أ.د. محمد الدعمي
” .. إذا كان بعيدو النظر من رجال الدولة أكثر وعياً من سواهم في رقة المثقف وحساسيته المرهفة، فرداً تأملياً، فانهم غالباً مايعمدون الى تكريم المثقف، طالما التزام الأخير “حدود اللياقة” في دواخل فضائه، بمعنى عدم تجاوز الخطوط الحمراء التي قد تنقله الى فضاء “اللون الأحمر” المدمر لذاته وربما لذهنه الوقاد.”
تشوب العلاقة بين المثقف ورجل الدولة “طبقات” من التعقيدات النفسية والوظيفية التي غالباً ماتكون بواعثها هي حدود الدور الذي يسمح به رجل الدولة للمثقف بلعبه: يمكن أن يعد رجل الدولة المثقف إنساناً ذا أهمية ثانوية بقدر تعلق الأمر بقضايا وهموم إدارة الدولة ذات المعيار الثقيل. لذا تجد بعض رجال الدولة في عالمنا العربي والإسلامي يكتفون بدفع المثقف نحو صنف الفنون سوية مع الأدباء والفنانين، على أنواعهم واختلاف وأهدافهم. رجل الدولة يريد هذا النوع من التصنيف كي تتيسر لديه عملية الإدارة: فكما أن هناك وزارة للزراعة تعتني بشؤون الزراعة من الألف الى الياء، يمكن أن تدفع شؤون الثقافة الى وزارة عامة شاملة، تشمل الجميع، من الفلاسفة الى النحاتين ومصممي الأزياء. في هذه المعيارية يشعر المثقف بالغبن، نظراً لتضخم ذاته.
هذا المدخل المبتسر يستفز المثقف، لأنه، للأسف، يرى نفسه مرتبة أعلى من أصحاب الفنون التشكيلية أو الدرامية أو “الإيقاعية”. هو دائماً ما يكون من الأفراد المفرطين في ذاتيتهم وفي تضخم عقولهم، درجة أن الشاعر الإنجليزي شيلي Shelley تناهى في رأيه بالشعراء حد عدهم مشرعي العالم الحقيقيين. رأي شيلي هذا هو الذي يؤهل المثقف لأن يزعم بأن دوره الإجتماعي هو دور “قيادي”. ولفظ “قيادي” هذا هو الذي يستفز رجل الدولة لأن الأخير يرنو لأن يحصر شؤون “القيادة” بنفسه فقط، فلا يقبل أن يشاركه بها سواه. أما إذا تجاوز المثقف حدود الدور المسموح له بلعبة في مهاده الإجتماعي، فعليه أن يتذكر بأنه إنما يلامس سلطة رجل الدولة أو عرينه. ولأن رجل الدولة يخص المثقف بدور أدنى أهمية من دور قيادة البلاد والمجتمع، فانه يعمد الى تنبيه المثقف إذا ما إنزلق خارج فضائه نحو فضاء الدولة وسياساتها العامة: هو يطلق التنبيه باللون الأصفر ويتعمد أن يُري المثقف ثمة “ضوء احمر” في انتظاره إن أوغل في تشبثاته الفردية.
وإذا كان بعيدو النظر من رجال الدولة أكثر وعياً من سواهم في رقة المثقف وحساسيته المرهفة، فرداً تأملياً، فانهم غالباً مايعمدون الى تكريم المثقف، طالما التزام الأخير “حدود اللياقة” في دواخل فضائه، بمعنى عدم تجاوز الخطوط الحمراء التي قد تنقله الى فضاء “اللون الأحمر” المدمر لذاته وربما لذهنه الوقاد. حتى عندما يكرم رجل الدولة المثقف، فانه يعد عطاءه للأخير شيئاً من جهد رسم صورة ذاتية، صورة لرجل دولة تزدهر الثقافة تحت جناحيه. على عكس قصار النظر من رجال الدولة الذين لا يمانعون من إصدار أوامر الاعتقال والنفي أو الرمي بالسجون لمن لا يحتسب من أصحاب الأقلام العصيين على الإذعان لإرادة رجل الدولة باعتبارها الإرادة العاكسة لإرادة المصلحة العامة.
ومن ناحية أخرى، يشعر المثقف بالاستفزاز عندما يذهب الى حانوت الصحف القريب من منزله ليكتشف أن رجل الدولة قد “أمم” الدور الاجتماعي للمثقف من خلال تجاوز فضائه الى فضاء المثقف، عن طريق إصدار كتاب ثقافي أو قصة قصيرة أو مجموعة شعرية كما فعل الرئيس السابق صدام حسين عندما فاجأ العالم بنشر قصة رومانسية. هنا يتجسد الضغط النفسي للمثقف المنعكس في شكواه من أن هناك من يغزو فضائه الخاص. وهذه كذلك من مثالب المثقف لأنه يعتقد أنه هو وحده المؤهل لإطلاق الإعلانات الثقافية المهمة، أما سواه، فلا ينبغي أن “يعبث” مع الشعر أو الفلسفة أو النقد الاجتماعي، نثراً أو قصاً أو نظماً.
ثمة آصرة بين الاثنين، برغم تعقيداتها المذكورة أعلاه، قابلة للشد والجذب منذ بداية تشكل الدولة وظهور محترفي إدارتها، سوية مع ظهور كاتبي النصوص والمتكلمين والمعبرين عن أعماق النفس الآدمية
701 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع