عبدالوهاب القصاب
تفاجئنا داعش، كل يوم، بتطور لم يكن في حسبان مراقبي الموقف الذين ينطلقون من تحليلاتهم من منطلق تقليدي، متناسين أن داعش نفسها حالة غير تقليدية، تفوقت، في أدائها واختيارها أهدافها، حتى على نفسها، ناهيك عن سابقتها القاعدة، أو أي من التنظيمات التي تدعو نفسها "جهادية". هنا، يكمن سر بروز داعش على واجهة الأحداث، في كل مرة يتصور الكل أنها انتهت أو تراجعت، أو هزمت، إلى غير ذلك من تعابير لم تكن، في حقيقة أمرها، إلا أمنيات.
بعد معركة تكريت، بدأ الجميع يتحدث أن داعش تحولت إلى الدفاع، وهو موقف سيفرض عليها التراجع، وبدأوا يعدون الخطط لاجتثاثها مما تبقى من أرض العراق الذي تسيطر على ما يقرب من نصف مساحته وجوداً أو تسلطاً. وكان الدرس المستنبط الأول في المعركة هو هزيمة الأساليب العسكرية الإيرانية، التي قادها وطبقها قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، وكانت نتيجتها إلحاق خسائر كثيرة بقياداته، إذ قتل في معركة تكريت ضباط إيرانيون برتبة عقيد وعميد (جنرال) أعلنت طهران عن مقتلهم، وشيّعتهم رسمياً. هنا، هُزمت تكتيكات إيران القتالية اللامتناظرة، للمرة الثانية على أرض العراق، بعد أن هُزمت، المرة الأولى، إبان الحرب العراقية الإيرانية. وليس أدل على ذلك من أن قاسم سليماني جمع قواته واختفى من المشهد. بعد ذلك، تولى التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ضرب القشرة القوية المدافعة عن تكريت بقنابل العصف، وهي التي سبق استخدامها لحسم معركة مطار صدام الدولي في بغداد، إبان الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
وكنت قد أشرتُ، في مقالة سابقة في "العربي الجديد"، إلى أن معركة تكريت لن يحسمها إلا التدخل الجوي للتحالف وقد حصل. والدرس المستنبط الثاني أن داعش لم تترك تكريت بعد انسحابها منها، بل استمرت بالهجوم والضغط، مظهرة للعالم بشاعة ما قامت به المليشيات الشيعية التي شهد عليها كل منصف، ومنهم مراسل "رويترز" الذي هددته المليشيات بالتصفية، فاضطر إلى أن يترك العراق. في تكريت، أيضاً، ضربت داعش ضربة موجعة في مصفى بيجي، وتمكنت من السيطرة عليه فترة، وعطلته بتفجير خزانات ووحدات فيه، ومصفى بيجي من أهم وحدات التكرير في العراق، إن لم يكن أهمها. وعلى الرغم من خروج مقاتلي داعش من محيط المصفى، بعد أن حققوا هدفهم، لم يذهبوا بعيداً، بل تحصنوا في معهد التدريب النفطي الواقع خارج سياج المصفى. نستنتج من عملية داعش هذه إصرارها على الاشتباك بقوات الحكومة، وتوجيه ضربات موجعة في أماكن تختارها هي. في المقابل، نجد أن الحكومة تستجيب، في رد فعل لما تبادر به داعش، التي تقرر هي وقت الضربة ومكانها واتجاهها.
وتكمن أهمية معركة الرمادي في أنها دليل واضح على أن تنظيم داعش لا يزال قادراً على الحسم، في المكان الذي يختاره، وقادراً على المناورة، وبسرعة ومرونة، على مجمل الأرض التي يوجد فيها، من دون أن يتمكن، لا طيران التحالف، ولا القوات الحكومية من التدخل في مناوراته. ولعل الملفت للانتباه أننا لم نسمع بيانا يشير إلى التدخل، لا من التحالف، ولا من الحكومة وقواتها ومليشياتها، مما يثبت قدرة داعش على المناورة وبقوات كبيرة. وقد تكون مبادرة داعش بالهجوم على الرمادي رداً استباقياً لما بدأت وسائل الإعلام الحكومية، وكذلك مسؤولوها الأمنيون، التصريح به من أن الأنبار هي المحطة الثانية للتحرير بعد تكريت.
في عموم محافظة الأنبار، تمكنت داعش من فرض سيطرتها من المعبر الحدودي العراقي السوري في القائم – البوكمال، وحتى ضواحي بغداد. وبالنسبة للرمادي عاصمة المحافظة، تقاسمت داعش والقوات الحكومية والصحوات السيطرة عليها، لكن داعش كانت تتدخل، وبقسوة، في مرات متكررة وتلحق بالقوات الحكومية والصحوات خسائر كبيرة، من دون أن تحسم معركتها، وتسيطر على الرمادي.
تكمن أهمية الرمادي في عنصرين، استراتيجي ومعنوي. وينصرف المعنوي إلى أن الرمادي عاصمة أكبر محافظة عراقية، تزيد مساحتها على ثلث مساحة العراق، وتحادد ثلاثة أقطار عربية مجاورة. كما أن هذه المدينة مجربة في أنها لن تستكين للضيم، وأن أبناءها مقاتلون صعبو المراس، فتكفينا الإشارة إلى أن أبناء هذه المحافظة هم من هزم القاعدة عام 2008، بعد فشل الحكومة والأميركيين في ذلك فشلاً ذريعاً. قد يكون من المعقول لو تصرفت هذه الحكومة بحكمة، ولو تخلت عن طائفيتها، وعن انصياعها لرغبات إيران والمليشيات الطائفية المرتبطة بها، وأعطت أبناء المحافظات الست حقوقهم الدستورية المشروعة، لاصطف كل أهالي الأنبار دفاعاً عن محافظتهم ضد الأغراب، ولسحبوا تأييدهم أو حيادهم حيال داعش. لكن حماقة أجهزة السلطة، وحقد المليشيات الشيعية على أبناء المحافظة، أجبرت الأهالي على التصرف بشكل آخر، ستدفع الحكومة وقواتها ثمنه، حيث إن ما جرى في ديالى والدور وتكريت لن يمّحي من الذاكرة بسهولة. من هنا، أصر حتى حلفاء الحكومة على عدم دخول "الحشد الشعبي" إلى محافظتهم.
من ناحية أخرى، تكمن الأهمية الاستراتيجية في أن هذه المحافظة تسيطر على مشاريع إدارة نهر الفرات، فمن سد حديثة في أعالي الفرات، إلى مشروع الورار المغذي لبحيرة الحبانية، إلى مشروع الذبان الذي يعيد المياه إلى الفرات، ناهيك عن ذراعي دجلة والفرات اللذين يوازنان مناسيب دجلة والفرات، مما يجعل من سقوط المدينة بيد داعش كارثة استراتيجية كبرى تلحق بالحكومة، ذلك أنه سيكون في وسع داعش التحكم بمياه نهر الفرات، في توجهه جنوباً باتجاه المحافظات العراقية الجنوبية، ذات الأغلبية العربية الشيعية.
تكتيكات الإغراق هي إحدى الوسائل التي لجأت إليها كل من العراق وإيران، إبّان الحرب العراقية الإيرانية، باستخدامها موانع دفاعية أمام القطعات، أو لتقصير جبهة لمواجهة أو لتمديدها. ويشير استخدام المياه في بداية تهديد داعش بغداد بعد سقوط الموصل إلى توفر الخبرة التعبوية في استخدام المياه عسكرياً، مما سيكون له أثر خطيراً على الأرض، إلا أن تنفيذ داعش هذه العملية يقتضي منها التمسك بالأرض بقوة، لأجل إتاحة المجال والمدى الزمني اللازمين، لتنفيذ عملية معقدة بهذا المستوى تتطلب معرفة جيدة بطوبوغرافية الأرض، وخطوط تقسيم المياه، وغير ذلك من فنون الاستحكامات والنسف والتخريب.
وما يبدو من تحليل ما جرى، منذ معارك تكريت، أن داعش ستلجأ بين حين وآخر إلى شن تعرض بقوة يكون هدفه إثبات الذات بالوجود في مناطق ترى فيها أهدافاً مشروعة لها، واستنزاف قوات الحكومة، والاستباق، في كل مرة، تبدو هنالك مؤشرات على عمل تعرضي للحكومة، فيكون استباق داعش هو إجهاض العمل التعرضي، وتدمير القوات التي خصصت للقيام به. ومن الأهداف أيضاً تعريض معنويات قوات الحكومة وتوابعها المحليين للخطر والتأثير على معنوياتهم، وتشير الدلائل إلى وجود تباين واضح في وجهات النظر ضمن القيادات المتعاونة مع الحكومة في مجتمع الرمادي المحلي. وتعد ظاهرة النزوح حالة تلقي بثقلها على عاتق الحكومة وتحرجها، بل قد تقود إلى الانقسام في داخلها، فالكراهية المستحكمة في نفوس القادة الطائفيين في السلطة، حيال أهل الأنبار، منعت النازحين من الدخول إلى بغداد إلا بكفيل، وهو أمر مستغرب، جعل العرب السنة يشعرون بمزيد من الإهانة من الحكومة. ومن أهداف داعش كذلك إلحاق الهزيمة بأكبر عدد من قوات الحكومة العراقية، للتأثير على معنويات القوات المعدة للتعرض المقبل.
وفي التقييم، ستكون كل عمليات داعش، في هذه المرحلة، من أنواع قتال المهارشة الذي يهدف إلى تحقيق ما سبق وأشرنا إليه، وإنها لن تكون تواقة لمسك الأرض في هذه المرحلة، خشية استهدافها من طيران التحالف، من دون أن يعني ذلك التخلي عن التمسك بالأرض نهائياً. سيتم التمسك بالأرض، حينما تقرر داعش تطوير أهدافها في اتجاه بغداد.
1023 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع