د. محمد عياش الكبيسي
الفراغ الذي نعيشه اليوم كان نتيجة طبيعية لحركة التاريخ التي عصفت بالوحدة الإسلامية ورمزيتها السياسية المتمثلة بالخلافة، فانقلبت الوحدة إلى حالة من التجزئة المتشعبة قوميا وقُطريا وطائفيا،
ولم تكن سايكس بيكو سوى المظهر السياسي لهذه التجزئة بعد أن وصلت إلى الأسس الثقافية للمجتمع ودخلت حتى في المناهج التربوية، وأصبح الوطن الصغير هو الهويّة التي نطوف حولها، ولم يعد هناك ما يذكّرنا بهويتنا الأصيلة سوى بعض الشعائر التي تجمعنا على عرفات الله أو حول بيته العتيق، حتى الدعاة والخطباء صاروا يروّجون لهذا المفهوم الجديد ويمنحونه الغطاء الديني تحت اسم (حب الوطن من الإيمان)، بينما يتجمع اليهود من أوطان شتى أميركية وأوروبية وآسيوية وإفريقية ليعلنوا أن ولاءهم الديني فوق ولاءاتهم الوطنية، ثم تحرّك المشروع الفارسي الإيراني ليخطف منا أبناءنا وأشقاءنا تحت عنوان (الولاء للطائفة فوق كل ولاء) وبهذا وجد له مواطئ ومراتع واسعة في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين وغيرها من بلاد المسلمين، وكل هؤلاء صاروا يتحركون بحركته ويأتمرون بأمره!
إننا باختصار ما زلنا نعيش أزمة الهويّة، فالهويّة القُطرية أو الوطنية لم تعد قادرة على حمايتنا في ظل هذه المشاريع العابرة للحدود، وفي ظل التحالفات العالمية الغربية منها والشرقية، والاعتماد على الخارج لم يعد مضمونا في ظل التغيّرات والتقلبات السياسية والاقتصادية، فالخارج ليس جمعية خيرية، ولا مركزا أمنيا يتقبل الشكاوى من المظلومين والمقهورين، إنها المصلحة والمصلحة فقط، وبما أن المصلحة تتغيّر زمانا ومكانا، فإن مواثيق الخارج ستتغيّر أيضا.
حدثني بعض من كانوا على صلة بالشيخ الباكستاني المعروف إحسان إلهي ظهير أنه التقى بصدام حسين أيام القادسية وقال له: إن الخميني نصّب نفسه إماما للشيعة في العالم، وحمل راية الحسين كذبا وزورا، وإنك لن تستطيع مواجهته تحت راية البعث، فارفع راية جدك محمد -صلى الله عليه وسلم- بصدق وعزيمة وسترى الأمة كلها تلتف حولك من باكستان إلى موريتانيا، قال الشيخ لأصحابه: لقد أحسست أن كلمتي هذه قد وقعت موقعا حسنا في قلب صدام لكنه لم يجبني بكلمة.
إن تلك الكلمة ليست كلمة الشيخ إحسان -رحمه الله- بل هي ضمير الأمة كلها، ودليله هذه الروح التي سرت في جسد الأمة مع أول لقاء (سعودي تركي باكستاني) حتى قبل أن تتضح أبعاد هذا اللقاء.
بنظرة أولية تقويميّة يمكن القول: إن باكستان دولة نووية وتمتلك طاقات بشرية هائلة، وشعبها مشبوب بعاطفة إسلامية تجعله مشدودا دائما نحو الحرمين الشريفين، وهو مستعد كامل الاستعداد للدفاع عنهما والتضحية في سبيلهما، كما أنه يشكل محورا كبيرا لشعوب القارة الهندية خاصة أفغانستان وبنجلادش، لكن النظام القائم ليس منسجما تماما مع هذه الروح الشعبية، وبالتالي فلا بد من العمل لردم هذه الفجوة والسير بطريقين متوازيين رسميا وشعبيا، وإذا كانت الشراكات السياسية والاقتصادية هي محور العلاقات الرسمية، فإن جهود العلماء ستكون محور العلاقات الشعبية.
تركيا -وهي الدولة التي ما زال طعم الخلافة فيها غضا طريا خاصة في ظل العدالة والتنمية- تمثل ثقلا آخر في المعادلة، كونها عضوا في حلف الناتو وامتلاكها لشراكات اقتصادية هائلة مع مختلف دول العالم، كما أنّ شعبها هو الآخر مشدود بتكوينه التاريخي والثقافي نحو بلاد الحرمين الشريفين، وهناك حالة من الانسجام والتوافق إلى حد ما بين الرسمي والشعبي، وهذا يجعلها أكثر استعدادا للمشاركة في بناء (المشروع الثالث) شريطة أن لا يؤثّر هذا المشروع على الاستراتيجية المركزية لتركيا ذات الطابع التنموي والاقتصادي المعروف.
أما السعودية فإنها سجّلت نقطة متقدمة على الدولتين السابقتين (باكستان وتركيا) من خلال المبادرة الكبيرة والمفاجئة (عاصفة الحزم)، إضافة لمكانتها الدينية، وقيادتها الفعلية لمجلس التعاون الخليجي، وتأثيرها الواسع في المحيط العربي، كما أنها تتمتع بانسجام تام أو شبه تام بين الرسمي والشعبي، وليس هناك معيقات دستورية أو مؤسساتية أمام أي قرار تراه القيادة مناسبا مهما كان مستوى تأثيره داخليا وخارجيا، على خلاف الوضع التركي والباكستاني.
وفق هذه الركائز الأساسية في المعادلة يبدو أننا من الممكن أن نتقدم خطوات واسعة لبناء تحالف قوي وواسع لا يحمل طبيعة استفزازية لأي أحد مهما كان، بل على العكس يمكن أن يكون عنصر جذب لشراكات سياسية واقتصادية واسعة، بما يضمن للمنطقة استقرارها وتوازنها، وبما يكفل للخارج مصالحه أيضا، أما الدول العربية والإسلامية المترددة فإنها ستأتي تباعا بعد أول نجاح واضح يحققه هذا التحالف.
إن تحرير اليمن على أهميته ليس هو نهاية المطاف وليس هو الذي يشكل هاجس الأمة؛ إذ الشعور باليأس والضياع كان قبل فاجعة صنعاء بكثير، كما أن (الربيع العربي) لم يعد يحمل أي أمل سوى لدى مجموعة من النخب التي ما زالت ترى فيه مؤشّرا على وجود طاقات كامنة قابلة للتحرّك والنهوض في ظرف ما.
إن أولى ثمار (عاصفة الحزم) أنها تمكنت من ردم بعض الفجوات بين الحراك الشعبي والنظام الرسمي، وعلى المدى القريب والمتوسّط فإننا سنشهد حالة نفسية ومعنوية لدى الشباب تقيهم من الانزلاق في مهاوي العنف الأعمى و (الجماعات التكفيريّة) التي عاشت على ذلك الفصام النكد والشعور البائس واليائس من كل شيء، أما جماعات (الإسلام السياسي) فأغلب الظن أنهم سينسجمون مع حالة الأمة وروحها الجديدة وتطلّعات شعوبهم في تحقيق الاستقرار واسترداد شيء من الكرامة والأمن والسكينة بعيدا عن الصراع الأيديولوجي الذي يسبح في عالم من (الطوباويّة) والذي لا يمكن أن يقترب من الواقع في مثل هذه الظروف حتى لو أوكلت إليهم مقاليد الأمور.
يا قادة الحزم إن شعوبكم وكل الأمة من حولكم لا ينظرون إلى هذا الحزم كأداة لدحر الميليشيات الحوثية، فالحوثيون أقل شأنا وأصغر من هذا بكثير، كما أنهم لا يطالبونكم الآن بإعادة الخلافة ولا بتحرير القدس أو دمشق وبغداد فهذا أبعد من إمكاناتكم الحاليّة وفق الموازنات الدولية والإقليمية المعروفة، إنهم لا يريدون منكم سوى أن تجتمعوا تحت خيمة واحدة لتكونوا بمجموعكم الممثل الشرعي والأمين لطموح هذه الأمة وتطلعاتها.
554 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع