د. منار الشوربجي
زيارة وزير الدفاع الأميركي لطوكيو الأسبوع الماضي جزء من سلسلة لقاءات تحمل مفارقة مهمة تتعلق بالفجوة بين الرسمي والشعبي في اليابان.
فالمباحثات المكثفة التي تجرى بين الولايات المتحدة واليابان في الفترة الحالية، تمهد كلها للقاء القمة المرتقب آخر الشهر الجاري في واشنطن، بين رئيس وزراء اليابان شينزو آبي والرئيس الأميركي أوباما. فبعد زيارة ماساهيكو كومورا، نائب رئيس الحزب الياباني الحاكم لواشنطن الشهر الماضي، تأتي زيارة أشتون كارتر لطوكيو، والتي سيتلوها منتصف الشهر اجتماع يضم وزيري خارجية ودفاع البلدين.
وجوهر المباحثات المكثفة عسكري واستراتيجي سيتم خلاله الكشف عن "إعلان المبادئ" التي تحكم تعاون البلدين. ورغم أن الإعلان يخضع للمراجعة منذ فترة ولم يعلن عنه بعد إلا أنه سيعكس بالضرورة تكريس الموقف الدولي الجديد لليابان ويمثل تحولاً جوهرياً عما انتهجته منذ الحرب العالمية الثانية.
وقد بدأ ذلك التحول في الصيف الماضي، حين أعاد الحزب الحاكم تعريف الدستور الياباني الذي فرضته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية وحظر على اليابان استخدام القوة العسكرية لحل النزاعات الدولية. فقد أصدر مجلس الوزراء الياباني وقتها قراراً أعاد تعريف دور اليابان العسكري في الخارج بما يسمح بما يسمى "الدفاع الجماعي عن النفس" ومساعدة "دولة حليفة تتعرض للخطر".
وكان القرار قد حدد شروطاً لذلك العمل العسكري أهمها تعرض الدولة اليابانية للخطر أو حرمان شعبها من التمتع بالحرية. ورغم أن رئيس الوزراء الياباني قال وقتها إن القرار لا يغير شيئاً من إحجام اليابان عن إرسال قوات عسكرية للخارج، فإن سيولة اللغة المكتوب بها القرار تسمح بالتوسع في الدور العسكري في الخارج.
والحقيقة أن تغيراً تدريجياً في موقف اليابان بدأ منذ توقيع إعلان "كلينتون- هاشيموتو" عام 1996 الذي قام بتوسيع معاهدة الدفاع الأميركية اليابانية لتشمل كل منطقة المحيط الهادي. لكن ذلك التغير ظل ملتزما بقيام القوات اليابانية بمهام غير قتالية فقط، والاضطلاع بالأساس بمهمة الدفاع عن اليابان في محيطها.
أما القرار الذي أصدرته حكومة شينزو آبي العام الماضي، فقد مثل تحولا جوهريا حيث اتسع ليشمل الدفاع عن دولة حليفة في إطار "الدفاع الجماعي عن النفس"، قال عنه كيمورا، نائب رئيس الحزب الياباني الحاكم، في زيارته الأخيرة لواشنطن إنه لا يشمل الولايات المتحدة فقط وإنما دولا أخرى حليفة وشريكة لليابان.
والحقيقة أن واشنطن تضغط في اتجاه هذا التحول الياباني منذ فترة لخدمة مصالحها ليس فقط في احتواء الصين في آسيا وإنما من أجل شراكة أكبر مع اليابان في إطار عمل جماعي حول العالم ومنها حماية الملاحة في الخليج العربي في مواجهة إيران، وهو ما كان رئيس الوزراء اليابانى قد أيده صراحة مؤكداً أهمية مضيق هرمز لمرور معظم إمدادات البترول لليابان.
وتطور العلاقات الأميركية اليابانية عسكرياً يؤدي لرفع التوتر بين اليابان وكل من الصين وكوريا الجنوبية. وقد أعلن وزير الدفاع الأميركي في زيارته لليابان صراحة التزام بلاده "بتطبيق معاهدة الأمن" الثنائية بين البلدين على جزر سينكاكو الخاضعة لحكم اليابان، في مواجهة مطالبة الصين باستردادها. فجزر سينكاكو تمثل نقطة استراتيجية مهمة بالنسبة للصين في منافستها لأميركا في الهيمنة على المنطقة.
أما كوريا الجنوبية، التي عانت طويلاً من العدوان الياباني، فقد أعلنت، هي الأخرى، عدم ارتياحها رغم أنها جزء من التحالف الأميركي نفسه. ومما يثير قلق البلدين أيضا ارتفاع النعرات القومية في اليابان مع وصول المحافظين للسلطة. وهو ما أدى لبروز خطاب سياسي عنصري تجاه كوريا والصين أثار قلق أميركا نفسها حتى إن أوباما في زيارته لليابان العام الماضي دعا للحذر وعدم الدفع نحو التصعيد في المنطقة.
لكن الأهم من هذا كله أن علاقة اليابان بأميركا فضلا عن التحول في الموقف العسكري لليابان تلقيان معارضة داخلية قوية. فالقاعدة الأميركية في أوكيناوا ظلت لسنوات مصدر رفض لدى سكان الجزيرة بل وألقت بظلالها على زيارة وزير الدفاع الأميركي. فالحكومة اليابانية قررت، بسبب الرفض الشعبي، نقل القاعدة لموقع آخر قليل السكان في الجزيرة نفسها..
وهو الذي بدأ إنشاؤه فعلا. لكن نقل القاعدة يلقى معارضة 76% من سكان الجزيرة، فضلاً عن حاكم الجزيرة الذي فاز في الانتخابات بناء على تعهد بوقف إنشاء القاعدة الجديدة، وهو ما قام به فعلا بمجرد توليه. لكن الحكومة اليابانية ألغت قرار حاكم الجزيرة وحذرت من أن وقف الإنشاء معناه الإبقاء على القاعدة الأصلية.
أما التحوّل في الموقف العسكري لليابان عموما، فيحظى بتراجع في شعبيته المحدودة أصلا. فحين أعلن قرار مجلس الوزراء العام الماضي، كانت استطلاعات الرأي تشير، حسب صحيفة جابان تايمز، إلى أن 29% فقط من اليابانيين هم الذين يوافقون على دور عسكري لليابان في الخارج. وهو ما انخفض هذا العام حسب الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة بيو الأميركية عشية زيارة وزير الدفاع الأميركي الأسبوع الماضي لليابان. فقد اتضح انخفاض نسبة التأييد تلك بين اليابانيين إلى 23% فقط.
ولأن حكومة شينزو آبي باقية حتى العام 2018، فإن هذه الفجوة بين الرسمي والشعبي في اليابان لن تحسمها على الأرجح سوى وقائع أو أزمات يتضح من خلالها على مستوى الفعل معنى الدور الياباني العسكري الجديد في العالم.
1045 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع