د. تارا إبراهيم - باريس
لفت نظري في احدى الصباحات وعلى التلفزيون الفرنسي الذي يبث برامجه الموجهة للاطفال من السابعة الى التاسعة ان فاصلا اعلانيا غريبا تم بثه مابين البرامج وافلام الكارتون، فاصل يتكلم عن الجهاديين الداعشيين او بالاحرى عن الارهابيين، تم فيه تعريفهم بانهم اناس يرفضون ان يخالفهم أي شخص في الرأي. الامر بدا لي غريبا لوهلة كونها المرة الاولى التي تتحدث فيها فرنسا علانية مع الاطفال عن الارهاب.
السبب الاول الذي دعا فرنسا الى ذلك هواحداث شارلي التي اثارت الكثير من الاسئلة لدى الاطفال وحتى أصغرهم سنا، بل ان الكثيرين من الاطفال شاركوا في المسيرة الجماهيرية التي نظمت للتنديد بالارهاب والاعراب عن مساندتهم لحرية الصحافة والصحفيين، والسبب الثاني يعود الى الصدمة التي شعر بها المعلمون والمدرسون في فرنسا بل واحسوا بالذنب كونهم لم يصدقوا ان من قام باحداث العمليات الارهابية الاخيرة هم طلاب كانوا من خريجي المدارس العلمانية التي هي مركز فخر فرنسا واعتزازها.
الموقف كان محرجا جدا، حيث اثارجدلا واسعا بين الاساتذة والطلاب وخصوصا في االمدارس التي تتواجد في اماكن تعيش فيهاغالبية مسلمة، وبين الاجيال المختلفة في العائلة الواحدة وكذلك بين شرائح وطوائف المجتمع ، فعلى سبيل المثال تم رمي آذان الخنازير في بيوت المسلمين وتسميتهم في البلاد باسماء الارهابيين الثلاثة المسؤولين عن احداث شارلي.. وكذلك العبث وتدنيس قبور اليهود..الخ من الامور التي لاتنم الا عن حقد وتعصب ديني وعن بداية فقدان التسامح بين فئات المجتمع متعدد الاديان والطوائف.
لذا ففرنسا تحاول اليوم إعادة النظر في درس من الدروس التي تعتبرها مهمة جدا في تعميق مفهموم العلمانية ومبادىء الجمهورية في نفوس الطلاب منذ نعومة اظفارهم، وهو درس يسمى "التعليم المدني القانوني الاجتماعي"، من خلاله تحرص المدارس على تعليم الطلاب كيفية التعايش المشترك على اسس وقيم واهداف الجمهورية من الحرية والمساواة والاخوة. هذا الدرس يشرح واجبات وحقوق المواطن الفرنسي والاجنبي على الارض الفرنسية ويشرح للطلاب مفهوم المواطنة والقانون المدني العام والاداري ودور العدالة في المجتمع الديمقراطي ويتم شرح امثلة حية عليها من خلال الاحداث التي تقع في البلاد ، وهو درس يعتمد في الوقت نفسه على الحوار والمناقشة والتعبير عن وجهة النظربكل حرية من قبل الطلاب والاساتذة .
يختلف محتوى الدرس من مرحلة الى اخرى من مراحل الدراسة، اعتمادا على عمر الطالب واستيعابه، حيث تتم مناقشة الطلاب حول مواضيع تتعلق بالمجتمع من التقدم العلمي والتقني والاجتماعي والثقافي وكل القضايا التي تمس حياة كل انسان من بداية حياته الى نهايتها مثل قانون العائلة والتعصب العرقي والديني والاخلاقيات والقضايا السياسية، ومن بين القضايا السائدة هذه الايام والتي تناقش في الصف مع الطلاب هي "هل يستطيع الشخص ان يقرر نهاية حياته فيما اذا عرف انه مريض ومرضه ليس له علاج ؟"
هذه الدروس في القضايا آنفة الذكرلا تعلم الطلاب حرية التعبير عن الرأي بطريقة مدنية ودون المساس بكرامة المقابل وحسب، بل هو درس يمنحه معلومات مفيدة تنظم حياته في المجتمع وجعله يتأقلم مع الرأي الآخر على اختلاف الافكار والاعراق والاديان، بل ويعلمه تقبل واحترام الآخرين ضمن مفاهيم الحياة وقوانين المجتمع المدني. ولكن الغريب، رغم جهود فرنسا المضنية لتهيئة جيل مدني متفتح الذهن والعقل الا انها فشلت في تهيئة البعض منهم ، وعليها منذ الان ان تعيد النظر في برامجها التربوية. فبعد احداث شارلي تم رصد 200 حالة في مدارس فرنسا لطلاب امتنعوا عن الوقوف في لحظة صمت حدادا على ارواح ضحايا الحادثة ، بل اعلن هؤلاء الطلاب تأييدهم وبكل وضوح للارهابيين الذين قتلوا صحفيي شارلي ايبدو.لذا فالمسؤولية اليوم اصبحت كبيرة على عاتق المدرسين بل وعلى وزارة التعليم نفسها ضمان برنامج تربوي هادف، يساهم في معالجة الوضع الجديد الذي لاتعيشه فرنسا فقط بل العالم باجمعه.
737 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع