د. محمد عياش الكبيسي
في مشهد صارخ من مسلسل المأساة، عشرات الآلاف من الناس يزدحمون على (حدود بغداد) مهاجرين أو مهجّرين، لاجئين أو نازحين، لم تعد هذه الأسماء ذات قيمة في (العراق الجديد)! خاصة بعد أن رفضت بغداد استقبالهم دون كفيل! في سابقة لم تجرؤ عليها حكومة في العالم غير حكومة بغداد، مع أنهم عراقيون قدموا إلى عاصمتهم وهرعوا إليها بعد أن فشلت هذه الحكومة في حمايتهم وحماية محافظتهم.
في الجانب الآخر يتساءل الناس: لماذا لجأ أهل الأنبار إلى بغداد مع أنهم يعرفون حكومتها حق المعرفة ويعرفون كذلك طبيعة الميليشيات والأجهزة الأمنية المتحكمة فيها؟ أي شرّ خلّفوه وراءهم بحيث تصبح بغداد ملجأ ومأوى لهم؟! هل تكفي هنا علامة استفهام واحدة؟ أو أننا بحاجة إلى (غابة من علامات الاستفهام) كما يقول صديقنا الشاعر خضير بن عمير؟
هناك في الأنبار (دولة البغدادي) تمتدّ على مساحة واسعة من أرض العراق وسوريا تشكل بمجموعها مساحة أكبر من (دولة العبادي)! وقد نصّب البغدادي نفسه خليفة للمسلمين، ومدافعا عن أهل السنّة المظلومين، بوجه الأميركان (الصليبيين) والكرد (العلمانيين) والشيعة (الصفويين)! لكن أهل السنّة يهربون من خلافته ودولته إلى كل هؤلاء الذين يحاربهم باسمهم، فقوائم اللجوء على مكاتب الأمم المتحدة وسفارات الدول (الصليبية) ليس لها حصر، وعدد اللاجئين إلى إقليم كردستان بلغ مئات الآلاف وكلهم من المناطق السنّية الخاضعة لخلافته! واليوم يطرق العشرات من الآلاف باب (الصفويين) في بغداد في هجرة جماعية لم تكن تدور في مخيلة أحد!
أيام المالكي وقفت (العمائم البيضاء) على منصات الاعتصام لعام كامل تندد بظلم المالكي وتطالب بحقوق السنّة، فهل تتمكن هذه العمائم اليوم أن تقف ساعة واحدة في الموصل (المحررة) أو هيت أو الفلوجة لكي تندد بالعبادي وليس بالبغدادي؟
أيام المالكي تمكن الشيخ عبدالملك السعدي أن يتوجه من الأردن إلى الرمادي ليلقي كلمته وسط الألوف من أهل السنّة ثم يرجع إلى الأردن سالما غانما، فهل يستطيع اليوم أن يكرر هذه التجربة في أي مدينة أو قرية خاضعة لسلطة البغدادي؟ وبالتأكيد ليس معنى هذا أن المالكي أو العبادي أرحم بأهل السنّة من البغدادي، فهذا لا يقوله عاقل، لكنّها الأدوار المرسومة بحسب طبيعة السيناريو زمانا ومكانا.
إن أهل السنّة في العراق يدركون أن هذه المعركة ليست معركتهم، بل هي معركة تدور عليهم من أجل استئصالهم ومحو هويّتهم مهما اختلفت أدواتها، إنها مرسومة بحدود لا يمكن للبغدادي ولا للعبادي أن يتعداها، وأياً ما كان الجدل حول هذه الحدود ومن رسمها فإن معطيات الأرض تثبت أن هناك مناطق محددة بالفعل قد وضعت تحت مشروع الحرق والتدمير الشامل، وهي المنطقة الممتدة من الأنبار والموصل شرقا إلى حمص وحلب غربا ومن كوباني والحدود التركية شمالا حتى الرمادي وحدودها مع كربلاء جنوبا.
إن مشروع التدمير الشامل هذا يقتضي تسهيل عملية دخول (داعش) إلى أي مدينة تقع ضمن هذه الخارطة كما حصل في الفلوجة والموصل وتكريت وهيت وعنه وراوة وكبيسة والقائم، عدا نقاط التحكم المعروفة كقاعدة الحبانيّة وقاعدة البغدادي العسكريتين والسدّين اللذين يتحكمان بمياه العراق سدّ الموصل على نهر دجلة وسد حديثة على نهر الفرات.
البغدادي وهو من مدينة سامراء لم يفكّر بفتح سامراء ولم يجرؤ على ذلك وهي مدينة سنّية وقريبة من تكريت وتقع تحت وطأة الميليشيات الشيعية بشكل مباشر، وتتعرّض لعملية تشييع منهجي ومستمر، لكنه اتجه إلى الفلوجة التي لم يكن فيها شيعي واحد، بل كانت تحت سلطة محلية سنّية بالكامل، فمن الذي فتح له الطريق إلى الفلوجة وسدّ عنه الطريق إلى سامراء؟
الفلوجة اليوم تتعرّض للهاونات والبراميل المتفجرة، وقد خلت من أهلها إلا القليل ممن لا حول لهم ولا قوّة، وهي مقبلة على كارثة أكبر -لا قدّر الله- في حال حصول مواجهة مفتوحة مع الحكومة وميليشياتها وبغطاء جوي من قوات التحالف، إنها ستكون أشبه بالأرض المحروقة سواء كانت تحت حكم العبادي أو تحت حكم البغدادي، وما يقال عن الفلوجة يقال أيضا عن الموصل وكل المدن السنّية الأخرى، فهل كان البغدادي يجهل كل هذا مع أنه شاهد بأم عينيه ما سبّبه هو لمدينة كوباني (السنّية) التي أصبحت كأنها أثر بعد عين؟
لقد خاضت المقاومة العراقية حربا ضروسا مع الجيش الأميركي ولسنوات طويلة دون أن تعرّض مدنها إلى مثل هذا الدمار، فقد كانت المقاومة تعتمد أسلوب الكر والفر وضرب الطرق الخارجية والمعسكرات البعيدة ولا تحتفظ بالأرض مع قدرتها في الكثير من الأحيان على ذلك.
أما حكومة بغداد وهي الطرف الثاني في المعادلة والشريك الفاعل في صناعة المأساة فعليها أن تفسّر لنا سرّ قوتها في سامراء، وصمود جنودها الأسطوري في ديالى وجرف الصخر وأبي غريب وغيرها، بينما تنهار فرقها وألويتها العسكرية الكبيرة في الموصل وكل المناطق الغربية والمعابر الحدودية مع سوريا وبدون مواجهة أصلا؟ ثم ما سرّ هذه القدرة على الاحتفاظ بمدينة الرمادي طيلة السنوات الماضية حتى جاء اليوم الذي أعلن فيه أهل الرمادي رفضهم لدخول الحشد الشيعي فانسحبت السيطرات وانهارت المعسكرات؟
من الواضح هنا أن أهل السنّة يُراد لهم أن يكونوا بين خيارين اثنين لا ثالث لهما: إما القبول بداعش ليكونوا بعدها في حرب مفتوحة مع العالم كلّه حتى الأردن والسعودية وتركيا وكردستان، وهذا معناه المحق الذي ما بعده محق والدمار الذي ما بعده دمار، وإما القبول بهيمنة ميليشيات قاسم سليماني تحت اسم (الحشد الشعبي) ليكون العراق كله تحت وصاية الولي الفقيه عراقا شيعيا صفويا فارسيا لا صلة له بعروبة ولا بإسلام.
ومن الواضح أيضا أن السنّة قد رفضوا الخيارين معا وبنفس القوّة، وليس أمامهم بعد هذا إلا بناء مشروعهم الذاتي برؤية جديدة ووجوه جديدة تتجاوز كل إشكالات الماضي وتعقيداته، وهذا يحتاج إلى دعم مباشر وكبير من أشقائهم العرب والمسلمين، ليس دعم الزكاة والصدقة، بل دعم المساهمة الجادة في بناء المشروع ذاته
935 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع