أحد المحاور التي تضمنها العرض لإلقاء مزيد من الضوء عليه. كمستمعين، وكان عددنا ستة طلاب، كنا نجهد من أجل العثور على زاوية مناسبة من مواضيع زملائنا لكي ننطلق منها في مداخلاتنا؛ والهدف، في أغلب الأحيان، هو أن نبرهن لاستاذنا اطلاعنا على مادة البحث ومن ثم تأكيد مشاركتنا في النقاش وهما مسألتان تسهمان في تقييم الطالب في نهاية الفصل الدراسي. قدم زميلنا الكوري عرضا بلغة انكليزية متواضعة وبلكنة كورية لم نتمكن من فهم معظم ما قاله. وعلى أية حال، فقد كان صاحبنا طالبا زائرا لفصل دراسي واحد في إطار برنامج تبادل ثقافي بين دولتين، وعليه لم يكن مطالبا باجادة اللغة الانكليزية على النحو الذي كان بقية الطلبة مطالبين به. لقد تحدث زميلنا الكوري بشكل عام عن وحشية الاحتلال الياباني لبلاده وروى الفظائع التي ارتكبت بحق الشعب الكوري والتي ما فتئت بعض تبعاتها موضع أخذ ورد بين اليابانيين والكوريين حتى يومنا هذا. بيدّ أني استطعت أن افهم من سياق عرضه بأن اليابانيين كانوا أول من أدخلوا أبراج الضغط العالي الكهربائية وأجهزة الراديو الترانزستور إلى كوريا أبان احتلالهم لها. ولمن لم يطلع على تاريخ تلك المنطقة، فقد احتلت اليابان شبه الجزيرة الكورية سنة 1904 ثم ضمتها سنة 1910 ولم تخرج منها إلاّ بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وسقوط اليابان نفسها تحت الاحتلال الأمريكي سنة 1945. بعد انتهاء العرض بدأ الطلبة بالتعليق حتى حان دوري في الكلام ولم يكن بالحقيقة لديّ ما أضيفه سوى ما كان قد اثار انتباهي في حديث زميلنا الكوري عن أبراج الضغط العالي فقلت في ملاحظة ساخرة بأن اليابانيين قدموا للكوريين تلك الابراج أبان فترة الاحتلال غير أن بلادي، العراق، وقعت تحت احتلال بريطاني مشابه مطلع القرن ولم تنل من البريطانيين أي خير يذكر. والحقيقة، فقد كان القصد من ملاحظتي بالدرجة الرئيسية، كما يفعل بعض الطلبة، أن ابرهن للبروفسور كندي بأني كنت انصت جيدا للعرض وبأني شاركت في النقاش، طمعا بدرجة مناسبة في نهاية الفصل تعينني على النجاح، فضلا عن حقيقة أني تحدثت عن انطباع أظن أن الكثير من العراقيين يشعرون به. ولا أنكر بأني شعرت بارتياح كبير عندما ادركت بأن زميلنا الكوري لم يفهم شيئا مما قلته حيث مضت ملاحظتي دون تعليق يذكر فوفر عليّ عبء مواصلة نقاش لم أشعر بأي متعة بمواصلته. بعد انتهاء المحاضرة وبينما كنت أهمُّ بالمغادرة طلب مني البروفسور كندي أن أبقى معه بعض الوقت. فاجأني بالقول بأني كنت محظوظا لأن زميلي الكوري لا يجيد الانكليزية ولم يفهم كل ما قلت. قلت له باستغراب: ولكني لم أسئ إليه. قال إن مجرد تلميحك بأن الكولونيالية يمكن أن تأتي بالخير على الشعوب هو إهانة بحد ذاتها. أدركت تماما ما يرمي إليه البروفسور كندي، لكنه اعتقد بأني لم أفهم مغزى كلامه فطلب مني أن أقرأ بعض الكتب عن الموضوع، من بينها كتاب (الاستشراق) للاستاذ ادوارد سعيد، على أن نعود للنقاش بشكل أعمق في مناسبات لاحقة. كما أسلفت، لم يكن من الصعب إدراك ما كان يرمي إليه استاذنا من الناحية النظرية، بيدّ أني، وبكل صراحة، ظننت أنه بالغ بعض الشيء بردة فعله. لم أكن قد قرأت "الاستشراق" من قبل، فسارعت إلى اقتنائه ووجدته من أروع الكتب التي تسلط الضوء على العقلية الكولونيالية وأدواتها في التحكم بالشعوب، لكن الكتاب بقي في حينه مجرد كتاب فلسفي شيق. حدث ذلك سنة 1989، ولم يكن قد خطر في ذهني إطلاقا بأن العراق سيقع يوما من الأيام تحت احتلال دولة اجنبية ويمر بحقبة استعمارية أخرى ويصبح نموذجا يمكن أن تنطبق عليه بعض الافكار التي أوحى بها استاذي أو أن يتحول إلى مادة بحث أكاديمي ينطبق عليها ما جاء في كتاب "الاستشراق". ولدى مشاهدتي دبابتين أمريكيتين تقفان على مدخل جسر الجمهورية في بغداد في مثل هذه الايام من عام 2003، عادت إلى ذهني كلمات البروفسور كندي عن الاستعمار والكولونيالية وما تحمله تجربة الوقوع تحت الاحتلال من إهانة وإذلال، وأدركت حينئذ بأن استاذنا لم يبالغ بردة فعله. منذ ذلك التاريخ راح الحزن يعتصرني كلما رأيت عراقيا يمد يده لقوات الاحتلال أو يركن إليها أو يعتقد أن ثمة خيرا يرتجى من محتل أجنبي. وحينما قرأت في الصحافة الغربية نبأ عزم الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش على سحب قواته من العراق وقوله انه سيترك الأمور بيد العراقيين لأن نوري المالكي أصبح قادرا على قيادة الدراجة الهوائية بمفرده، وأنه بات الآن بالامكان إزالة العجلات الخلفية الاضافية التي عادة ما تخصص لمساعدة الاطفال على قيادة الدراجات الهوائية، تذكرت البروفسور كندي وازداد احساسي بعمق الاهانة وفداحتها..!!
971 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع